" أيها الإنسان اعرف نفسك، بنفسك "

والحمد لله رب العالمين حمد من عرف حق نعمائه بقوة الايمان واليقين والصلاة والسلام على رسله اجمعين المبعوثين من عنده تعالى هدى ورحمة للناس في الدنيا والدين وبعد

28.10.2020 מאת: منير فرّو
" أيها الإنسان اعرف نفسك، بنفسك "

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

«أيها الإنسان اعرف نفسك، بنفسك» صيحة سقراط الشهيرة، غاية الأنبياء والفلاسفة والحكماء والتنويريين، أن يعرف المرء ذاته هو، وأن يعيش وفقًا لهذا الإدراك، لما ينبع من داخله. ولا يمكن لأحد أن يعرّفك على نفسك، مهما قال من حولك بأنهم يعرفونك أكثر منك، إلا أن هذه المعرفة طالما أنها تأتي من الخارج ولم تنبع من الداخل فهي محض تصورات، قد تصدق وقد لا تصدق.

ورغم مشقة المهمة، إلا أن الخبر الجيّد أن كلّ منا بمقدوره أن يحقّق هذه المعرفة، ويصل لها، ويعيش وفقها، وبذا يحقّق الإنسان وجوده كإنسان فريد. " بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره".

قال تعالى في كتابه المجيد : "ونفسٍ وما سواها فألهَمَها فجورَها وتقواها" صدق الله العظيم، وقال يسوع عليه السلام في الانجيل الطاهر : " فان مَن أراد أن يخلص نفسَه يُهلكُها ومَن يهلك نفسَه من اجلي يجدُها. لأنه ماذا ينتفعُ الإنسانُ لو ربح العالمَ كلَّه وخسرَ نفسَه"، وقال الحكماء : " لو كان امر النفس امرا سهلا ما تعبت فيه الحكماء والاطباء ".

لقد اراد الله الحكيم الخبير الصانع العزيز القادر من مخلوقاته العنصر الانساني دون الحيواني والنباتي والجماد، وجعل له التفضيل عليهم جميعهم ورئيسا لهم، فخصه بخمس قوات قوة غاذية وقوة نامية وقوة حية وقوة ناطقة وقوة عقلية، وجعل محلها من الانسان كشيء واحد بالقوة والفعل، وظهورها بالفعل بحسب الاكتساب والتعريف وان الغاية فيهم القوة العقلية، فخصه  بشرف النفس النفيسة الناطقة، والعقل الرئيس الحاكم للنفس، وهو جوهر بسيط وجعله تعالى دائما فاعلا غير مفعول يفعل بالنفس ولا تفعل به النفس، والنفس مفعولة وفاعلة مفعولة بالعقل وفاعلة بالبدن، قابلة للعلوم،وجعل العلوم صنفين علوم نافعة، وعلوم ضارة، والعلوم النافعة هي العلوم الالهية، التي ارسلها الله على يد رسله، لكل امة كتابها، تدعو الى معرفة الخالق وتوحيده وعبادته وطاعته مع تبيين طريق السلوك والعافية لتصح العبادة، والعلوم الضارة، هي العلوم التي يزخرفها الشيطان للإنسان ليردَه عن طاعة الرحمن، والتي تدعو الى الالحاد والكفر بوجود الخالق، وركوب معصيته والانغماس في الشهوات التي تضر بالعقل والروح والبدن، لذا النفس تشفى وتحيا بالعلوم الالهية النافعة، وتمرض وتموت بالعلوم الضارة، كما يحيا الجسد بالغذاء النافع، ويمرض ويموت بالغذاء الضار،

 وجعل الله ايضا العقل عقلين: عقلا طبيعيا يشترك فيه الحيوان والإنسان، وعقلا مكتسبا وهو مختص فقط بالإنسان، ليكتسبَ العلومَ الالهية الروحانية، والجسمانية كالصنائع والعلوم الدنيوية،

 وخلق الفؤاد الذي هو القلب مركز الحياة، والمستولي على جميع الاحساسات والتصورات والتركيب والتحليل، وجعل القلب وأوعيتَه ممدًا للمخ وامتداداتِه عوضًا عما تخَللَ منهما من التأثيرات الغريزية والجزيئات الجسمية، وجعل المخَ وامتداداتِه ممدا بتأثيراته للقلب وأوعيته، وكل تأثير على القلب والمخ يؤثر على باقي الاعضاء،

 وأيضا خصه بالهيئة الانسانية التي هي اقوم وأجمل الهيئات والأجسام، وجعله يمشي على قائمتين دلالة على نبوغه العقلي وتميزه على سائر الكائنات،

 وأما البدن الذي هو الجسم بجميع اعضاءه فهو مستخدَم للروح المتحدة بالعقل، فكلما كانت النفس قابلة للعلوم الالهية، كان البدن مستخدَما وفاعلا للخير، وبالعكس، كلما كانت النفس قابلة للعلوم الشيطانية، كان البدن مستخدَما وفاعلا للشرور.

ولما جعل تعالى الانسان قابلا للعلوم والصنائع خصه من اجل درك المعلومات الروحية والجسمانية بقوات كثيرة، كالقوة الحافظة والمصورة والمخيلة والمفكرة والمذكرة، وحواس ظاهرة وباطنة، الظاهرة السمع البصر والشم والذوق واللمس والباطنة لكل حاسة ظاهرة يقابلها حاسة باطنة في القلب كتذوق العلم وبصيرة القلب الخ، وكلما كانت هذه الحواس سليمة ارتقى الانسان في المعالم والعلوم وسلامة النفس.

  فالإنسان هو أجلُّ صنعة من مصنوعات الله، لأنها متممة لكل ما خلقه، لأنه لو اخلى الله الكون من العنصر البشري الذي هو الانسان لانفسدت صنعته وكانت سدى، لذلك قال تعالى في كتابه العزيز: " والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" صدق الله العظيم .

ولما كان مراد الله من مخلوقاته العنصر البشري، امطر عليه المعرفة والعلوم لتكون نجاتُه فيها في الدنيا والآخرة، وجعل له اوامرَ ونواهي، ويسّر له الامر في حال ان الانسان اقبل على الاوامر وانتهى عن النواهي، وجعل من الاوامر الحلال، ومن النواهي الحرام، فاحل له اشياء، وحرم عليه اشياء، فكل ما احله له كان سببا لسعادته في الدنيا والدين، وجعل كل ما حرمه فيه من تعاسته في الدنيا والدين،

 لذلك بعث الله تعالى الرسل والأنبياء من عنده حجة لهم وعليهم، ليفسروا له كل اسرار الحياة من امراض دينية ودنيوية، من علل نفوس وعلل اجسام، لأنه لا تصح عبادة الخالق وتوحيده إلا بسلامة الاجسام الحاملة للروح، وأي نقص في تغذية الجسم واعضاءه المركزية، القلب والكبد والرئة والمرارة والطحال يحدث للجسم فيه ضررا وعطلا، يؤثر فيه على نفسية الانسان وعقله، لان العقل السليم في الجسم السليم، ومن هنا وجب الاعتناء بالتغذية السليمة لئلا تحدث عللا ليس فقط جسدية وانما نفسية لان النفس محتاجة الى الجسد بكل اعضائه.

 لقد جعل الخالق جل وعلا سلامة النفوس والعقول والاجسام بإتباع الرسل الكرام بالعلوم النافعة الصالحة بإتباع الفضائل الالهية، ومضارها بعدم اتباع الرسل وعلومهم النافعة بإتباع اهواء النفوس والرذائل الشيطانية، فأسقام الاجسام في كثرة الطعام، وأسقام النفوس في كثرة الاثام وإتباع مغاوي الشيطان.

ولما كانت ارادة الله ان يصنع الانسان من كثيف ولطيف أي من جسد ونفس ناطقة ونفس حيوانية أي دموية، جعل هناك ممازجات ومشاركات ومؤثرات، وجعل لكل من اللطيف والكثيف صحة وسقما ومناعة، يمكن التداوي والوقاية، وجعل صحة الاجسام باعتدال الامزجة الطبيعية، وفسادها بحلول الاعراض واختلاف الفلكية، وجعل صحة النفوس بالعلوم اليقينية، قال تعالى : " وإذا مرضت فهو يشفين"، والشفاء من عند الله روحا وجسدا بالالتزام بما يفرضه تعالى.

 ومن الاعراض ما يضر بالحواس اللطيفة، كما يضر بالحواس الظاهرة الكتيفة، ومنها حواس اعراض تؤذي جواهر الحواس وخواصّها، ولا تغير صورها وأشخاصها، وأيضا منها اعراض تذهب لطائف الاشياء وقواتها من غير تأثير في كتائفها، ولا تحليل لمركباتها، كزوال عقل الانسان بالجنون العارض له، مع ابقاء قوة نشاطه، وصحة بدنه، ووجود عافيته، وكعدم النطق مع وجود اللهات والفم واللسان، وكذهاب السمع والشم مع سلامة الانف والرأس والأذن، وكذهاب البصر مع سلامة العين.

 ان علل النفوس اخفى من علل الاجسام، لان الاجسام محسوسة وملموسة ومرئية، والروح او النفس غير  محسوسة ولا ملموسة ولا مرئية، لذلك الافات المضرة بخاصية النفس اللطيفة، ادق وأعظم من ان تكون  بين الناس معروفة وموصوفة، وهي كثيرة منها ما يتضح تفسيره، ويصح علاجه بالارشاد والتوجيه النفسي وايضا بالأدوية والعقاقير والمسكنات، وتعويض النقص في الفيتامينات وتعديل موازانات الجسم خاصة في المخ مما يعيد المريض الى حالته الطبيعية مع مداومة الادوية، ومنها لم يتضح، لدقتها ولطافتها وامتزاجها بالنفس وما يقع عليها من تأثيرات خارجية وداخلية، يصعب دركها وفهمها واحاطتها بالعقول، لان النفوس البشرية قابلة للتأثيرات، لامتزاجها بالنفس الحيوانية، الناتجة من امزجة الطبيعيات، متأثرة من غالب الجهات، لان لخواص الاغذية فيها تأثير، وللمحسوسات والتربية والتعليم ومجرى العادة والمعاشرة والأعمال البدنية، كالحركة وأنواعها، والمعارف العلمية، والفضائل الدينية، والزمان والمكان والبيئة والتراب والماء والهواء كلها فيها عليها تأثير، لا مجال لذكرها هنا، فالأسباب متعددة وكثيرة بسبب المركبات والعناصر والازدواجات والمتناقضات التي يتركب منه البدن وتتقيد به النفس.

وبما انه تعالى قد خيّر الانسان في اعماله بعد تعريفه ما له وما عليه، فصار كل عمل يقوم به الانسان مردود اليه، وما يأتيه من خير وشر وصحة وسلامة كلها منه واليه، فكل مخالفة لسُّنة من سنن الله لها عقابها في الآجل والعاجل "وليس ربك بظلام للعبيد"،

 فالأمراض البدنية والنفسية هي من قبل العبد، ولو لم نعلم الاسباب، ومنها عند النشيء في الارحام ومنها بعد الولادة، ومنها مع تقدم العمر، ومنها بسبب احداث ومتغيرات تحدث مع الانسان منها مادية اقتصادية واجتماعية وعاطفية وفقدان اعزاء الخ،  فهناك اسرار وخفايا لا يعلمها الا الله العالم بما خفي وعلن، لذلك قال تعالى : " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"،  فعلى الانسان الذي هو عبد الله ان يعمل بفكره وحسه وجسده دائما بالتفكر بالله وبكل ما خلق، ولا يشتغل بغيره عن سواه، وإلا يقع في بلاه وشقواه، ويصير صريعا في كل ما نواه.

وأخيرا اغلب المصائب التي تؤذي الانسان ايذاء نفسانيا، انما هو صادر من الخطأ في الحكم، لان القوة الحاكمة هي القوة التي بها يقف الانسان على حقيقة النِّسب الموجودة بين أجزاء الشيء الواحد، على انفراده، او بين جملة اشياء متقاربة، وهي اهم القوى العقلية، اذ بواسطتها نكتسب جميعَ معارفِنا، لان القوة العقلية يتم طبخها بالدماغ، والدماغ من دمغ الشيء أي قطعه وأبطله ومحقه، والمعنى ان في الدماغ يتم طبخ المعلومات بواسطة الاعصاب، فكلما كانت المعطيات سليمة، كانت النتائج سليمة وبالعكس، والمعنى ان المخ بكامل قواته العقلية والباصرة والسامعة والمفكرة عندما يتعاطى المعلومات، فيجب قبولها ودحضها بما يوافق الحق والصواب، والحق والصواب هو كلام الله، الذي لا يشوبه اهواء ولا تلبيس، وأول درجة منها مقابلة الشيء بالشيء، وهذه المقابلة متى اشتدت وطالت مدة الاشتغال بها سُميَّت بالتأمل، وتسَلسُل الاحكام المرتبطة بعضها يُسمى تعقلا، والعقل الذي هو اصل للصفات النفسانية، وكمال الذهن، ليس إلا القوة الحاكمة التي بها نقتدر على تمييز الخير من الشر في افعالِنا، وذلك عن طريق التغذية الروحية والجسدية الصحيحة، لان تسوية النفس بقوله تعالى : " ونفسٍ وسواها" بتعديل اعضائها، وذلك بإعطائها القوى الكثيرة كالقوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة، وهذه النفس هي النفس الخاصة والقدسية النبوية لان العالم اربع طبقات نباتية وفوقها حيوانية وفوقها انسانية وأعلاها الطبقة الملائكية وهذه النفس الانسانية والملائكية هي رئيسة عالم المركبات.   

 فمن هنا أي نقص في درك المعلومات التي تصل الى العقل، وعدم القدرة على استيعابها وضبطها بكل ما اراده الله جل وعلا، ينعكس ذلك سلبا على النفس، مما يجعل فيها ظلمة، تماما كما يقف القمر بين الشمس والأرض، مما يحول وصول ضوء الشمس الى الارض،  فيجعل ظل القمر ينعكس على الارض فتظلم .

فعلينا جميعا رجال الدين من كافة الطوائف، على نشر روح الايمان بالخالق، فالأديان مهما اختلفت في الشكل فهي بالجوهر واحد، ومن اصل واحد، وأيضا الحد من ظواهر الشذوذ، وانتشار اللا اخلاقيات في وسط الشباب، لان الامراض النفسية كالانفصام في الشخصية وما يتبعها من عوارض مثل تخيلات غير طبيعية، تفكير غير سليم وغير منتظم، هلوسات، توهمات، هياج، خمول، قلة الكلام، فقدان المتعة تجاه أي شيء، نضوب الافكار، عدم الرغبة في الاختلاط بالمجتمع، وكالاكتئاب الذي هو هبوط نفسي بالغ الشدة ، يخيل للمرء المصاب به أنه فاشل في كل شيء وغير نافع لأي شيء، وما ينتج منه من عوارض لامبالاة تجاه أي أمر، حزن وعبوس، تشاؤم ، بطء ذهني وحركي، بلادة في نظرات العيون، شعور المكتئب بأنه انسان فاشل، فقدان الثقة بالنفس، مزاج دوري وتعب، وأيضا كالتخلف العقلي والذي هو انحطاط واضح في نسبة الذكاء، يجعل صاحبه عاجزاً عن التعليم المدرسي وهو صغير، وعن تدبر أموره دون إشراف من الآخرين وهو كبير، وهو درجات متفاوتة، وهذه الامراض عادة ما تصيب الشباب، بسبب تسلط الامور الدخيلة عليهم، من نزعات النفوس المنقادة الى الهوى الذي هو اساس هلاك المجتمع الانساني، خاصة للشباب في الجيل المبكر والغير ناضج، لان لا انتظام للقوة الحاكمة التي هي العقل إلا بالتقدم في السن، فاقل فشل في الحب يؤدي به الى الاحباط والاكتئاب وحتى الانتحار، وأيضا الشذوذ الاخلاقي خاصة في عصرنا المادي الذي نعيشه، والانزلاق وراء شهوات الدنيا وزينتها، التي حذر الله تعالى وأنبيائه من التعلق بها، وعدم صدها بعلوم الدين والإيمان وترسيخ العقيدة، بينما نكاد لا نراها في اوساط المؤمنين الطائعين العابدين، وهذا برهان قاطع على ان الامراض النفسية تقوى بضعف الدين والإيمان، والابتعاد عن سنن الخالق والرضى والتسليم باحكامه في السراء والضراء، وتضعف وتتلاشى بقوة الدين والإيمان واليقين، والتعلق بسنن الخالق والرضى بأحكامه في الشدة والرخاء، لان النفوس ثلاثة نفس مطمئنة بالإيمان بخالقها متكلة عليه ساكنة به، بقوله تعالى : " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اله ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، وطمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والشك والانصراف عنه ومن يطمئن الى غير الله اتاه القلق والانزعاج والاضطراب، ونفس لوامة وهي التي اقسم بها تعالى بقوله : " ألا اقسم بالنفس اللوامة" وذلك ان المؤمن دائما يحاسب نفسه ويلومها على كل رديء تفعله، ونفس امارة بالسوء التي قال تعالى عنها : " ان النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي"وهي المذمومة التي تأمر بكل سوء وهذا من طبيعتها إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها فما تخلص احد من شر نفسه إلا بتوفيق الله له،

 ثبَّتَ الله ايمانَنا جميعا، ووفقنا وإياكم على شر انفسِنا الامارة بالسوء، ووقانا الامراضَ الدينية والدنيوية امين والحمد لله اولا وأخرا.

 

תגובות

מומלצים