بين القيادة الشجاعة والزعامة الجوفاء

لم يكن نبأ وفاة فريديريك دي كليرك الرئيس الأبيض الأخير لجنوب أفريقيا حاضرًا في المشهد الإعلاميّ، وهو من كانت له الشجاعة الكافية والجرأة التامة، لإنهاء عهد التفرقة العنصريّة في جنوب أفريقيا بعد قرون طويلة. وللأسف، لم ينتبه لهذا النبأ الكثيرون، كما أنّه لم يثر اهتمامهم.

18.11.2021 מאת: المحامي زكي كمال
بين القيادة الشجاعة والزعامة الجوفاء

 

وللغرابة البالغة، لم يكن مثار متابعة إعلامية وصحفية، أو حتى سياسيّة سواء في بلده أو في العالم عامّة، في حالة غريبة تؤكّد أمرين أوّلهما أنّ العالم  عامّة، ودول منطقتنا خاصّة، لم يعد يعترف أو يقدّر أولئك القادة – وهم ليسوا مجرّد زعماء- الذين يعملون بشجاعة لمصلحة شعوبهم، ثمّ يختفون بعد أن يحقّقوا أكبر الإنجازات انطلاقًا من مصلحة شعوبهم، بعكس الواقع السياسيّ الحديث الذي تسيطر عليه وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتحكمه الرغبة السطحيّة في السيطرة والتمسّك بالحكم، ورغبة  الشهرة وجني الإعجاب واللايكات، وثانيهما أنّ العالم القديم الذي اعتدنا فيه رفع راية أولئك الذين ناضلوا من أجل حريّة الشعوب، وعملوا لضمانها وضحّوا بمستقبلهم السياسيّ والشخصيّ من أجلها  ذهب كما يبدو إلى غير رجعة. إنّ مبادئ دي كليرك القياديّة التي دفعته إلى إنهاء عهد التفرقة العنصريّة، وفي مقدّمتها إيمانه أنّ احتلال الشعوب لا يدوم، وأنّ دولة تقوم على اضطهاد شعب آخر وحرمانه من أبسط حقوقه وتجريده من إنسانيّته، بل تجاهلها على الإطلاق وفق مبدأ الفوقيّة العرقيّ أو الفوقيّةالدينيّة، هي دولة لن تدوم عافيتها الأخلاقيّة والقيميّة والسياسيّة. هذه المبادئ لم يصل أثرها بعض الدول في منطقتنا ولم يصل حكومات بلادنا.

 

إنّ إنهاء التفرقة العنصريّة في جنوب أفريقيا وتزامنًا معها إنهاء عهد الاتّحاد السوفييتيّ، وتحرير شعوب ودول من نير حكم موسكو وحزبها الشيوعيّ، وربّما التحرّكات التي كانت في بدايتها لسلام إسرائيليّ فلسطينيّ مطلع تسعينيّات القرن الماضي، إنما كانت آخر النسمات العليلة لحريّة الشعوب وتحريرها، ليدخل العالم بعده عصرًا من القمع وسيطرة القوّة، وتجذير التوجّهات المتديّنة المتزّمتة في الشرق خاصّة، وبما في ذلك إسرائيل، ونهاية عصر كانت فيه قيادات شجاعة وحكيمة، وبداية عصر تحكم الدول زعامات.. وشتّان ما بين الثرى والثريّا.

 

لم يكن دي كليرك، الذي تعرّفت عليه شخصيًّا، من أجل الشفافيّة، في زيارته للبلاد سنة 2003، والذي تولّى منصب الرئاسة عام 1989، كآخر رئيس أبيض لجنوب أفريقيا فحسب، بل كان أشجعهم موقفًا وأوضحهم رؤية، وأكثرهم قيادة وحنكة، وأقدرهم على الاعتراف بالغبن التاريخيّ من جهة، والاعتراف بأنّه لا دوام للاستبداد والظلم والعنصريّة، إذ أعلن خلال خطابه في الثاني من شباط 1990 أمام البرلمان الأبيض في جنوب أفريقيا وضع دستور ديمقراطيّ جديد، ورفع الحظر المفروض عن الأحزاب السياسيّة المعارضة، ومنها حزب المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ، وأعلن الإفراج عن جميع السجناء السياسيّين، ومنهم نلسون مانديلا، معلنًا عمليًّا نهاية حكم الأقليّة البيضاء في جنوب أفريقيا بعد 300 عام من بدايته، وهي النهاية التي تحوّلت إلى واقع تاريخيّ في العاشر من  أيار 1994 عبر تنصيب نيلسون منديلا أوّل زعيم أفريقيّ للبلاد،  مع الإشارة إلى أنّ موقف دي كليرك لم يكن مصدره الضعف والهوان، بل الشجاعة التامّة والرؤية التاريخيّة الواضحة التي تقف على أرضيّة صلبة قوامها فهم سير الأحداث، وملخصها أنّه لا يمكن لدولة أيًّا كانت أن تعيش على حدّ السيف  أبد الدهر، وأنّه لا يمكن لدولة أن تنمو، وأن تزدهر، وأن تنعم بالأمن والسلام الداخليّ اجتماعيًّا وسياسيًّا وقضائيًّا طالما هي تحتل جسديًّا أو سياسيًّا  أو فكريًّا دولة أخرى أو شعبًا آخر، أو طالما كانت الأغلبيّة فيها مسلوبة الكرامة والحقوق المدنيّة والسياسيّة والحزبيّة والاقتصاديّة .

 

هذا ما سمعته من فريدريك دي كليرك خصّيصًا خلال زيارة قام بها إلى البلاد مع رئيس أندونيسيا السابق الدكتور عبد الرحمن وحيد، والرئيس الأخير للاتّحاد السوفييتيّ ميخائيل غورباتشوف، ضمن نشاطات مركز الحوار الاستراتيجيّ الذي كنت أحد مؤسّسيه في حزيران عام 2003. وردًّا على سؤال منّي حول كيفيّة اتّخاذ قراره المتعلّق بإطلاق سراح نلسون مانديلا المناضل طيلة قرون ضدّ التفرقة العنصريّة، رغم معرفته التامّة بأنّ مانديلا سينتخب فور إطلاق سراحه رئيسًا للدولة، أجاب أنّ قراره كان تاريخيًّا ينبع من إيمانه بأنّ لا دوام ولا بقاء لأيّ نظام عنصريّ، وأنّ الأنظمة الظالمة والمظلمة لن تبقى على عروشها، لأنّ الإنسان خلق ليحظى بالحريّة والكرامة والحقوق التامّة في التعليم والثقافة، وهو ما أكّده رئيس أندونيسيا عبد الرحمن وحيد الذي تحدّث اللغة العربيّة بطلاقة، في بيتي المتواضع، مستشهدًا بدراسته الجامعيّة في بغداد في عصرها الذهبيّ ثقافيًّا وأكاديميًّا وإنسانيًّا، وقد أكّد أنّ الشعوب لا بدّ أن تحصل على استقلالها وحقوقها، آجلًا أم عاجلًا، وأنّ التربية والتعليم والمساواة هما عماد الأمم والشعوب.

 

لم يكن الموت هو بداية غياب فريدريك دي كليرك، المحامي والسياسيّ المخضرم، بل إنه غاب عن الأنظار وعن الساحة السياسيّة لثلاثة عقود بمحض إرادته، إضافة إلى تغييب الآخرون له، إذ تجاهل البيض والسود على حدّ سواء دوره في بناء جنوب أفريقيا الحديثة والعبور بها إلى برّ الأمان، وهو ما أهَّلَّه للحصول مع نلسون مانديلا على جائزة نوبل للسلام عام 1993، علمًا أنّه كان قد أشاد بالشراكة مع مانديلا قائلًا:" من دون مانديلا لم يكن ليحدث ما حدث بشكل سلميّ. كنّا محظوظين بأنّ لدينا هذه القامة الشامخة، بسعة أفقه ونزاهته ليتبوّأ رئاسة النظام الجديد"، إضافة إلى أنّه كان قد صرَّح لصحيفة "صنداي تايمز" بأنّه لم يقم بهذه الخطوة خوفًا من العقوبات، وإنّما لكون التاريخ حطّ رحاله في جنوب أفريقيا ليؤذن ببدء حقبة العدالة والإنصاف والمساواة بين الجميع"، وهو ما حدث أيضًا مع ميخائيل غورباتشوف وعبد الرحمن وحيد اللذين لعبا دورًا تاريخيًّا واتّخذا قرارات شجاعة غيَّرت مجرى التاريخ استنادًا إلى ايمانهما المطلق أنّ ذلك لمصلحة شعوبهم ودولهم.

 

لم أكتب ما سبق لمجرّد الكتابة، أو سرد الوقائع التاريخيّة العامّة والشخصيّة، بل لأن دي كليرك كان كما يبدو نهاية سلسلة ومجموعة من القادة التاريخيّين الذين اتّخذوا قرارات شجاعة غيّرت مجرى الأحداث انطلاقًا من توصّلهم إلى الاستنتاج الحتميّ أنّه لا بدّ لليل أن ينجلي، وأنّ للاحتلال والظلم حتى لو وقع على الآخرين، تبعات وتأثيرات إنسانيّة واجتماعيّة وسياسيّة داخليّة وخارجيّة، وأنّ المُحتل (الفاعل) والمُحْتَل (المفعول به) يتقاسمان ربّما تبعات الاحتلال، وأنّ السيطرة على شعب آخر وأرض تابعة لشعب آخر، لن تدوم، وإن طالت فإنّ نهايتها ستكون نقل تصرّفات وتوجّهات يتمّ اتّباعها في الأرض المحتلة، ضدّ المحتلين الضعفاء إلى مَن يحتلّ. إنّ حرمان الغير من حقوقهم وحريّاتهم لاختلاف انتمائهم وعرقهم، أو لونهم سيصل، لا محالة، إلى حرمان كلّ مختلف عن الأغلبيّة العدديّة أو السياسيّة أو العسكريّة، من حقّه، بل إقصائه وربّما المسّ به.

 

وهي قناعات سادت لدى بعض القادة في العالم والمنطقة مطلع تسعينيّات القرن الماضي ووصلت إسرائيل أيضًا عبر محاولات إنهاء الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ وتوقيع اتّفاقيّات سلام  متبادلة ( اتّفاقيّات أوسلو) تضمن الحرية والسيادة للفلسطينّيين والأمن والاستقرار للإسرائيليّين، وهو سلام سبقه سلام آخر بين اسرائيل ومصر جاء بقرار تاريخيّ شجاع من الرئيس المصريّ أنور السادات، واستجابة مماثلة من رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن، ومعاهدة السلام مع دولة الأردن بقيادة الملك حسين بن طلال، وهي منطلقات انتهت كما يبدو الى غير رجعة  بفعل  زعامات ، وليست قيادات،  عالميّة وإقليميّة ومحليّة نسيت أو تناست أنّ القيادة ، بعكس الزعامة، تعني اتّخاذ القرارات الصعبة والمصيريّة،  ورسم معالم الطريق للأجيال القادمة، وليس الجري وراء القطيع، وتبني المواقف المتطرّفة والخوف من إحداث التغيير.

 

ما سبق تؤكّده تطوّرات الفترة الأخيرة في المنطقة والبلاد، وملخصها رفض الزعماء، ولا أسميهم قيادات، وخوفهم من الالتفات إلى ما يحمله التاريخ، أو عدم قدرتهم على رؤية التاريخ واستنتاج عبره، وبالتالي إصرارهم على استمرار "الستاتوس كوو" الوضع الراهن، حتى لو كان كما في حالة إسرائيل، يعني استمرار احتلال شعب آخر واستمرار السيطرة الإقليميّة على أراضي شعب آخر، خلافًا للقوانين والأعراف الدوليّة، وحتى لو كانت النتيجة النهائيّة واضحة مفادها أنّ من يقع تحت الاحتلال لن يتنازل عن حقّه في الحريّة  والاستقلال والسيادة، وأنّ من يفرض الاحتلال لن يحظى بالأمن والاستقرار والهدوء، ناهيك عن استمرار الزعماء بالتمسّك بوسائل عفا عليها الزمن، يعرفون أنّها لن تقمع الشعوب التي تقع تحت الاحتلال، ولن تضع حدًّا لطموحاتها، ورغم ذلك يواصلون ممارستها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ، قضية أو سياسة التصفية الجسديّة للنشطاء الفلسطينيّين التي كانت وما زالت موضع خلاف حتى بين كبار المسؤولين في أجهزة الأمن الإسرائيليّة، خاصّة بعد رفضها ومعارضتها من رئيس جهاز الأمن العام في إسرائيل- الشاباك- عامي أيالون الذي توّلى قيادة هذا الجهاز بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق إسحق رابين.  لقد رُفضت باعتبارها سياسة يتمّ تنفيذها بشكل تلقائيّ، ودون فحص كافّة النتائج والتبعات، ودون أن تأتي بالنتائج المرجوّة من حيث تحييد المسلحين أو ردع من يحاول أن يحذو حذوهم،  في تصريح معناه أنّها شكّلت فشلًا ذريعًا وقصورًا أكّد أنّ الجهاز الذي جاء لمنع التهديدات الخارجيّة ولمنع المس  بقيادات الدولة، فشل ربّما في الأمرين:

 

فقد فشل في حماية رئيس الوزراء رابين،  ناهيك عن فشله في خفض ألسنة التوتر الأمنيّ والعمليّات العسكريّة إلى حدّ يسمح للسياسيّين بمواصلة نشاطهم وخطواتهم السياسيّة والدبلوماسيّة إلى جانب مكافحة العنف، تمامًا كما فشلت سياسة التصفية الجسديّة التي واصلها قائدها آفي ديختر في وضع حدّ لنشاط المسلّحين الفلسطينيّين، أو منع القيام بعمليّات عسكريّة ضد اسرائيل، وهو "قُصْر نظر" ما زال قائمًا حتى اليوم. فحكومات إسرائيل المتعاقبة منذ 1995 أي بعد اغتيال رابين ونهاية اتّفاقيّات السلام التدريجيّة مع الفلسطينيّين، تخشى الاعتراف بأنّ إنهاء الاحتلال لا ينحصر فقط في  العودة إلى حدود 1967 أو إخلاء المستوطنات القريبة من القدس ومنح الفلسطينيّين حريّتهم وكيانهم، ولا ينحصر في تحسين علاقة إسرائيل بمواطنيها العرب، بل إنّ عدم إنهاء الاحتلال، أو استمراره يعنيان الاعتراف رسميًّا  بأنّ التعبير "دولة يهوديّة ديمقراطيّة" قد فشل فشلًا ذريعًا، وأنّه لم يعد قائمًا فعلًا، بل إنّ الدولة بقياداتها المختلفة فشلت في أن تفهم أنّ ما يحدث على الأرض يسحب البساط من تحت أقدام الدولة الديمقراطيّة، أو حتى الدولة اليهوديّة الديمقراطيّة، ويبقى الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام دولة ليست يهوديّة فحسب، بل يهوديّة يمينيّة توراتيّة لا تبقي للسلم والتنازل والحلول الوسط والمساواة للأقليّات مكانًا، فهي تعتبرهم " فئة دونيّة" مقابل " الأسيّاد" اليهود.

 

هذا توجّه قد يعتبره البعض يحوي مركّبات معيّنة، ربّما يراها  محلّلون على أنّها تقارب ما كان في جنوب أفريقيا، وليس ذلك فقط بل إنّ الزعماء في إسرائيل يواصلون نهجهم هذا داخليًّا عبر تجاهل فئات ومجموعات أصلانيّة،  وحرمانها من الحريّات والحقوق عبر خطوات تختلف عن تلك التي اتّخذها دي كليرك، ويحاولون عبرها إرسال رسالة إلى هذه الأقليّات مفادها أنّها أقلّ شأنًا وحقوقًا، وأنّ مواطنتها مشروطة أو مؤقّتة ومنها قانون القوميّة الذي تمّ سنّه عام 2018، والذي أكّد أنّ إسرائيل "دولة قوميّة للشعب اليهوديّ"، وأعلن أنّ حقّ تقرير المصير داخلها "خاصّ بالشعب اليهوديّ"، واعتبر "إقامة المدن الجديدة حقّ لليهوديّ فقط وقيمة وطنيّة"، ما يعني أنّ إسرائيل لا تكتفي بمواصلة احتلال الأراضي الفلسطينيّة وسلب حقوق المواطنين هناك، بل إنّها تنقل هذه السياسة إلى داخلها لتطبّقها على مواطنيها العرب نحو خلق نظام تُهيمن فيه مجموعة عرقيّة على أخرى؛ وتمييز ممنهج ترتكبه مجموعة عرقيّة ضد مجموعة أخرى.

 

أدرك دي كليرك ما لم تدركه الزعامات في كثير من دول العالم، وهو أنّ تطوّر الشعوب وازدهارها إنّما يأتي عبر سلّم أولويّات يصبّ في مصلحة المواطنين، ويوزّع الثروات والميزانيّات وفق ذلك، ويستند إلى الإيمان التامّ بأنّ رفاهيّة المواطنين وتعليمهم ومنحهم إمكانيّات الحصول، وبمساواة تامّة، على التعليم الأكاديميّ وتوفير الميزانيّات لذلك، ما يمنع اقتصار التعليم عالي المستوى على الطبقات الغنيّة والمترفة، هي السبيل إلى النمو والسلام والاستقرار، بدلًا من استثمار الأموال والميزانيات في عسكرة وتسلّح لا يحسّن الواقع، بل يزيد ثراء الأثرياء وفقر الفقراء، ويغذّي التوجّهات المتطرّفة وخطر نمو مجموعات سياسيّة تقدّس الفوقيّة العرقيّة، وتعمل لصالحها على تكريس واقع متوتّر يخدمها لأسباب سياسيّة فقط، ويمنعها من اتّخاذ خطوات شجاعة وقياديّة قد يتخلّلها صدام مع أصحاب مراكز القوى السياسيّة والاقتصاديّة الداخليّة والخارجيّة، والشركات الكبرى التي تريد خدمة لمصالحها تكريس حالة تضمن سيطرتها .

 

اتّخاذ القرارات الشجاعة والتي تصبّ في مصلحة الجميع، وتخدم أولئك الذين يبحثون عن العيش الكريم بدلًا من أصحاب التأثير السياسيّ الداخليّ والخارجيّ وأصحاب رؤساء الأموال، والسعي إلى اقتصاد يضمن المساواة بدلًا من تكريس الفوقيّة الاقتصاديّة هو  مثلًا ما فعلته الحكومة الصينيّة التي بادرت مؤخّرًا إلى خطوات تعيد المساواة وتكافؤ الفرص وتوفير فرص التعليم الأكاديميّ للجميع، لتمنع تكريس فوقيّة اقتصاديّة نتيجتها فرض هيمنة مجموعة صغيرة، اقتصاديّة وماليّة هذه المرّة، على مجموعة كبيرة وحرمانها من حقوقها، وأقصد هنا وضع حدّ لسيطرة مجموعات اقتصاديّة تملك نفوذًا سياسيًّا، ولها دعم داخليّ وخارجيّ، استحوذت على عشرات مليارات الدولارات وكرّست حالة مدنيّة مكّنت أصحاب الأموال فقط من نيل التعليم عالي المستوى الذي يضطرّ العائلات الصينيّة لإنفاق مبالغ تصل إلى 15000 دولار سنويًّا تزداد خاصّة مع اقتراب موعد امتحانات الثانويّة العامّة، التي تعرف باسم "غاوكاو" (أو امتحان القبول)، وهو امتحان تحدّ نتائجه سيرورة الحياة المستقبليّة  الأكاديميّة والمهنيّة للطالب واحتمالات استيعابه في عمل رائد، أو وظيفة راقية تضمن له الاستقرار والراتب الممتاز والمكانة الرفيعة. وهي خطوة جاءت استجابة لاحتياجات الأغلبيّة الصامتة في الدولة وسعيًا إلى تحسين أوضاعها حتى لو كانت تلك تتمّ عبر خطوات تصطدم  بالقوى السياسيّة والاقتصاديّة، ولا تتساوق مع  من يمارسون هواية إصدار" الأصوات العالية" ، أي تغليب المصلحة العامّة على الاعتبارات الحزبيّة الضيّقة، وعلى الحسابات السياسيّة الداخليّة انطلاقًا من أبسط قواعد ومفاهيم القيادة التي يمكن وصفها بأنّها" القيادة الشجاعة"، سعيًا إلى إنهاء التفرقة والطبقيّة الاقتصاديّة والتي لها جوانب سياسيّة، إيمانًا من القيادات أنّ الاستبداد  والاحتلال الاقتصاديّ والسياسيّ والعسكريّ لا يدوم .

 

هذا ما يؤكّده التاريخ عبر سلسلة أمثلة تلخّصها قائمة الشخصيّات التي أرادت تكريس الاستعمار والاحتلال والقمع وحكم الرجل الواحد والدكتاتورية، ومنها عيدي أمين الرئيس الأوغنديّ، والرئيس الليبيّ معمّر القذافي والدكتاتور بابا دوك الذي حكم هاييتي، وحاكم غينيا الاستوائيّة فرانسيسكو ماسياس نيجاما، وجوزيف ستالين وغيرهم.

 

ولكنّ هذه القائمة، كما يبدو، لا تشكّل ما يكفي لإقناع زعماء في العالم بأنّ حريّة الشعوب كلّها، وحريّة ورفاهيّة شعوبهم وجيرانهم هي ما يضمن لهم البقاء، ومنهم الرئيس السوريّ بشار الأسد والإيرانيّ إبراهيم رئيسي، اللذان يسيطران على عشرات الملايين من مواطنيهم، ويكرّسون الفقر والاضطهاد والحرمان من أبسط الحقوق والمقوّمات ضمانًا لبقائهما، حتى لو كان الثمن منع التعليم وتدهور الأوضاع الاقتصاديّة وزيادة التهديدات الخارجيّة، بدلًا من اتّخاذ قرارات شجاعة تعيد للشعوب كرامتها وحرّيتها وتعيدها إلى ما يجب أن تكون عليه، شعوبًا منتجة ومتعلّمة، تنافس الشعوب وتتمتّع بالاستقلال الفكريّ والاقتصاديّ، ولا تشكّل بلادها موطئ قدم لجهات خارجيّة  مسلّحة وسياسيّة تستغلّ مقدراتها، كما يحدث في سوريا التي رشح أنّ رئيسها ضاق ذرعًا بتصرّفات أتباع وممثّلي إيران، ومنهم الجنرال مصطفى غافري أحد قادة فيلق القدس فعمل على إبعاده من سوريا،  بعد أن أدّت تصرّفاته إلى إلحاق الضرر بمصالح سوريا، إذ غلّب مصالحه الشخصيّة ومصالح بلاده، وهي التي تسيطر على سوريا وتستغلّ مقدراتها وثرواتها وأراضيها، على مصالح  أصحاب الأرض والوطن خدمة لأهداف سياسيّة وعسكريّة غريبة لا تستجيب لمطالب وتطلّعات أبناء البلاد وأصحاب الأرض.

 

وهو أمر قد يقبله الطرف الضعيف في المعادلة إلى حين، قبل أن ينتفض رافضًا محتجًّا مؤكّدًا أنّ القوّة العسكريّة والسيطرة الاقتصاديّة لا تدوم، إذا لم تأخذ بالحسبان احتياجات الشعوب واهتماماتها واحتياجاتها، حتى لو تمّت هذه السيطرة باسم العرق أو السياسة أو الدين، لأنّها تحوّل من يمارسها إلى مستعمر مستبدّ ومحتلّ يحاول فرض حالة أثبت التاريخ أنها لا تدوم، واستعمار الدول الكبرى كبريطانيا التي كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وتركيا العثمانية التي سيطرت على معظم أنحاء أوروبا والشرق الأوسط  هو خير مثال على ذلك. لكنّ بعض الزعماء ومنهم كثيرون في منطقتنا وبلادنا، يرفضون أن يتعلّموا من التاريخ عبره، فيواصلون تكريس الاحتلال والسيطرة على مصير ومقدرات شعب آخر، والتمييز ضدّ أقليّة قوميّة داخل الدولة، ليصفعهم  التاريخ عملًا بقول الفيلسوف الألماني ج. فريدريش هيغل: "نتعلّم من التاريخ أنّ أحدًا لا يتعلّم من التاريخ"، وقول الفيلسوف الإسبانيّ جورج سانتيانا:" الذين لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم أن يكرروه".

 

 

תגובות

מומלצים