أعراسنا بين الماضي والحاضر

في الماضي كنا نشعر بالفرحة العارمة تغمر القلوب عندما نسمع بفرح أحد الأقرباء أو الجيران أو الأصدقاء، وننتظر اقتراب الموعد بفارغ الصّبر. وكنّا نسهر الأسابيع قبل الفرح بسعادة لا توصف دون ملل أو تذمر؛ بل كنّا نتمنى أن لا تنتهي هذه الأيام.

27.09.2014 מאת: امال ابو فارس
أعراسنا بين الماضي والحاضر

فلمّة الأقرباء والأصدقاء تسعد القلوب! ثمّ تتصافى النّفوس، ويزول سوء التفاهم بين الأقرباء فتشعر كأنك في عيد الأضحى المبارك.

لقد جرت العادة في أيام العرس على إقامة طقوس مميّزة ما زلت اتذكرها وأحن إليها: ففي صباح يوم الزّفاف، كان العريس يستحمّ ويلبس بدلته الجديدة، لتأخذ النّساء ملابسه القديمة وتضعنها في بقجة مزيّنة بالورود. فيقف الرجّال في حلقة وتقف النّساء في صفّ مقابل الرّجال. وتتكفّل مجموعة من الرّجال بإنشاد أغاني الزفّة المعروفة، ويردّد الجميع وراءهم الغناء. في حين يجلس العريس على كرسيّ فاخر وسط الحلقة ويبدأ الحلّاق بحلاقة شعره ودقنه، وتقف عائلته فوق رأسه.

في هذه الأثناء يطوف الأقرباء والأصدقاء في وسط الحلقة حول العريس وهم يحملون بقجته المزيّنة. فتتساقط دموع الفرح غزيرة، وتنهال عتابا الصبّايا والزّغاريد مادحة العريس وعائلته من كلّ حدب وصوب. ويقوم بعض الاقرباء من رجال ونساء برش الرّيحة على الحاضرين. الكلّ يصفّق بفرح وسرور وسعادة.

تنتهي الزفّة ويرتاح الجميع برهة، ثم يحضّرون أنفسهم لطوفة العريس مع "الحدّاي" في شوارع القرية في ساعات ما بعد الظهر. كنا نذهب إلى ساحة سيّدنا "أبو ابراهيم" في الحارة الغربية، فنصعد السّطوح لنشاهد الرّجال والشّباب يحيون "السّحجة العربيّة". العريس في بدلته الجديدة يقف في بداية الصّفّ، راكبا فرسا أصيلة مزيّنة، ويقف على جانبيه الإشبينان، ثم يطوف صفّ السّحجة من ساحة المقام متّجها نحو مركز القرية، وكان يشترك فيه غالبية الشّباب والرّجال.

فتقف النّساء على شُرف المنازل أو على السّطوح، فترشّ النساء الأرز فوق رؤوسهم، ثم تتعالى أصوات بعض العتابا والزّغاريد من على السّطوح أو من شرفة أحد البيوت. كل هذا والحادي يروح ويجيئ أمام الصفّ مع مجموعة من الشّباب المشجّعين والمحمّسين. فترى ثيابهم مبللة بالعرق لشدّة انسجامهم مع الحادي ومع أغانيه.

حدّثني والدي رحمه الله، أنه في الماضي كان الرّجال ينتهون من مجلس السّحجة والحدّاي، ويذهبون مباشرة لقراءة الدّور في الخلوة. وفي مرّة من المرّات عرف الحادي بأن البعض ينسحب من السّحجة بهدف التوجّه للخلوة فأنشد لهم قائلًا:
"عتب يا تارك الصّيوان  والزّور       وعمرك ما شهدت شهاد بالزّور
 يا رايح على بيت الله لتزور                      أمانه لا تنسانا من الدّعا"

بعد الانتهاء من السّحجة، يأتي الجميع إلى بيت والد العريس لتناول الطّعام الّذي أعدّته النّساء بأيديهن. وكان عبارة عن الأرز والدّجاج أو اللّحم، واللّبن والسّلطة وكبابي الكبّة.

بعد الانتهاء من ذلك، يجلس الحادي مع الشّباب في بيت أحد الجيران، ويذهب الرّجال والنّساء لإحضار العروس من بيت والديها سيرا على الأقدام، فيكون الرّجال في المقدّمة، والعروس في الوسط وتسير وراءها النّساء والصبايا، فتلزق الخميرة على عتبة باب بيت أهل العريس والعتابا تتعالى من كلّ حدب وصوب. ثمّ يأتي الشّباب بالعريس برفقة الحادي ويغنّون له أغان خاصّة، فيكشف عن وجه عروسه كما هو متّبع اليوم!

ثم يأتي صباح يوم الأحد، في بيت والد العريس، فتجلس العروس على الفراش الأرضيّ لابسة روبها الأبيض والفوطة على رأسها، وتأتي النّساء للمباركة والتّهنئة برفقة أزواجهن، يحملن على رؤوسهنّ "قُبعة" من القشّ من صنع أيديهن، وضعن فيها بعض السكّر أو القهوة الخضراء، أو البصل أو الأرز.

في هذا الحين تحضّر النّساء في بيت أهل العريس "الكبّة النيّة" للضّيوف المهنّئين، وتأخذ كلّ امرأة معها حصّتها إلى بيتها، وهي عبارة عن رغيف من الصّاج وضعت عليه كميّة من الكبّة وعليها بعض "الحوسة".  لا زلت أذكر انتظاري بفارغ الصّبر عندما تعود أمّي رحمها الله من العرس ومعها الكبّة في "القُبْعَة".

هذه الصور لا تفارق مخيلتي كلما أذهب إلى عرس من أعراس اليوم! وأتساءل: أين ذهب كل هذا؟ لماذا تغيّر كل شيء! في هذه الأيّام الجميع يتذمرون من كثرة الأعراس، ومن الرّوتين فيها! يشعر الكثيرون بأن الأعراس أصبحت عبئا ثقيلا على النّفس! لأنّ بعضًا من النّاس يقترض المال من أجل ذلك، والبعض الآخر يدخل في ديون كبيرة. يتذمر البعض أيضا من عدم تمكّنهم من قضاء أسبوع كامل في السّهر من أجل تناول الطّعام والشّراب والحديث.

لو نظرنا إلى يوم العرس في هذه الأيّام، في ساعة العشاء الّذي غالبا ما يقدّم في المتنزّهات المعدّة لذلك، نجد أنّ هذا الطّقس يستمرّ من ساعة حتّى ساعة ونصف بالكثير. فيضعون لك النقود في الصّندوق المعدّ لذلك، على أمل أن ترجعه لهم في يوم من الأيام! وتكاد لا تذكر من حضر إلى العرس لولا وجود شريط الفيديو الذي يوثّق هذا اليوم.

أنا أفهم مصدر هذا التذمّر! إنّه عرس الطّعام والشّراب! ما الّذي يميّزه عن المأتم؟ لا شيء! إنّك تأكل نفس الأصناف من الطّعام في الأفراح والأتراح! هنا تجلس لتأكل وتتحدّث، وهنا تفعل ذلك أيضا! اذن ما الفرق بين الاثنين؟

وماذا لو كان هناك أكثر من عرس واحد في الأسبوع، كم ستأكل وكم ستشرب؟! كم ستسهر وتقضي السّاعات في الحديث، كم مرة ستقول فيها: مرحبا وكيف الحال المصاحبة للقبلة على الخدّين؟! وماذا لو قصّرت في أداء هذا "الواجب"؟! سيقال عنك بالتأكيد بأنّك غير اجتماعي، أو غير إنساني!

لقد الغيت الزفّة والغيت الحدّاي والسّحجة ليأتي بدلا منهما "الأولام"! دائما يفتش الإنسان عن بديل! البديل هو الهروب إلى خارج القرية! اليوم لا تفرح الأم بابنها في بيتها؛ بل يهربون بعيدا عن الأنظار ليرقصوا ويغنوا بعيدا عن العيون الفاحصة المترقّبة؛ حتّى لا يشون بهم! ويعاملون معاملة المجرم أمام القانون! أي جريمة نكراء هذه لتستحق هذا العقاب!؟ يا الله! فرح الأم بابنها أصبح محرّما!! ليحلّ بدلا منه تعاطي المخدّرات، والشّذوذ في المسلك، وفي اللباس وفي العمل! إنّ مثل هذه الأمور لا تشغل بالنا بتاتا! ولا تسنّ القوانين الّتي تمنع ذلك أو تحدّ منه! المهمّ هو ما يحدث في العرس: هل سيكون "اولام" أم لا، هل سيزفّ العريس أم لا، هل ستكون حفلة شباب أم لا!! أي أنواع من الطّعام سيضعون على الموائد!! أما الزفّة فممنوعة طبعا ومحرّمة، تُسمح للأمهات في المآتم فقط!!

لا أدري أأضحك أم أبكي!! أي زمن هذا الذي نعيش فيه؟! ألهذه الدرجة تغيرت أحوالنا؟! فالمسموح أصبح محرّما، والحرام مسموح؟! تسنّ قوانين لا تمتّ للواقع بصلة! ولا تفيد في شيء ولا تساهم في تغيير الواقع إلى الأحسن؛ بل على العكس، إننا نلاحظ التّراجع في الأخلاق وفي السّلوكيّات وفي كثرة تعاطي السّموم والمخدّرات! والابتعاد عن العادات والتقاليد ونلاحظ التمسّك في القشور، أكثر من التمسّك في الجوهر! إنّنا نترك عادات قديمة لتحلّ محلّها عادات اشدّ سوءا منها!

בית

يقول البعض أنه ألغي الفرح بسبب الاختلاط بين الإناث والذّكور ويدّعون أنّه في الماضي لم يكن هذا الاختلاط! وهذا مضحك حقّا! فقد كانت النّساء تقفن على السّطوح والشّرف وتشارك في الزّفة أيضا، أي اختلاط بريء حيث تجمعهم الفرحة المشتركة والسّرور. ثم كانوا يتشاركون في العمل على البيادر وفلاحة الأرض وعلى عيون الماء. وأنا أتساءل:

هل قلّ الاختلاط عندما ألغى الفرح هذه الأيام ؟!  العكس هو الصّحيح! لقد ازداد وبشكل كبير وأصبحنا نشبه المجتمع الغربيّ تقريبا في كلّ شيء. الاختلاط موجود في العمل، في الباص، في سيارة الأجرة، في الشّارع وفي كلّ مكان وليس فقط في الأعراس! الاختلاط لا يصنع منك انسانا غير أخلاقي؛ وإنّما الأعمال بالنيّات!

عندما يُلغى طقس معيّن، من الطبيعي أن يحل محلّه طقس آخر، فقد ألغي العرس التقليدي (الفرح) ليحلّ محلّه "الأولام" لأن النّاس بحاجة في أعراسهم إلى أجواء من الفرح والسّرور. وفيه يكون الاختلاط كبير جدّا وقد تشرب فيه الكحول والمسكرات على أنواعها، وقد يتعرضون إلى حوادث الطّرق أيضا. لماذا نضع أنفسنا في مثل هذه الظّروف؟ أليس أفضل لنا أن نقيم العرس التّقليدي في القرية وعلى مرأى من عيون الجميع؟! أظنّ أنّ العرس القديم والفرح في البيوت على شتّى أنواعه،  أفضل بكثير من "الأولام"!

نحن نريد مجتمعا واعيا، يهتم بالجوهر لا بالقشور، متمسّكا بجذوره وبعاداته وتقاليده. يطرح الأمور على طاولة البحث ليقضي بين المفيد والزّائف، بين الجيّد والسيّء. نريد مجتمعا يتشارك فيه المتديّنون وغير المتديّنين في سنّ القوانين المفيدة للجميع. نريد مجتمعا يحبّ فيه الفرد لغيره ما يحبّه لنفسه. نريده مجتمعا معروفيا حقيقيّا كما عهدناه سابقا، إذ تغنّت كلّ الشّعوب بأصالته وعراقته ومبادئه وبسالته! مجتمعا يتمسّك بالجذور والجوهر، لا بالقشور والمنظر. والله من وراء القصد.

תגובות

10. أمال ابو فارس كاتبة المقال לפני 9 שנים
للأخ منير فرو " أبدعت فاتقنت"
9. منير فرو לפני 10 שנים
تحليل بعض الاسباب وما الت اليه
8. منير فرو לפני 10 שנים
تحليل الاسباب
7. المعقبة رقم 6 לפני 10 שנים
لماذا لا تكشيف عن هويتك؟
6. تلميذه في زمن سابق לפני 10 שנים
ديني لنفسي ودين الناس للناس
5. الكاتبة לפני 10 שנים
شكرًا اخ منير
4. منير فرو לפני 10 שנים
يا اخت امال كلنا يحن الى الماضي
3. אוסמה לפני 10 שנים
הלוואי שהחתונות יחזרו להיות כמו שהיו בעבר
2. ام غسان كامله نصرالدين לפני 10 שנים
اعراسنا بين الماضي والحاضر
1. מהא לפני 10 שנים
כל הכבוד על מאמר מעניין

מומלצים