حين يقرّر رجال السياسة ألّا يقرّروا

لست من أولئك الذين يقبلون الوصف الساذج للسياسة بأنها فنّ الممكن، ولم أكن أبدًا من أنصار هذا الوصف، فهو في طيّاته يحمل تلميحًا واضحًا وخطيرًا إلى أنّه علينا أن نقبل حالة تكون فيها السياسة سواء كانت داخليّة أم خارجيّة للدول

26.11.2021 מאת: المحامي زكي كمال
حين يقرّر رجال السياسة ألّا يقرّروا

 

مشاعًا أو حلبة خالية من الضوابط والقوانين والمبادئ. نعم المبادئ، أي أن تحكمها عوامل لا يمكن ضبطها أو مراجعتها أو تقييمها، تتراوح بين القوّة والمصلحة والانتهازيّة والتحايل، أو الخوف من اتّخاذ القرارات، وتفتقر إلى المنطق.

 

وبالتالي تمارس دون حسيب أو رقيب، ودون أن تكون الأمور غير المنطقيّة وغير المقبولة عقبة أمام ممارستها، أو كما قال نابليون بونابرت:" في السياسة لا تكون الأُمور غير المنطقيّة عقبة".

 

يشكّل هذا الوصف للسياسيّين في بلادنا خاصّة والعالم عامّة في بعض الأحيان مفرًّا ومهربًا من اتّخاذ القرارات الشجاعة التي تعتمد قيمًا واضحة ومواقف جليّة ومبدئيّة تتعلّق بالحاضر والماضي والمستقبل، والاستعاضة عنه " بالممكن" الذي يعني انتظار ما ستؤول إليه الظروف والأحوال والتطوّرات لعلّها تكون مطابقة لما نريد، أو الوقوف موقف المتفرّج إزاء ما يحدث بانتظار نتيجته النهائيّة، ولكن مع تسويق هذا الانتظار، وهذا الخوف من اتّخاذ القرارات المصيريّة على أنّه سياسة مدروسة وخطّة واضحة عبر استخدام مصطلحات يردّدها الساسة، أو مسؤولو العلاقات العامّة تنطبق عليها مقولة جورج أورويل المشهورة:" لغة السياسة تمّ تصميمها لتجعل الكذب يبدو صادقًا والقتل محترمًا ".

 

لا أعتبر مقدّمتي هذه عبثًا، بل إنّني أجد نفسي أقول ذلك إزاء وضع يبدو أنّه أصبح حالة مستدامة قرّر فيها السياسيّون في إسرائيل والمنطقة ألّا يقرّروا، أو أن يلفّوا قراراتهم بغطاء إعلاميّ يخفي حقيقتها، تجلّت مؤخّرًا في قضايا عديدة، منها إطلاق سراح المواطنين الإسرائيليّين نتالي وموردي أوكنين اللذين اعتقلا في إسطنبول بتركيا بتهمة التجسّس، بعد قيامهما بالتقاط الصور للقصر الذي يقيم فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والذي بلغت تكلفة إقامته 600 مليون دولار، وهي قضية لعبت فيها لغة السياسة دورًا رئيسيًّا ومركزيًّا، بل الدور كلّه، ولم يكن انعدام المنطق فيها عقبة أمام تطوّراتها وتعرّجاتها.

 

 

لم يكن المنطق أصلًا قائمًا في هذه القضية، فأسباب الاعتقال لم تكن واضحة تمامًا، كما لم تكن أسباب التصعيد الذي شهدته القضيّة بعد ساعات من الإعلان عنها، والذي جاء على شاكلة تمديد اعتقال الزوجين بعشرين يومًا، ومن ثم إعلان وزير الداخليّة التركي بأنّ الحديث يدور عن عمليّة تجسّس خطيرة، تمسّ بالأمن القوميّ التركي، كما لم يكن المنطق قائمًا في موقف إسرائيل أيضًا، فهي بدورها اتّخذت الهدوء نهجًا وأسندت مهمّة الحديث مع الأتراك إلى رئيس الدولة يتسحاق هرتسوغ ، ورئيس الموساد دافيد برنياع، أمّا السياسة فتنحّت جانبًا، رغم أنّ القضيّة كانت بالنسبة لإسرائيل سياسيّة واضحة وبامتياز، إذ أكّد رئيس الوزراء  نفتالي بينيت، ووزير الخارجية يائير لبيد أنّ الزوجين ليسا من أفراد أيّ جهاز أمنيّ، ورغم ذلك فضّلا "المسار الأمنيّ الموسادي"، في تجسيد هو الأفضل لعبارة "السياسة فنّ الممكن"، فإذا كان التعاون الاستخباراتيّ هو الممكن،  وهو ما يحقّق المصلحة في هذه المرحلة فليكن لتبقى كافّة القضايا الأخرى جانبًا، حتى تصبح القضايا الأخرى ممكنة.

 

أمّا الخلافات والاختلافات فلا مكان لها ولا حساب، ففي السياسة ليس هناك عدوّ دائم، ولا صديق دائم، بل مصالح دائمة لكنّها متغيرّة، تؤكّد أنّ القيادتين في إسرائيل وتركيا فضّلتا ألّأ تقررا، أو قررتا انتهاج الضبابيّة وعدم اتّخاذ القرار.

 

 

ما شهدته هذه القضيّة من حيث الضبابيّة حول ملابسات إطلاق السراح بسرعة، وخلال ساعات وبشكل يفوق ضبابية الاعتقال، ومضمون المحادثات الهاتفيّة بين الرئيس الإسرائيليّ يستحاق هرتسوغ ورئيس الوزراء نفتالي بينيت، وما رشح عنهما حول تشديد أردوغان في المحادثة على أنّه يعتبر العلاقات مع إسرائيل مهمّة لبلاده وذات أهميّة رئيسيّة للسلام والاستقرار والأمن في الشرق الأوسط، وحول رغبته في إجراء حوار شامل بين الدولتين حول القضايا الثنائيّة والإقليميّة هو ما يميّز علاقات تركيا وإسرائيل، فهذه العلاقات كانت مبنية على الاعتراف المتبادل منذ البداية، أي منذ إقامة دولة إسرائيل عام 1948، وهي مختلفة عن علاقات إسرائيل بالدول العربيّة.

 

 

عترفت أنقرة بإسرائيل منذ إعلانها، وكان هناك تبادل للبعثات الدبلوماسيّة بين الطرفين، فعند قيام دولة إسرائيل، كانت تركيا أوّل بلد ذي غالبيّة إسلاميّة يعترف بها، وكانت العلاقات الطبيعيّة بين البلدين هي المعيار، وهكذا استمرّت العلاقات، ليتّضح أنّها ليست علاقات تحكمها مصلحة دائمة  وواحدة، بل تحدّدها مصالح تركيا المتغيرّة، فهي تتقرّب من حركة "حماس"  خصم إسرائيل وعدوّها، وتستضيف قادتها ومنهم صلاح العاروري في أنقرة عندما تدرك أنّ هذا في مصلحتها مقابل المدّ الشيعيّ الإيرانيّ، ومقابل التطبيع بين الدول الخليجيّة وإسرائيل عبر اتفاقيّات إبراهيم التي تجاهلت القضيّة الفلسطينيّة، وهي تدعم أسطول الحريّة وسفينة مرمرة، حين تدرك أنّ ذلك في مصلحتها ويعود عليها بالفائدة في العالم العربيّ والمناطق الفلسطينيّة وهو ما كشفته مظاهر تخلّلت مظاهرات في القاهرة وعمان وغيرها رفعت فيها الأعلام التركيّة.

 

 

وهو بالضبط ما حكم مواقف تركيا وتصرّفاتها في هذا القضيّة، فهي بحثت عن الشرعيّة مقابل واشنطن عبر اتّصال هاتفيّ بين رئيس الوزراء الإسرائيليّ والرئيس التركي لأوّل مرّة منذ 2013، وبعد سنوات من حادثة سفينة مرمرة التي اعتذر بنيامين نتنياهو عنها ووافقت اسرائيل على دفع ملايين الدولارات كتعويضات، رغم أنّ السفينة جاءت لدعم الفلسطينيّين، واحتجاجًا على حصار غزة ورفض إسرائيل منح الفلسطينيّين الاستقلال والحريّة وإنهاء الاحتلال، وهو، أي إنهاء الاحتلال،

 

الموضوع  الذي فضّلت حكومات إسرائيل ألّا تقرر فيه، وسنعود إليه لاحقًا. كانت مكالمة بينيت وهرتسوغ  لأردوغان بعد الحادثة  أفضل تعبير عن رغبة أردوغان ومسؤولين أتراك آخرين في إصلاح العلاقات مع إسرائيل، وهو ما تكرّر عدّة مرّات العام الأخير، حتى في أواخر عهد بنيامين نتنياهو، لأنّ أنقرة تجد نفسها محاصرة بشكل متزايد من قبل خصومها في أوروبا وشرق البحر المتوسط خاصّة بكلّ ما يتعلّق بالغاز الطبيعيّ في البحر المتوسط، والتحالف الذي يضم في هذا الشأن إسرائيل واليونان وقبرص ومصر والإمارات، والتوتّر مع اليونان عسكريًّا، ناهيك عن التوتّر مع الولايات المتحدة من جهة والاتحاد الأوروبيّ من جهة أخرى.

 

ويبدو أنّ أنقرة تعتبر إسرائيل بوابة صلح مع واشنطن وأوروبا، أي أنّ تركيا قرّرت ألّا تقرّر، وأن لا تحسم موقفها من إسرائيل " لفائدة في نفس يعقوب"، رغم أنّ القضيّة الفلسطينيّة وقضيّة الأقصى التي تعتبرها أنقرة أردوغان درّة التاج  لم تتحسّن أوضاعها، وهو ما ينطبق على إسرائيل، فتركيا ما زالت تدعم "حماس" وتأوي قادتها، ولكنّ الحكومة الحاليّة كسابقاتها قرّرت أن لا تحسم أمرها وقرّرت ألّا تقرّر، بل أن تواصل مسك العصا من طرفيه.

 

 

مسك العصا من طرفيه وعدم اتّخاذ القرار الحاسم، هو ما تنتهجه إسرائيل أيضًا في الشأن الفلسطينيّ  منذ احتلال الضفة الغربيّة عام 1967 ، فهي عبر كلّ خططها ومخطّطاتها واتّصالاتها  ومفاوضاتها لم تكن تنوي منح الفلسطينيّين الاستقلال في دولة كاملة جغرافيًّا وسياسيًّا، بل إنّ مخطّطاتها كلّها بدءًا من التقاسم الجغرافيّ في خطّة يغئال ألون وزير الخارجية، التي لخّصها ألون نفسه في مقال في صحيفة معاريف قائلًا":

 

إنّ الأمن لا يتحقّق بالضمانات الدوليّة، ولا بالقوّات الدوليّة، ولا بمعاهدات السلام، إنّه يتحقق فقط بالأرض، تلك الأرض التي تصلح كقواعد للهجوم الإسرائيليّ في المستقبل"، فخطّة ألون حدّدت أنّ منطقة غور الأردن، من نهر الأردن وحتى المنحدرات الشرقيّة لجبال نابلس وجنين، ستبقى تحت السيادة الإسرائيليّة، وهكذا أيضًا بالنسبة لمنطقة القدس وضواحيها ومنطقة الخليل. أمّا بقية أراضي الضفة الغربيّة فتعاد إلى الأردن مع فصل تامّ بينها، وإقامة معبر بين هذه الأراضي وبين الأردن في ضواحي مدينة أريحا.

 

أمّا الأجزاء الأخرى من مشروع ألون فتطرّقت إلى ضمّ قطاع غزة بأكمله إلى إسرائيل وتوطين اللاجئين خارج القطاع، وإعادة سيناء إلى مصر مع الاحتفاظ بالساحل الجنوبيّ الشرقيّ لسيناء، من إيلات وحتى شرم الشيخ، تحت السيطرة الإسرائيليّة وإنشاء دولة درزية في هضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل.

 

وهي الخطّة التي رفضها الأردن منذ ذلك الحين بشكل قاطع، مرورًا بالتقاسم الوظيفيّ حسب خطة موشيه ديان وزير الأمن الذي كان معنيًّا بالتقاسم الوظيفيّ في الضفة الغربيّة، أي أن تكون الأرض والأمن بيد إسرائيل وأن يترك الحدّ الأدنى، أي مهامّ الحياة اليوميّة للسلطات الفلسطينيّة خاصّةً الشأن الاقتصاديّ من منطلق إيمانه أنّ تحسين الأوضاع المعيشيّة للسكان الفلسطينيّين ومنحهم إمكانيّات العمل سيكون كافيًا لهم، وهو ما كان أيضًا ضمن اتفاقيّات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، والتي منحت الفلسطينيّين حكمًا ذاتيًّا، أي دولة منقوصة دون حدود ودون جيش،  وهذا ما كان ضمن اتفاقيّة أوسلو ،القائمة على التقاسم الإقليميّ، والتي اتّفق على تسميّتها" غزة وأريحا أوّلًا" والتي اعتمدت على  منح حقوق سياسيّة محدودة للأقليّة  أو للطرف الضعيف وهو الفلسطينيّين هنا، مع تقاسم إقليميّ - كانتوني للأرض، يتبع اتفاقيّات غير محدّدة زمنيًّا وغير مضمونة النتائج انهارت جرّاء تبدّل الحكم في إسرائيل وصعود بنيامين نتنياهو سدّة الحكم بعد اغتيال إسحق رابين، ناهيك عن أنّها اتفاقيّات تسمح "بحدود ليّنة"، وتسهل عبر طمس مقصود معالجة القضايا الهامّة، وتبقيها عكس المتوقّع واللازم، حتى النهاية ومنها قضيّة القدس واللاجئين والمستوطنين.

 

وهو ما كان ضمن آخر خطّة للسلام أعدّتها الولايات المتحدة خلال حكم الرئيس دونالد ترامب، وقبلتها إسرائيل، إذ سمّاها  رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو "صفقة القرن"، ورفضها الفلسطينيّون بوصفها متحيّزة إلى جانب واحد، قبل أن تخرج إلى حيّز التطبيق، وهي خطّة تعود إلى " التقاسم الوظيفيّ" فالأرض إسرائيليّة عبر ضمّ غور الأردن ومناطق من الضفة الغربيّة، والحدود إسرائيليّة وكذلك الأمن والمياه والأجواء. أمّا حصة الفلسطينيّين فهي ميزانيّات ( توفّرها الدول العربيّة وليس أميركا أو إسرائيل) ووعود بعيش رغيد ومال كثير وعمل وفير ليست دولة، وإنما كانتونات مبتكرة حدودها عجيبة غريبة، رسمها ترامب كي تبقي كافّة المستوطنات في مكانها، كما أراد سفيره في إسرائيل ديفيد فريدمان، ويبقى الحلّ النهائيّ دون حسم كما قال ترامب نفسه:" دولة واحدة أو دولتان.. لا يهمّ فسأقبل ما يقبله الطرفان".

 

 

وفي الشأن نفسه، ووفق هذا الحل الذي قبلته إسرائيل يتّضح أنّها قرّرت ألّا تقرّر حول المستوطنين وبقائهم داخل الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة التي سيتمّ ضمّها إلى إسرائيل، وكلّ ما يعنيه ذلك من معنى خاصّة وأنّه يقود إلى ازدواجيّة قوميّة، أي دولة واحدة تحت سيطرة مجموعة قوميّة مهيمنة تمنع المجموعات القوميّة الأخرى من حقّ التصويت، وتخضع لقوانين لمصلحة المجموعة المهيمنة هي حالة الحكم العسكريّ، أو الإدارة المدنية، وذلك بدلًا من حلّ الدولتين الذي انتهى إلى غير رجعة وفق الوضع القائم اليوم، والذي يقود، إذا ما استمرّت سياسة الحكومة الحاليّة، إلى نتيجة لا مفرّ منها ستجعل إسرائيل والفلسطينيّين كيانًا واحدًا، أو كما قال أحد المعلّقين السياسيّين، سيجعل إسرائيل والفلسطينيّين يغرقون معًا في وحل "الدولة الواحدة"، بل إنّ نتيجة "عدم اتّخاذ القرار"، واستمرار نشاطات الاستيطان وغضّ الطرف عن اعتداءات المستوطنين  يقود إلى الاستنتاج بأنّ المسألة لم تعد تدور حول التحوّل إلى دولة ثنائيّة القوميّة أم عدمه، وإنّما حول أيّ نوع ونموذج من هذه الدولة الواحدة، والتي ستكون دون شكّ أقرب إلى الأبارتهايد  والتمييز ضد الفلسطينيّين والمسّ بممتلكاتهم وحرّياتهم وأمنهم، خاصّة على ضوء ما تشهده المناطق الفلسطينيّة في السنوات الأخيرة  من اعتداءات ينفّذها المستوطنون، وتنسب من باب السهولة إلى ما يسمّى " فتية التلال"، فبيانات الجيش والأجهزة الأمنيّة الإٍسرائيليّة، تشير إلى أنّه تمّ تسجيل 363 اعتداءً في عام 2019 وارتفعت إلى 507 اعتداءات خلال العام الماضي2020، في حين سجّل النصف الأوّل من عام 2021، العام الجاري 416 اعتداء بحقّ الفلسطينيّين،

 

انتهى معظمها إلى صفر من الاعتقالات، وصفر مشابه من لوائح الاتّهام، بما في ذلك اعتداءات المستوطنين على قوّات الجيش. وهو ما دعا وزير الأمن بيني غانتس إلى عقد جلسات متتالية مع قادة الجيش في الضفة الغربيّة لبحث الوضع وإصدار تعليمات إلى المسؤولين بعدم التساهل، وفرض القانون والنظام.

 

ورغم ذلك تستمرّ اعتداءات المستوطنين بالأسلحة الناريّة والحجارة وحرق المحاصيل  الفلسطينيّة أو سرقتها،  ومنع وصول المياه خاصّة في موسم قطف الزيتون، كما تطال هذه الاعتداءات نشطاء اليسار اليهود والإسرائيليّين الذين يصلون لدعم الفلسطينيّين ومحاولة حمايتهم.

 

وهي اعتداءات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يحدث على الأرض فالمستوطنون يدركون اليوم أنّ سلطات فرض القانون أعلنت فشلها، وأنّ العقوبات المفروضة عليه حتى وإن فرضت أصلًا ، فإنّها طفيفة ومتساهلة، وأنّ عشرات المحامين الذين توظّفهم الجماعات والجمعيّات الاستيطانيّة سوف يترافعون عنهم، ولكنّ الأهمّ من ذلك هو أنّ المستوطنين وقادتهم يدركون اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، ورغم حكومة التغيير، بل بفعل تصريحات رئيسها بينيت ووزيرة داخليّته أييلت شاكيد، أنّ إخلاءهم من مواقعهم سواء كانت قانونيّة وفق الشرع الإسرائيليّ، أم غير قانونيّة أصبح أمرًا مستحيلًا، وأنّ احتمال إقامة دولة فلسطينيّة وفق مبدأ حلّ الدولتين أضحى في خبر كان.

 

ناهيك عن أنّ السياسات والتصرّفات القضائيّة والعسكريّة تشير إليهم بحقيقة واقعة مفادها أنّ الفلسطينيّين لا حقوق لهم، وأنّ لا عقوبات على من يعتدي عليهم سواء كان مدنيًّا أم جنديًّا، إذ شهد العام الحالي 18 حادثة إطلاق نار من الجنود على الفلسطينيّين أسفرت عن إصابات وموت، دون أن تنتهي أيّ من هذه الحالات إلى لائحة اتّهام أو عقاب، بل إنّ معظمها ينتهي إلى إغلاقها بسبب انعدام الأدلة، في رسالة مفادها أنّه يتمّ المرّ عليها مرور الكرام.    

 

 

وإسرائيل، ورغم التهديدات العلنيّة، قرّرت ألّأ تقرّر بما يتعلّق بالشأن الإيرانيّ، فلا هي أبقت احتمالات نجاح الاتفاق النوويّ قائمة، ولا هي عرضت مع أميركا ترامب بديلًا، ولا هي تعاونت مع الأمم المتحدة والدول الأوروبيّة لمنع إيران من امتلاك قدرات نوويّة، ولا هي فعلت ذلك بنفسها، بل انتظرت أن يتمّ ذلك بقدرة قادر، وأن يقوم غيرها بتحقيق أهدافها، لتجد نفسها اليوم في وضع تقترب فيه طهران من القنبلة النوويّة، وتوافق على استئناف المفاوضات، بينما تؤكّد أميركا جون بايدن أنّ العمل العسكريّ ضد المنشآت النوويّة الإيرانيّة، وهو ما لوحت به إسرائيل مرارًا وتكرارًا بما في ذلك خلال زيارة نفتالي بينيت إلى واشنطن ولقائه جون بايدن في البيت الأبيض، لم يعد مجديًّا، وأنّها، أي واشنطن ستدافع عن إسرائيل وحليفاتها في الشرق الأوسط أمام أيّ اعتداء إيرانيّ، وليس أمام امتلاك إيران قدرات نوويّة، وليس ذلك فحسب، بل وجدت إسرائيل نفسها في وضع تفتّت فيه الحلف السنّيّ الذي علّق عليه نتنياهو الآمال لكبح جماح إيران، والذي شمل السعوديّة والإمارات والبحرين ومصر. فها هي السعودية تعمل ما بوسعها للتقارب مع طهران، أو ترحّب بذلك علنًا على الأقلّ، لتلحق بذلك بالإمارات العربيّة المتحدة التي تقيم مع طهران علاقات اقتصاديّة متعدّدة الجوانب، وتوقّع معها اتفاقيّات اقتصاديّة تجعلها دولة عظمى إقليميًّا ولا تستجيب لنداءات المقاطعة الاقتصاديّة على طهران، وهي نفس الإمارات التي تقترب من تركيا، خصم إسرائيل سياسيًّا.

 

 

هذا هو حال إسرائيل في القضايا الجوهريّة سابقة الذكر، فهي لا تعمل على حلّ المشاكل والقضايا العالقة، بل تعتمد سياسة "تقليص النزاعات"، أي اتّخاذ خطوات مرحليّة مؤقّتة بانتظار ما ستكون عليه التطوّرات المستقبليّة لعلها تكون في صالحها "تكفي المؤمنين شرّ القتال"، أو تتفاقم فتجعل القرارات متأخّرة لا خيار لها إزاءها. وبالتالي ستستمر في اتّخاذ القرارات السيّئة إلا إذا اعترفت بخطأ نهجها السابق عملًا بالقول الشهير لباولو كويلو: "إنّ الوسيلة الوحيدة لاتّخاذ القرار الصحيح هو الاعتراف بالقرار الخاطئ".

 

وهو ما انطبق أيضًا على علاقة إسرائيل بمواطنيها العرب وإهمال أمنهم الشخصّي وعدم مكافحة العنف والجريمة في أوساطهم حتى خرجت هذه الأعمال عن نطاقهم الضيّق وأصبحت وبالًا على الجميع ، ولكن هيهات تنفع ساعة الندم.         
 

 

תגובות

מומלצים