جرائم متلاحقة 

هذا المخلوق الّذي ستنجبانه، عليكم مدّه بحاجياته الماديّة، والنفسيّة والعقليّة والرّوحيّة. وإن لم تكن لديكما الآليات المناسبة لذلك، فلتتعلما.

إن تلبية الحاجات الماديّة من مأكل وملبس وأمان جسديّ لا يكفي. فالطفل بحاجة إلى محبتكما، وإلى الشّعور بأنّه مهمّ. هو بحاجة إلى رؤيتكما متناغمين، وإن تخاصمتما، فلتتصالحا أمامه. إذ لا شيء يهذّب النفس بقدر المحبّة والاحترام والأمان النفسيّ. تبادل الشتائم والاتهامات والعنف سيشوه تصوره عن الزواج والحياة الأسريّة، سيشعره بالخوف والّذنب وتمنّي الخلاص. سيكون الشارع ملجأه ومأواه.

هو بحاجة إلى تأمين حاجاته العقليّة بالحوار، والأسئلة، والتجربة، والتشجيع، والمحاولة والشعور بالإنجاز. هو بحاجة إلى تجنيد غير القليل من الذّكاء الاجتماعي من أجل أن يحسن التخلّص من أولئك الّذين لم تهذّب نفوسهم. فعلّماهُ المرونة والمزاح والابتسام.

هو يحتاج إلى إشباع حاجاته الروحيّة بالفن والأخلاق والإيمان والمشاركة والإيثار. صوت الموسيقى يجب أن يكون سائدا، لا صوت الصراع والعير والنفير. ومن الأهميّة بمكان أن ينشأ بضمير متصل، لا مستتر ولا منفصل. 
الباعث على ما تقدّم هو الجريمة النكراء التي تعرّض لها الشاب الجامعيّ وحيد أهله، من قرية الرّينة المرحوم "يونتان نويصري"، وكل ذنبه أنه ركن سيارته أمام بيت أهله، ريثما ينزل حقائبه بعد عودته من إجازة في طابا، لكن الجناة الّذين أرادوا الطريق سالكة، لم يتحلّوْا بالصبر، فضربوه وطرحوه أرضًا وأدخلوا النّصل في صدره فكانوا إلى لقائه أسبق من والديه المنتظريْن. 

أشفق على الضحايا من القتلى، وأشفق على الضحايا من القتلة أيضًا. فهؤلاء لا يملكون ما يخسرونه، لم يعاملوا –على الأرجح-  بمحبّة واحترام، لم يلقوْا أي تجربة تصحّح اعوجاجهم، هم معنّفون في بيوتهم، وهم معنّفون في مدارسهم. المربّون –مع مهامهم المركبة الصعبة-  قد يغفلون أن المدرسة هي وكيل تغيير لهؤلاء مرضى التربية العشوائيّة أو انعدام التربيّة. فيا أيها المعلم والمربّي، ليس من المهارة والحكمة أن تعلم طالبا ذا خلفيّة اجتماعية مثالية أو مقبولة، فالتحدي الأكبر هو تعليم وتهذيب واحتواء الطالب المنكوب ذي الخلفيّة الاجتماعيّة المسيئة. هل الحل في أن تصرخ في وجهه؟ أن تضربه؟ أن تهينه؟ أن تشكوه لوالديه؟ إذن ستجعل المدرسة امتدادا لعالمه المريض البغيض. الحل هو في صدمه، والصدمة تكون بالحديث معه وإشعاره أن أمره مهم لديك. أهم شيء هو أن تكسب ثقته ثم قلبه. هل أزعجك أثناء شرح موضوع الفاعل؟ دعه يفعل. لكن لا تنس أن تناديه في نهاية الحصّة لتتحادثا، وتشعره كم أنك مهتم به وتحبّه. وحبذا لو جعلت بقية الطاقم يحذو حذوك، ولكن يكفي معلم ((إنسان)) واحد ليحدث الفرق المصيريّ. ولا تنس أن حالة التلميذ النفسيّة إن كان يتيم أحد الأبوين، أفضل بكثير من حال تلميذ لديه أهل ليسوا ذوي أهليّة ليكونوا أهلا.

وماذا بعد الدّوام المدرسيّ؟ أين الأطر التربويّة التي يمكن أن يمضي وقت فراغه فيها؟ وما هي الخطط السنوية للفتية المعرضين إلى الانحراف؟

وماذا مع الدولة؟ إنها تطالبنا بالشهادات، والتأهيل المهنيّ على أنواعه، وبرخص القيادة وغيرها. إننا لا نستطيع الانتساب إلى أيّة مؤسّسة دون شهادة أو إجازة، لكننا ندخل مؤسّسة الزواج دون أي تأهيل، فلماذا؟ إن مؤسّسة الزواج هي الأهم مجتمعيًّا وإنسانيًّا. ليت السلطات تلزم المقبلين على الزواج بدورات تأهيل وإلا يرفض طلبهم من قبل وزارة الداخلية.

حتّى هنا كان الحديث عن الوقاية ومحاولة منع الجريمة. لكن، ماذا بشأن ما يحدث؟ ففي مجتمعنا أفراد تخطتهم القيم الأخلاقية، فنشأوا دون روادع داخلية. وبدون هذه الروادع فهم يرتكبون كل ما يلحق الأذى بغيرهم وبأنفسهم. لقد ارتكب الجاني جريمته وانتهى الأمر. هنا يأتي دور الرّوادع الخارجيّة المتمثّلة بالقانون.

ثماني وعشرون جريمة قتل حدثت منذ بداية العام 2018، أي ثمانية وعشرون ملفا لدي شرطة إسرائيل. كم منها وصل إلى مكتب المدعي العام والقضاء؟ كم منها حظي بفك لغز الجريمة وتمّ التّعرف فيه إلى الجاني؟

لنقل أن مجتمعنا هو المسؤول الأول عما يحدث من جرائم، لكن الشرطة متهمة أيضًا بالتّقصير من جهة جمع السلاح من المواطنين، ومن جهة معالجة الأمر بعد حدوث الجريمة. إذ عليها العمل بجديّة من أجل معرفة القاتل وإنزال العقوبة القصوى به لردع سواه.

وأخيرا، تعمّدت ألا أتّهم الحكومات المتعاقبة بإهمال المواطنين العرب. آن الأوان لنطالب أنفسنا أولا بالإصلاح، فالتربية الصّالحة غير منوطة –غالبا-  بكبر الميزانيات، ولا بالمنهاج الحكومي التربويّ، بل بالضمير وسعة العقل والصبر والقدرة على مواكبة العصر بتنمية المناعة النفسيّة لدى المتربّي، وبجعل أنفسنا نماذج يحتذى بها. ولتكن تهنئتنا بالمولود الجديد: "قدركما الله على جعله من أبناء الصلاح".