بين الحكم العسكري ومكافحة الجريمة: حذار من ان يعيد التاريخ نفسه

هكذا هو التاريخ وهكذا هي السياسات او القرارات السياسية والحكومية، خاصة اذا كانت ارتجالية وغير مدروسة ولا تستند الى قرارات وخطوات واضحة ومعلومات مثبتة، فهي تعيد نفسها وتتكرر مرة تلو الأُخرى كما قال كارل ماركس: "التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة والثانية كمهزلة"،

14.10.2021 מאת: المحامي زكي كمال
بين الحكم العسكري ومكافحة الجريمة: حذار من ان يعيد التاريخ نفسه

 

وهكذا يمكن وصف ما نشهده في الأسابيع الاخيرة من حديث متزايد واقتراحات تتنوع حول إمكانية وطرق استخدام جهاز الأمن العام " الشاباك" والجيش في مكافحة العنف الذي يستشري في المجتمع العربي، والخطط الحكومية المختلفة، وهي خطط واحاديث بدأت ، دون قصد ربما، في نفس الوقت الذي تم فيه الكشف عن وثائق رسمية موثوقة تتعلق بالحكم العسكري الذي أُخْضِعَّ له المواطنون العرب في الفترة ما بين  إقامة دولة إسرائيل عام  1948 وحتى انتهاء الحكم العسكري الذي فرضته إسرائيل على العرب فيها حتى العام  1966، وخاصة دور جهاز الامن العام "الشاباك" فيه والذي لم يكن امنيًا فحسب بل اكثر من ذلك في تناولـه لقضيـة علاقة مؤسسـات دولـة إسرائيل مـع مواطنيها العـرب،  وهو تعامل يعكس ما قاله دافيـد بـن غوريون، رئيـس الـوزراء الأول لدولة إسرائيل ، معللا تشـدد أذرع السـلطة في تعاملهـا مـع المواطنين العـرب وجهودهـا للتضييق عليهـم: "يجب الحكـم على العرب ليـس مـن منطلـق ما يفعلـون ولكن يجـب التعامـل مع مـا يفكـرون بفعله" ، وهو ما يعني النظر الى المواطنين العرب وما يدور في اوساطهم على انه قضية امنية او من المنظور الأمني فقط وهذا ما فعله جهاز الأمن العام "الشاباك" في الفترة المذكورة، كما كشفت الوثائق التي سُمِح بنشرها وهي غيض من فيض ما يشمله الأرشيف الرسمي للدولة والذي تحكمه قرارات رسمية تسمح بنشر محتوياته بعد فترة تتراوح بين 15- 90عامًا وفقًا لقرارات لجنة وزارية خاصة، واعتبارات أمنية فقط تتعلق بمصلحة دولة إسرائيل كدولة يهودية فقط.

 

 

تزامن الحديث عن إشراك جهاز الأمن العام "الشاباك" في مكافحة الجريمة والعنف في المجتمع العربي في اسرائيل، مع المعلومات التي تم الكشف عنها حول مواقف أصحاب الوظائف الكبيرة في منظومة الحكم العسكري وفي "الشاباك" والتي تؤكد أن معظم هؤلاء رأوا بوجود الأقلية العربية في دولة إسرائيل خطرًا امنيًا يجب العمل على منعه بشتى الوسائل او أمراً مؤقتاً يجب العمل على تقصير مدته بكافة الوسائل؛ بما فيها الطرد والترحيل والإبعاد، مع الحفاظ على منظومة الحكم العسكري وتقييداتها وقيودها التي منعت أي إمكانية للتأطر السياسي او حتى الاجتماعي بل أرادت أبقاء المواطنين العرب رهائن خوف دائمٍ من عقوبات السلطة، وكرست شعورهم بالخطر الوجودي وهو الترحيل، مقارنة بالخطر الشخصي او الخطر على الأمن الشخصي السائد اليوم الذي يشكل في نظري مصدًرا يحتم التفكير مليًا  خاصة وان تجارب الماضي المتعلقة بعلاقة "جهاز الأمن العام " والمواطنين العرب انتهت الى نتائج سلبية ألحقت الضرر الاقتصادي والثقافي والأكاديمي والاجتماعي بالمواطنين العرب، وكرست أنماطًا اجتماعية بالية تضمن تجزئة العرب الى حمائل وقبائل وطوائف ومذاهب ما يسهل السيطرة السلطوية والأمنية عليهم ، في حالة تشكل نقيضًا تامًا للدولة الديمقراطية  التي عليها ضمان التوافق بين اثنين من مبادئ الديمقراطية الأساسية، وهما مبدأ حكم الأغلبية ومبدأ حماية حقوق الأقلية، وجعلهما عمادين متلازمين يرفعان من ممارسة الحكم الديمقراطي.

 

 

لم يكن الحكم العسكري ودور جهاز الأمن العام "الشاباك" خلاله، عملاً جاء من منطلق الاهتمام بما يصب في مصلحة المواطنين العرب بل من منطلق اعتبار كل ما يقومون به، حتى لو كان محاولة بسيطة للتنظيم الاجتماعي او السياسي او المطالبة بالمساواة والحقوق، عنفًا يشكل خطرًا على أمن اليهود والدولة اليهودية ، وهنا مربط الفرس، وسبب توارد وتكاثر الاقتراحات بإشراك "الشاباك" في مكافحة العنف في المجتمع العربي، بعد ان بات يشكل خطرًا على مصالح الأكثرية اليهودية ولم يعد ينحصر في الأقلية العربية، عملًا بقول المفتش العام للشرطة في حينه بنحاس كوبل:" علينا النظر الى كل خطوة من منطلق  كونها جيدة لمصلحة دولة اسرائيل ام لا وليس من منطلق كونها كذلك للمواطنين العرب . ما دام الأمر جيدًا لليهود فهذا ما نريده اما إذا كان لمصلحة العرب فعندها سوف يتدخل جهاز الأمن العام لمنع ذلك"..

 

 

ما جاء سابقًا يعكس توجهات الشاباك ورؤسائه وفقًا للمستندات والوثائق التي تم الكشف عنها مؤخرا في أعقاب توجُّه معهد "عكفوت" وتناولت النقاش الذي كان يدور في أوساط القيادة السياسية، حول مصير ما تبقى من المواطنين العرب داخل دولة اسرائيل، وهو نقاش دار بين من كانوا يؤيدون مواصلة ترحيل المواطنين العرب وانتظار ظروف عسكرية مواتية للقيام بعملية ترانسفير،، حتى بعد قيام الدولة عبر مواصلة طرد العرب من ّعدة قـرى ومدن كما في حالة طرد ّ السـكان المتبقيين في المجدل قرب اشكلون عام 1950 والذين بلغ عددهم ما يقارب 2700 نسـمة من أصل 10 آلاف نسـمة وقد تلقى هؤلاء أوامر طرد الى قطاع غزة لأن اسرائيل كانت بحاجة لهذه الأراضي لتوطين اليهود الشرقيين القادمين من الدول العربية، وهو الرأي الذي كان يمثّله بن غوريون وموشيه ديّان، وبين الرأي الأكثر اعتدالا الذي مثّله وزير الخارجية، موشيه شاريت حينها الذي ايد بقاء العرب مع "ضمانات" تمنع تحولهم الى خطر حيث كشف بروتوكول من عام 1960 عن توجه واضح لإبقاء العرب في إسرائيل في أدنى درجات السلم، بغية تسهيل إلحاقهم بالمجتمع الإسرائيلي

 

 

ويورد على لسان رئيس "الشاباك"، عاموس مانور عام 1956، أن دورهم في جهاز الأمن العام يندرج ضمن ضرورة الحفاظ على النظام الذي يعتمد تكريس التقسيم العائلي( والحمائلي والديني والمذهبي)  التقليدي واستخدامه كأداة سيطرة سهلة، والعمل على إبطاء سرعة تطوُّر العرب في إسرائيل وإعاقة تكوّن طبقة من المثقفين بينهم، قد تسبب مشكلة مستقبلية لإسرائيل، مضيفًا ان لا خطر من انصاف المثقفين او حتى من المثقفين الذين ينخرطون في تكريس المنظومة العائلية والقبلية والحمائلية  والطائفية وهو ما زال سائدًا لدى العرب للأسف الشديد اليوم ايضًا-  وهو ما تم عبر وضع العراقيل والصعوبات امام قبول المواطنين العرب لمؤسسات التعليم العالي او قبولهم وفق حصص او "كوتا" ووفق توصيات من جهات امنية أو قيادات عربية تتشدق بالوطنية لكنها تخضع للسلطة

 

 

أما  يهوشوع فيربين الحاكم العسكري بين السنوات 1962-1964 فقد كان أكثر وضوحًا  حين قال:" العرب اليوم يختلفون عن أولئك الذين كانوا عام 1948، والذين أخذنا منازلهم وسكتوا ، انهم الجيدون ومعهم تدبرنا امورنا . لقد طردنا نصف مليون عربي، حرقنا بيوتا وسرقنا أراضيهم، لم نسترجعها كما ندعي، نحن نريد أن نقول للعرب: افرحوا بما فعلناه بكم، لكننا سرقنا الأرض وما زلنا نسرقها، تحت ادعاء إنقاذ الجليل’"، ومع هذا فقد استبعد اختلاق كارثة حربية يتم تحت كنفها او دخانها طرد العرب، معترفًا ان قيام دولة إسرائيل ضايق العرب وسيضايقهم لسنوات طويلة قادمة.

 

 

وبين هذه التصريحات وبين ما يحدث اليوم علاقة وثيقة رغم مرور خمسة وخمسين عامًا على نهاية الحكم العسكري الذي سيطر على الأقلية العربية بثلاث طرق منها إبقاء وتشجيع التفرقة الموجودة والقائمة على أسس دينية وطائفية وعائلية كما اليوم تمامًا عبر تشجيع توجهات أُصولية والسكوت عنها ثم إدعاء محاربتها بعد ان يَشْتَد عودُها،  واستيعاب نخب عربية بواسطة تسهيلات خاصة ومن منطلق توصيات من جهات ذات صلة دون علاقة بالمقومات والمؤهلات، وتعزيز التبعية للاقتصاد في المجتمع اليهودي عبر إبقاء الحالة الاقتصادية للعرب دون المتوسط وكذلك وضع التربية والتعليم والأكاديميا تطبيقًا لقول رئيس الشاباك عاموس مانور من ان الثورات يُحْدِثُها المثقفون وليس البروليتاريون أي الطبقة العاملة التي تعتمد في معيشتها على الأغلبية او أنصاف المثقفين، فهذه المنطلقات الثلاثة سابقة الذكر هي التي ما زالت تحكم موقف أجهزة الأمن تجاه المواطنين العرب ، بما فيها جهاز الأمن العام وربما الشرطة  وبالتالي فإنها حتى في العام 2021 تتدخل ليس لأن تدخلها في مصلحة المواطنين العرب ولضمان أمنهم وسلامتهم وحياتهم الرغيدة بل ان هذا التدخل يجيء انطلاقًا من كونه في مصلحة اليهود، خاصة في حالات تعتقد فيها هذه الأجهزة بوجود خطر على الأغلبية اليهودية فهي تعمل وفق ايمانها ان المواطنين العرب لن يصبحوا مخلصين لدولة إسرائيل مهما طال الدهر كما جاء على لسان رئيس جهاز الأمن سابقًا يوسي هرملين الذي قال ان الحل كان يجب ان يكون ترحيل العرب جميعًا لكن ذلك أصبح غير عملي اليوم ،او قول المستشار للشؤون العربية في وزارة الخارجية عزرا دانين الذي قال انه لا يمكن لإسرائيل ان تطلب دعم العالم بينما هي تنفذ اعمالًا وصفها بالفاشية ومنها التبادل السكاني، وبالتالي فإن تدخل الشاباك لمنع العنف ومكافحته انما يشكل اعترافًا وإقرارًا بأَنَه أصبح مشكلة تهدد أمن اسرائيل اليهودية وليس العرب في اسرائيل فقط وهذا ربما يشكل الايجاب الوحيد في هذا المجال،  لكنه يعكس من جهة أخرى استمرار النظرة السلطوية الرسمية للدولة تجاه المجتمع العربي وما يشهده، من منظور أمني فقط،  مع ضرورة الإشارة هنا ألى أن الشاباك الذي يطالب كثيرون بإشراكه في مكافحة العنف في المجتمع العربي، كان موجودًا دائمًا وأبدًا في المجتمع العربي لكنه عمل فقط على مكافحة ما اعتبره مخالفات أمنية لأنها تمس بأمن الدولة وكيانها وسلامة مواطنيها ، لكنه لم يحرك ساكنًا لوضع حد لهذا العنف وكان ذلك باستطاعته ، كما نجح بشكل منقطع النظير في مواجهة التحركات التي يعتبرها خطرًا أمنيًا في المناطق الفلسطينية المحتلة.

 

 

في هذا السياق لا بد ، بغض النظر عن تأييد  أو معارضة مشاركة الشاباك في مكافحة العنف بوسائله الالكترونية المتقدمة وغير المتوفرة ربما في أي جهاز امني آخر محليًا بل عالميًا والتي لا تترك شاردة ولا واردة، أن نتذكر التصريح الذي أدلى به أحد كبار ضباط الشرطة قبل ثلاثة أشهر فقط قائلًا ان المجرمين الذين يقودون الإجرام الخطير والمنظم  في الوسط العربي هم في الغالب مساعدون لجهاز الأمن العام( عملاء)  ولا يمكن لمسهم، ما يعني مرة أخرى تغليب مصلحة الدولة الأمنية على مصلحة المجتمع العربي في الأمن والأمان، والبحث عما هو جيد للدولة وليس للمواطنين العرب، هذا إضافة الى انه من المتعارف عليه ان جهازًا سريًا مثل جهاز الأمن العام، يعمل دون إشراف مناسب وبدون شفافية ويمكن لأفراده ان لا يمثلوا امام المحاكم بعكس افراد الشرطة الملزمين بذلك ، لا يمكن أن يُعهد إليه بأمور مدنية تتعلق بالحقوق  الأساسية للأقلية العربية ما سيحول او قد يحول قرار الحكومة، خاصة أذا ما ثبتت صحة الاحاديث حول إشراك الجيش أيضًا في مكافحة العنف، إلى خطوة خطيرة ، هي استمرار لسياسة إسرائيل تجاه مواطنيها العرب منذ أيام الحكم العسكري بما في ذلك جزئية خطيرة للغاية هي محاولة تسويغ الاعتقالات الإدارية.

 

 

وعودة الى البداية، وكي لا يتكرر التاريخ لا كمهزلة ولا كمأساة، وكي لا يتضح ان إدخال الشاباك لمكافحة العنف هي "كلمة حق اريد بها باطل" او عملية تكللت بالنجاح في جزئيتها المحدودة لكنها الحقت الضرر البالغ كقول الأطباء:" نجحت العملية الجراحية ومات المريض" يجب ان يتذكر أصحاب القرار ان الشاباك وحده ليس العصا السحرية بل ان مكافحة العنف تحتاج خطة عمل مدروسة كتلك التي انتهجتها الحكومة مطلع القرن الحالي وتحديدًا بعد عام 2003 ، حين قررت ضرورة مكافحة منظمات الإجرام في البلدات اليهودية ووضعت لذلك خطة موحدة شملت الشرطة وأجهزة الأمن الأُخرى وسلطة الضرائب وسلطة مكافحة غسل الأموال وهو ما يجب تكراره في المجتمع العربي إضافة الى ان على الخطة ان لا تكتفي بالجانب الشرطي- الأمني بل ان تشمل اقتراحات مبلورة ومدروسة أهدافها  كبح ظاهرة تهريب الأسلحة من معسكرات الجيش، مكافحة الفقر والبطالة وانعدام الحلول السكنية، ومواجهة  احدى الظواهر المساعدة للعنف والجريمة وهي  الشباب غير المؤطر ُ في المجتمع العربي وسد الفجوات في التعليم ومكافحة التسرب وتخفيف المعوقات التي تمنع الالتحاق بالتعليم الاكاديمي وتنجيع عمل السلطات المحلية بحيث يزول العامل الحمائلي العائلي لها ( تصويت القطيع) في الانتخاب والتعيينات إضافة الى التغيير الجذري في الاختيارات والطروحات وبناء مؤسسات فاعلة من شخصيات ذات رصيد فكري إنساني وحضاري، ودعم نشاطات اندماج الشبان العرب في المجتمع الاسرائيلي خاصة تعزيز فرص النجاح في الانخراط والعمل، والا فستكون النتيجة كشف جرائم جنائية من جهة دون إعطاء حلول جذرية للمسببات كمن يعالج نتائج المرض اعراضه وليس مسبباته، او كمن يبني قصورًا من رمال.

 

 

 

قبل كل ذلك الأساس هو العمل على تغيير نظرة الشرطة الى المواطنين العرب على أساس امني وتذويت هذا التغيير عبر تصرفات وتوجهات لا تكتفي بزيادة عدد "محطات" الشرطة دون زيادة الملكات والميزانيات وتنجيع اختيار العاملين في سلك الشرطة وزيادة معرفتهم بخصوصيات المجتمع العربي وحساسياته، ودون اشتراط مكافحة الجريمة بتعاون المواطنين وارشاد الشرطة الى مسببي ومرتكبي الجرائم، فهذا امر لم تشترطه الشرطة من المجتمع اليهودي، وحولته الى عذر ومبرر لقصورها في وجه العنف في المجتمع العربي ، ناهيك عن إن على المجتمع العربي القيام بدوره الاجتماعي والتربوي والسياسي و إثارة القضية بصورة مستمرة وإبداء المسؤولية الكبيرة تجاهها، وتأكيد واجب الحكومة  ضمان امن المواطنين العرب كونهم مواطنين متساويين وتركيز الضوء على واجب القضاء على ظاهرة الجريمة في المجتمع العربي وطرح الموضوع على رأس سلم الأولويات بشكل دائم ومستمر وليس موسمي، فالتغيير يبدا من الذات عبر محاسبة شخصية وقبل وضع اللوم على الآخرين.. لنبدأَ بأَنفسنا. 

 

 

תגובות

מומלצים