توافقات اقتصاديّة لا تُفْسِد لخلافات السياسة قضيّة

وتأبى الوقائع على أرض الواقع إلا أن تثبت، مرّة تلو الأخرى، أنّه من الخطأ تحليل العلاقات الدوليّة، أو السياسة الدوليّة، وكأَنّ الاقتصاد والسياسة هما مجالان أو حقلان يمكن الفصل بينهما من جهة، أو الربط بينهما من جهة أخرى،

02.12.2021 מאת: المحامي زكي كمال
توافقات اقتصاديّة لا تُفْسِد لخلافات السياسة قضيّة

 

 أي أن تتّفق السياسة والاقتصاد حتى يشكّل الاقتصاد تجسيدًا للسياسة والدبلوماسيّة، وأن يتلوها، وأن يتماشى معها في الأهداف ويتوافق معها زمنيًّا، أو أن يتناقض هذان المجالان وأن يتعاركا، علمًا أنّ معظم الأبحاث التي أجراها الباحثون في السنوات الأخيرة من القرن العشرين أكّدت أنّ لا مجال للفصل بين الأمرين، بل إنّ هناك حاجة ماسّة للجمع بين علم الاقتصاد الدوليّ وعلم السياسة الدوليّة، بغية فهم القوى الفاعلة في العالم، لأنّ بعض القضايا والمسائل الهامّة تتجاوز حدود التقسيم بين هذين المجالين، وتثبت أنّ بينهما علاقات وارتباطات متبادلة ومتشعّبة تتّفق أحيانًا وتتنافر وتتقاطع أحيانًا أخرى، ويخلي أحدها الساحة أحيانًا أمام الآخر، ليسبق الاقتصاد السياسة، أو تسبق السياسة الاقتصاد.

 

 

هذا ما أكّدته الأيّام الأخيرة في قضيّتين هامّتين تحمل كلّ منهما أبعادًا دوليّة وعالميّة، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالشرق الأوسط، أولهما قضيّة أسعار النفط والخلاف أو حتى الحرب الدائرة حولها بين الولايات المتحدة والصين والهند وكوريا الجنوبيّة  واليابان من جهة، وبين منظمة أوبك+ ( أوبك بلوس) التي تضمّ الدول المصدّرة والمنتجة للنفط ومعها روسيا.

 

والثانية قضيّة اللاجئين من الشرق الأوسط وآسيا الذين يقرعون أبواب الدول الأوروبيّة منذ سنوات، جرّاء الهزّات الأرضيّة والقلاقل التي أصابت الشرق الأوسط جرّاء ما اتّفق على تسميته " الربيع العربيّ"، والتي طالت ليبيا وسوريا والعراق وتونس والسودان وأفغانستان التي سقطت مؤخّرًا في أيدي حركة "طالبان" بعد انسحاب الجيش الأميركيّ منها، مخلّفة مناظر اقشعرّت لها الأبدان، منها قيام نساء أفغانيّات بإلقاء أطفالهن باتّجاه الجنود الأميركيّين، لعلّهم ينقذونهم، وهرب الشبّان الأفغان من بلادهم متعلّقين بحبال الهواء وعجلات الطائرات ليسقطوا إلى موتهم المحتوم.

 

 

القضيّة الأولى، أي قضيّة أسعار النفط والتوتّر بين الولايات المتحدة خاصة ومنظمة "أوبك بلوس"، بلغت مسامع الرأي العام بعد أن أعلن البيت الأبيض الأسبوع الماضي،  أنّ الرئيس جو بايدن أمر باستخدام 50 مليون برميل من مخزون الولايات المتحدة النفطيّ الاستراتيجيّ، الذي يفوق 600 مليون برميل من النفط،  بالاتّفاق مع دول أخرى من بينها الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبيّة وبريطانيا، في محاولة للتخفيف من حدّة ووتيرة ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالميّة ولممارسة الضغط على الدول الأعضاء في منظمة" أوبك بلوس" لزيادة إنتاجها بكمّيّات أكبر، علمًا أنّه تلا هذا الإعلان الأمريكيّ إعلان مماثل من الهند بأنّها ستتنازل عن 5 ملايين برميل من احتياطها الاستراتيجيّ بالتنسيق مع صديقاتها، ومنهم اليابان  التي قال رئيس وزرائها فوميو كيشيدا، إنّ حكومته تدرس سحب النفط من احتياطها ردًّا على ارتفاع أسعار النفط الخام ، علمًا أنّ الصين أعلنت في وقت سابق استعدادها لاستخدام احتياطها الاستراتيجيّ، بعد دعوة الولايات المتحدة إلى الانضمام لهذه الخطوة التي أصبحت سياسيّة، رغم أنّها كانت اقتصاديّة أساسًا، جاءت على خلفيّة مطالبة الولايات المتحدة للدول المنتجة والمصدرة للنفط برفع سقف إنتاجها اليوميّ من النفط بنفس الوتيرة التي تمّ فيها خفضه بعد اندلاع وانتشار آفة الكورونا مطلع 2020 استنادًا إلى تعهّد تحالف" أوبك بلوس" في نيسان 2020 عندما تراجعت أسعار النفط  الخام بحدّة بسبب الموجة الأولى من الوباء، بسحب 9,7 مليون برميل في اليوم من السوق، على أن تعاود ضخّها تدريجيًّا خلال الفترة الممتدّة حتى نهاية نيسان 2022.  إل أنّه اتّضح للدول في  هذه  المنظّمة أنّ المهلة تبدو قصيرة جدَّا في ضوء الوتيرة الحاليّة لزيادة الإنتاج، إذ إنّ دول التحالف لا تزال "تقتطع" 5,8 ملايين برميل في اليوم من إنتاجها، وإنّ هذه الدول وفي مقدّمتها السعوديّة وروسيا تريد إعادة الإنتاج إلى سابق عهده بوتيرة تحدّدها هي، ودون مناقشة طلب أميركا وغيرها  زيادة من 400 ألف برميل يوميًّا ابتداءً من الشهر الحالي، ليعلن الكرملين أنّ روسيا لا تزال ملتزمة بالوفاء بتعهّداتها في "أوبك بلوس".

 

 

لم يكن هذا التعاون، سابق الذكر، ليحظى بالاهتمام لو كان سببه التفاهم والإيمان المشترك، وليس المصلحة الآنيّة  والانسجام، ولم تكن الأحداث لتحظى بهذا القدر من الاهتمام لو كانت اقتصاديّة بحتة، فهي ليست اقتصاديّة، بل سياسية  اقتصاديّة. وإلا كيف نفسّر موقف الإمارات العربيّة المتحدة التي أرادت رفع إنتاجها من النفط، ليتماشى مع طلبات الدول المستهلكة، وكيف نفهم مطالبتها للمنظمة بإعادة احتساب السقف الأعلى لإنتاج كلّ دولة من النفط، محتجّة على أنّ سقف إنتاجها تمّ تحديده من قبل دول أخرى (قيادة المنظمة التي ترأسها عادة المملكة العربية السعوديّة منذ أيّام أحمد زكي اليماني) دون استشارتها ودون الأخذ برأيها، في إشارة إلى أنّ السقف الإنتاجيّ تمّ تحديده في أيّام خالية كانت فيها السعوديّة الدولة العظمى الوحيدة في الخليج، دون أن تنافسها اقتصاديًّا أو سياسيًّا أي دولة، كما تفعل الإمارات اليوم.  وكيف نفسّر أن تتّفق الصين والولايات المتحدة على اتّخاذ هذه الخطوة بعد أيام قليلة من قمة الرئيسين الأميركي  جو بايدن والصيني شي جين بينغ، والتي تمحورت معظمها حول النقاط الخلافيّة، وعلى رأسها الحرب التجاريّة الجارية بين البلدين، وزيادة الضغط الصينيّ على تايوان، إلى جانب قضيّة حقوق الإنسان في الصين وخاصّة قمع السلطات الصينيّة لأقليّة الإيغور المسلمة والسكان في التبت وقمع الحركة المؤيّدة للديمقراطيّة في هونغ كونغ، ما يعني أنّ هذا "التحالف المؤقّت" هو  مزيج من السياسة والاقتصاد، وتغليب على ما يبدو، للاقتصاد، عبر مشاركة الصين في خطوة تشاركها فيها الهند، غريمها في آسيا، وكوريا الجنوبيّة العدوّ اللدود لحليف الصين كوريا الشماليّة بشكل اعتبره كثيرون ربّما خروجًا عن نصوص معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة منذ  تموز 1961، وهي المعاهدة التي قال عنها الزعيم الصينيّ آنذاك ماو تسي تونغ إنّها "تجعل المسافة بين الصين وكوريا الشماليّة كقرب الشفاه من الأسنان "لكوريا الشماليّة، وتجعل الصين الداعم، وهي تغليب للاقتصاد على السياسة بين أكبر المؤثّرين في سوق النفط وهما السعوديّة وروسيا، اللتين باستطاعتهما إغراق السوق بمزيد من الخام بشكل سهل، ومن ثمّ دفع الأسعار إلى أقلّ من 50 دولارا للبرميل، هذا رغم " مواجهتهما واختلافهما السياسيّ" في قضايا عديدة، منها إيران والشأن النوويّ وشراء النفط الإيرانيّ ما يشكّل كسرًا للقيود والعقوبات الأميركيّة على طهران، ناهيك عن الخلاف الكبير حول دعم روسيا بوتين لنظام بشار الأسد في سوريا، وعلاقة روسيا الحميمة مع تركيا أردوغان التي تسود علاقاتها مع السعوديّة شبه قطيعة منذ اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، واتّهام تركيا للسعوديّة وولي عهدها محمد بن سلمان بالمسؤوليّة المباشرة عن عمليّة الاغتيال داخل القنصليّة السعوديّة في إسطنبول. تجدر الإشارة إلى أنّ قضيّة احتياطي النفط في الولايات المتحدة  وتحديدًا  تكوين الاحتياطي النفطيّ الاستراتيجيّ بدأت عام 1975 بعد أن أدّى حظر النفط العربيّ إلى ارتفاع أسعار البنزين، وألحق الضرر بالاقتصاد الأمريكيّ، فلجأ بعض الرؤساء إلى السحب من الاحتياطيّ لتهدئة أسواق النفط خلال أوقات الحرب، أو عند حدوث أعاصير تسببت في تعطّل البنية التحتيّة النفطيّة على امتداد الساحل الأمريكيّ على خليج المكسيك.

 

 

هذا ما كان فالخلاف الاقتصاديّ بين الصين والولايات المتحدة تنحّى جانبًا لاتّفاق سياسيّ اقتصاديّ محدّد حول النفط، تغذيه توتّرات سياسيّة بين روسيا بوتين وأميركا بايدن وصلت حدّ اتّهام بايدن لبوتين بأنّه مجرم، وخلافات بين الولايات المتحدة وولي العهد السعوديّ أساسها قضية حقوق الإنسان والحرب في اليمن، وقد وصلت قضيّة جمال خاشقجي إلى أقصى صورها باتّصال الرئيس الأميركي بالملك سلمان، رغم أنّه غائب عن الساحة وعن التأثير، وتجاهل ولي العهد محمد بن سلمان الذي يعتبره العالم كلّه باستثناء أميركا، الآمر الناهي وصاحب القول الفصل اقتصاديًّا وسياسيًا في السعودية. وهو سياسيّ في الخلاف بين الأمارات والسعوديّة حول وتيرة زيادة إنتاج النفط، فالإمارات تريد مواصلة دورها القياديّ في الخليج بعد أن كرّسته في قضيّة الحرب على اليمن والحصار على قطر والاتّفاقيات التصالحيّة مع إسرائيل بدعم أميركيّ تريد الإمارات الحفاظ عليه.

 

 

قضيّة اللاجئين في أوروبا هي القضيّة الثانية التي تؤكّد أنّ الاقتصاد يمكن أن يؤدّي إلى تغيير السياسات، خاصّة بعد أن تفاقمت خطورة الوضع الإنسانيّ لطالبي اللجوء العالقين بين حدود بيلاروسيا وبولندا، في وقت هدّد فيه الرئيس البيلاروسيّ ألكسندر لوكاشينكو بردّ قاس في حال فرض الاتّحاد الأوروبيّ عقوبات جديدة على بلاده على خلفية الأزمة، التي قال كثيرون عنها إنّ الرئيس البيلاروسي يحاول أن يضغط بواسطتها على دول الاتّحاد الأوروبيّ بهدف دفعها للاعتراف بشخصيّته كرئيس، والتحدّث معه وإنهاء العقوبات التي فرضها الاتّحاد على بلاده. في المقابل هناك من يعتقد أنّ المتورّطين بهذه القضيّة هم مجموعة كبيرة من الدول تتصارع على النفوذ وتستخدم هؤلاء اللاجئين كورقة ضغط ورسائل فيما بينها، في حين رأت ألمانيا أنّ الوقت قد حان لزيادة العقوبات، وسط نقاش حادّ بين الدول الأوروبيّة وداخلها حول اللاجئين ومكانتهم والمواقف والآراء المسبقة التي ترافقهم، والتي تؤدّي بالكثيرين إلى نبذهم ومعاداتهم لأسباب واهية، كما يؤكّد الكاتب " جايل ميريت"  لصحيفة " فايننشال تايمز" في كتابه الخاصّ بعنوان:" القوى العاملة: لماذا نحن بحاجة إلى المزيد من اللاجئين ؟" وسنعود إليه لاحقًا.

 

 

الخلاف حول قضيّة اللاجئين يستمرّ وسط انتقادات واسعة لسياسة القادة الأوروبيّين التي تأتي من منطلق إيمانهم أنّ إبقاء مشروع أوروبا الخالية من الحدود، يعني أن تكون الهجرة قضيّة أوروبيّة شاملة تخلق سياسة أوروبيّة موحّدة ومتّفق عليها لمواجهتها. وهي سياسة لم توضع بعد ويقينًا أنّها لن توضع لتبقى السياسة  المتّبعة تجاه قضية اللاجئين، ومعظمهم إن لم يكن كلّهم من الشرق الأوسط ( الدول العربيّة)، أو الدول  الأسيويّة المسلمة الفقيرة كأفغانستان والباكستان وبنغلادش، تجري على المستوى الوطنيّ، أي أنّها سياسة تحدّدها كلّ دولة على حدة بما في ذلك قرارات الهجرة المتعلّقة بالأفراد الذين يصلون إلى الاتّحاد الأوروبيّ، سواء كان وصولهم نظاميًّا أم غير نظاميّ، أو كانوا طالبين للجوء أو لاجئين. وهي سياسة تختلف بل تتفاوت، كما جاء في أقوال وزير الخارجيّة الفرنسي- لورين فابيو- حول السور الذي شيّدته هنغاريا لصدّ المهاجرين: "لأوروبا قِيَم وهذه القيم لا تُحترم إذا وضعنا أسيجة شائكة لحلّ مشكلة الهجرة. يجب حلّ المشكلة هذه بطريقة تُحترَم فيها هذه القيم"، في أفضل تعبير عن الوضع الحاليّ، وفيه تسنّ كلّ دولة أوروبيّة سياستها على المدى البعيد والقريب حول اللجوء، والحماية، وإعادة التوطين، وإدارة الهجرة غير النظاميّة، أو ملاحقة المُتّجرين بالبشر والمهرّبين، وفي بعض الأحيان قد تتصرّف تلك الدول بمفردها لمعالجة حاجاتها، وفي أحيان أخرى قد تُبرِم اتّفاقيات ثنائيّة لتعزيز الحماية، وبناء القدرات والتصدّي للأزمة الإنسانيّة.

 

 

هذا الحال يتزامن مع تفاقم النقاش حول اللاجئين وتأثيرات تواجدهم في أوروبا على ضوء ادّعاءات المعارضين للاجئين من سياسيّين يمينيّين وناشطين آخرين يؤكّدون خشيتهم من أن يؤدّي تدفّق اللاجئين إلى تغيير صبغة وشكل الدول الأوروبيّة، وأن يؤدّي إلى خلل في تركيبتها السكانيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة. ويبرز الادّعاء أنّ اللاجئين يستولون على أماكن العمل المعدّة أصلًا للأوروبيّين (تمامًا كما تتكرّر نفس الادّعاءات في تركيا تجاه اللاجئين السوريّين)، وهي ادّعاءات فنّدها زعماء أوروبيّون منهم المستشارة الألمانيّة السابقة أنجيلا ميركل، التي فتحت أبواب بلادها أمام اللاجئين، ليأتي الكاتب جايل ميريت مؤكّدًا استنادًا إلى أبحاث معهد:" أصدقاء أوروبا" الذي أسّسه عام 1999 أنّ كلّ هذه الادّعاءات عارية عن الصحّة، وأنّ تدفّق اللاجئين إلى أوروبا يشكّل في نظره ومن منطلقات اقتصاديّة أولًا "عصا الإنقاذ أحيانًا" لأوروبا، التي تعاني دولها مشاكل اقتصاديّة وانخفاضًا في إنتاجيّتها  ونقصًا كبيرًا في الأيدي العاملة. وبالتالي فإنّ استيعاب اللاجئين وتمكينهم من العمل خاصّة في مجالات يتوسّل أصحابها للأيدي العاملة، يعني إدارة عجلة الاقتصاد عبر زيادة الإنتاج، وزيادة مدخولات الدول من البضائع للاستهلاك الداخليّ أو للتصدير إلى الخارج، ناهيك عن زيادة مدخولات الدولة من الضرائب الماليّة والبلديّة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية لأصحاب المصالح الاقتصاديّة الذين يبحثون عن عمّال بكلّ الطرق المتاحة، وهو ما تعكسه وتؤكّده "إعلانات طلب العمال" التي تزيّن أبواب معظم المحال التجاريّة والمصانع في المدن الكبرى في معظم الدول، ناهيك عن دورهم في وضع حدّ لظاهرة تهدّد وجود بعض الدول بشكل فعليّ، وهي " تقلّص عدد السكان" التي ستؤدّي وفق استطلاعات وأبحاث رسميّة إلى تقلّص عدد سكان الدول الأوروبيّة بنسبة 7% حتى العام 2100، أي بنحو 30 مليون مواطن من أصل 448 مليون مواطن، ناهيك عن انكماش الفئة الشابّة من السكان التي تؤدّي مثلًا في إيطاليا إلى تقليل، أو انخفاض عدد السكان من 60 مليون اليوم إلى 50 مليون بعد 25 سنة.

 

 

يُضاف إلى كل ذلك الاعتقاد الخاطئ بأنّ استيعاب اللاجئين يكلّف خزينة الدول الأوروبيّة ملايين الدولارات لكلّ لاجئ. فقد أشار الكاتب إلى أنّ تكلفة استيعاب كلّ لاجئ تتراوح بين 60- 130 ألف دولار، ما يعني أنّه بإمكانه" تسديد" تكاليف استيعابه خلال أربعة أعوام أو خمسة على الأكثر إذا عمل كأجير أو كمستقل، علمًا أنّ الكاتب لا يتجاهل المشكلة الثقافيّة التي تبرز في صفوف اللاجئين وخاصّة في فرنسا وبلجيكا بشكل أقلّ، مشيرًا إلى أنّ الحكومة الفرنسيّة لم تستثمر ما يكفي من الأموال والميزانيّات في هذا الشأن، ولم تفعل ما يكفي لمنح اللاجئين الشعور بأنّ فرنسا تريدهم مواطنين متساوين، وليس مواطنين من الدرجة الثانية،  وبالتالي تركت الساحة خالية أمام حركات سياسيّة واجتماعيّة ودينيّة متطرّفة جرّتهم إلى تطرّف سياسيّ ودينيّ، كما فسحت المجال أمام عوامل اجتماعيّة ومنظّمات جنائيّة لاستقطابهم إليها.

 

 

في هذا السياق، لا مجال للتغاضي عن مخاوف الأوروبيّين من سيل أو نهر متدفّق من اللاجئين يجعل أوروبا قارّة ثنائيّة الثقافة. وهنا يشير الكاتب ميريت إلى النفاق الأوروبيّ والخلاف حول التعريفات الممنوحة للقادمين من الشرق الأوسط وآسيا، فهل هم مهاجرون يجب إعادتهم إلى دولهم بعد أن تستقرّ الأمور- كما تراه الدول الأوروبيّة- أم أنّهم لاجئون، لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو أمنيّة وعسكريّة،  يحقّ لهم الحصول على اللجوء السياسيّ- تمامًا كالنقاش في إسرائيل حول الأفارقة في منطقة تل أبيب. وهل هم مهاجرون غير شرعيّين أم لاجئين- يجب مساعدتهم كلّ حسب خصوصيّاته، ودون أن يتمّ ذلك بشكل جماعيّ وتلقائيّ.

 

 

من جهة أخرى، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ما سبق من قضايا يشير إلى القضايا الأساسيّة التي تشغل، أو ستشغل العالم في العقود القادمة، وهي قضايا الطاقة الجديدة، التي ستستبدل النفط الذي سيختفي وينتهي وفق التقديرات خلال 20 عامًا، وما يرافق ذلك من التأثيرات البيئيّة على انبعاث الغازات الملوّثة، كما جاء في قمّة المناخ في اسكتلندا مؤخّرًا، وقضايا الانفجار السكانيّ خاصّة في المناطق الفقيرة، إذ تشير الأبحاث إلى أنّ عدد السكان في أفريقيا سوف يزداد من 1.2 مليار نسمة اليوم إلى 2.5 مليارًا عام 2050، مقابل تضاؤل عدد سكان القارة الأوروبيّة الغنيّة، ما سيزيد من محفّزات الهجرة من أفريقيا والشرق الأوسط إليها.

 

 

ختامًا، يبدو أنّ الاقتصاد هو القيمة الأولى للعلاقات بين الدول خاصّة مع ازدياد المؤشّرات إلى أنّ العقود القادمة ستشهد قلّة في مصادر الغذاء وضمورًا لمصادر المياه، ما يعني أنّ كلّ دولة ستُعنى بمواطنيها أولًا من باب:" أولى لك فأَولى"، أو " الأقربون أولى بالمعروف".

 

 

תגובות

מומלצים