تجارب سايكودرامية في مشفى الأمراض النّفسيّة..!

13.12.2018 מאת: آمال ابو فارس
تجارب سايكودرامية في مشفى الأمراض النّفسيّة..!

 السايكودراما العراقية!

ما هي "السّيكودراما(Psychodrama) "إنّه مصطلح يطلق على نوع من أنواع العلاج النّفسي، ويتكوّن من كلمتين: "دراما" وهي النّص الّذي يتمّ تمثيله، و"بسيخو"  أي علم النّفس. يتم من خلاله تفريغ الشّحنات السّلبية المتواجدة في داخل الإنسان عن طريق تمثيل دور شخصيّة معيّنة في المأساة التي عانى أو ما زال يعاني منها، كالتعرض للعنف الجسدي، أو الكلامي، أو النفسي. أدخلت "السيكودراما" الى المدارس في السّنوات الأخيرة كوسيلة لعلاج الطّلاب ذوي الاحتياجات الخاصّة.

من خلال الورشات الّتي يلتحق بها المدرّسون، ورشة: "السيكودراما". في هذه الورشة يقومون أحيانا بتمثيل أدوار لشخصيّات أثرت بشكل سلبيّ على نفسيّتهم وما زالت تؤثّر.

في هذا التقرير الموجز سأتحدث عن تجربة فريدة قام بها الاديب والكاتب المسرحي والفنّان كريم عبدالله من العراق.

إن العمل الّذي قام به هذه الأديب والفنّان العراقيّ في مستشفى الأمراض النّفسيّة لهو عمل فذّ فريد، اعتمد على طريقة السيكودراما أي التمثيل، يقوم من خلاله المريض بتمثيل الدّور الذي كتب نصّه أديبنا الرّائع، بعد أن يُمَرَّن عليه مرّات عديدة، ثمَ يمثّل الدّور على المسرح أمام الجمهور. فمن خلال عمليّة انتحال الشّخص (الممثّل) للدّور الّذي يقوم بتمثيله، يحدث التّطهير النّفسي ويتمّ اسقاط الشوائب الّتي تراكمت فوق نفسيّة المريض فيحدث الشّفاء.

 هناك أعمال سيكودراميّة عديدة في العالم مع أناس عاديّين لكن أن تكون وسيلة علاج في مستشفى للأمراض النّفسيّة، ربما كان هذا العمل الأوّل في العالم، بحيث أنّه تمّ في مستشفى للأمراض العقلية!

يصف الأديب كريم عبدالله تجربته السّيكودرامية في مستشفى الأمراض النفسية، مستشفى الرشاد التدريبي للطّبّ النّفسي في العراق من خلال حلقات متسلسلة وثّق فيها تجربته هذه فأخذنا إلى أجواء مسرحيّة ناضجة من إبداعه. وقد كرّس وقته الثّمين وماله الكثير في سبيل هذا العمل الإنساني، وإن دلّ ذلك على شيء فإنّه يدلّ على سخاء كاتبنا ومحبته للإنسان فمن يشعر بمسؤولية اتّجاه الغير لن يكون إلّا رمزا للانسانيّة. وكم بالحري عندما يكون الاهتمام في مجموعة لا يلتفت إليها أحد. وهذا الامر جديد في وسطنا العربيّ. هذه التّجربة لخصها لنا أديبنا وجعلنا نغوص في هذه التّجربة الفريدة كمشاهدين؛ لنستنبط منها العبر، ولنعلم أنّ في بلد حرقت أذياله الحروب كانت هناك أعمال عظيمة أضاءت سماء الإبداع في العراق، وليس بجديد على بلد كانت وما تزال مهد الحضارة البشريّة.

عمد الكاتب الفنّان كريم عبدالله إلى الوقوف على كنه وحجم المعاناة الّتي يشكو منها المرضى في هذا المستشفى، من المقرّبين لهم، وبات على يقين بأنّ عليه أن يوصل صوتهم إلى ذويهم، الّذين لهم ليسمعوا عن معاناتهم ولم يدركوا أنّه في داخل كلّ إنسان مريض نفسيًّا يوجد إنسان يشعر ويحس، يحزن ويفرح كأيّ أي إنسان اخر.

هذا الموضوع أخذني إلى ذلك المحاضر الفذَ الّذي التقيتُ به في إحدى المحاضرات، يومها قال أنّه لا يوجد إنسان مجنون، وإنّما هناك إنسان اختار أن يكون في هذا الدّور ليريح نفسه من شيء ما كي يسهّل عليه التّعايش مع الإحباط الّذي يعاني منه.

وقد شاهدنا يومها فيلما قصيرا لطالب طُلب منه أن يمتَحَن في موضوع معيّن. وكلما اقترب منه معلمٌ ليمتحنه يضرب نفسه على رأسه بمقلمته بقوة فيتركه المعلم ويذهب. إلى أن جاء معلّم يفكّر بشكل مختلف، فقال له: "حسنا.. اضرب نفسك كما تريد.. أنا هنا... سأنتظرك حتّى تنتهي من ذلك وسوف امتحنك لا مفر لك...!" عندما أحسَّ بجدية وتصميم المعلمّ عرف الطّالب أنّ هذه الألاعيب لن تفيده فجلس وعمل امتحانه.

"إن المريض النفسي يبقى داخله إنسان كأي انسان آخر له مشاعره وأحلامه وتطلّعاته". هذا ما صرح به الكريم عبدالله. وتصريحه هذا عبارة عن إثبات للطّرح الّذي ذكرته سابقا عن الطّالب الّذي ادّعى الجنونيّة.

في الماضي عولج هؤلاء المرضى بطرق عديدة منها الرّسم والأشغال اليدويّة والموسيقى؛ لكنّ أديبنا فكر في عمل عظيم يعالج بواسطته هؤلاء المرضى بمساعدة ومشاركة زميل له يدعى (إياد جاسم) وهو معالج تأهيلي يعمل معه. فكّرا في طرق علاج جديدة لم يتطرّق إليها أحد من قبل. فكانت النتيجة أن خطَطا لعمل مسرحيّة يكون أبطالها المرضى أنفسهم المتواجدين في المشفى، كان هذا بمثابة برنامج علاجي طويل الأمد اشترك فيه عدد من المرضى وجسّدوا أدوارا دراميّة مختلفة أمام أنظار المشاهدين وعلى خشبة المسرح. وأثبتا للعالم أنّ الإنسان المريض عقليا ما زال إنسانا مثلنا تماما، يحس كما نحسّ ويشعر كما نشعر، الفرق بيننا وبينه أنّ الزمن جار عليه أضعافا منّا ليخرج عن طوعه في التّحكّم بعقله فغلبت أحاسيسه على واقعه واضطرته إلى التّقوقع داخل ذاته.  

يقول الفنّان كريم عبدالله من خلال حديث معه عن هذه التّجربة:

"إن عالم المرض النفسي والعقلي عالم ساحر وجميل ومغريّ وغريب في نفس الوقت . فالاشتغال مع المرضى النفسيين والعقلين في مسرحية لهو مجازفة، واللّعب في منطقة خطرة جدّا؛ فإما أن تنجح معهم أو تسبب لهم الفشل والخذلان وازدياد المعاناة. اذا كنت تريد أن تقدّم عملا كهذاعليك أن تتحلّى بالشّجاعة والثّقة بالنّفس والاجتهاد والمثابرة. أنا لست مؤلّفا مسرحيّا ولا مخرجا أيضا لكنّني أهوى المسرح وأعشقه، فمن خلال اطّلاعي على المدارس المسرحيّة وقراءاتي للكثير من المسرحيّات العالميّة والمحليّة وعن فن الإخراج المسرحي، أصبحت لديّ تجربة لا باس بها، فقرّرت أن أستغلّ ما عندي من إمكانيّات بسيطة كي أستخدمها في مجال عملي".

التقرب من المرضى العقليين ليس امرا سهلا، بل فيه مجازفة وخطورة فإما ان تنجح معه او تسبب له الاذى. فعليك ان تختار اللحظات المناسبة للتقرب منه والوصول الى اعماقه كي تستطيع ان تستحوذ على قابليات التواصل عنده ليكون معك بأحاسيسه ونفسيته.

يضيف الكاتب كريم أنّه علّم نفسه الفنّ المسرحيّ من خلال الأعمال الّتي كان يشاهدها، فقد كان يركّز في الشّخصيّات وعلى طريقة تفاعلها على المسرح وطريقة اللّغة الجسديّة الّتي تستعملها لجذب المشاهدين، ثمّ صياغة الجمل القصيرة الهادفة الّتي بواسطتها يمكن بث رسالة الكاتب وهدفه من هذه العروض المسرحيّة.

  لقد استطاع الكاتب الكريم بعد الجهد الكبير الوصول إلى أكبر عدد من المرضى، ونجح في عمل مجموعة تعمل معه على المسرح، وكتب نصّا مسرحيّا يتلاءم مع كل شخصيّة من الشخصيّات ومع قدراته وقابليّته في التّواصل مع المدرّب، ومع خشبة المسرح. وقد درّبهم أحيانا بشكل فرديّ وأحيانا أخرى قام بتمثيل الدّور أمامهم كاملا كي يقلّدوه في الحركات وفي النّص المحكي.

 المريض العقلي ليس شخصا عاديّا، إنّه يعاني من خلل في ثقته بنفسه، وخلل في عملية التواصل مع الاخرين، إنّه نمط من السّلوك الغير عاديّ والمختلف جدّا أحيانا عما هو مألوف في المجتمع. فكيف استطاع كمدرّب وكاتب مسرحيّ زرع الثّقة في نفس المريض من أجل الوقوف على المسرح أمام المشاهدين من دون خوف وتشجيعه خطوة تلو أخرى على تعلم الدور، هنا تكمن أهميّة هذا العمل العظيم.

ليس هناك طريقٌ خالٍ من الحجارة! فقد واجه الأديب والكاتب كريم صعوبات عديدة خلال العمل  لأنّ ذاكرة المريض أحيانا تصاب بعطب تجعله لا يستطيع التّواصل مع الاخرين والمجتمع إضافة إلى اضطراب في السّلوك والتّفكير وعدم المقدرة على الكلام، وكذلك صعوبة الحركة بسبب العلاج الدوائي. إضافة الى كلّ ذلك هناك صعوبات في إيجاد مريض مؤهّل مستقر يمكن الاعتماد عليه والتّعاون بصورة إيجابية معه ومع باقي المرضى الممثّلين، وكذلك مدى تحمّله للضّغوط الّتي قد تحدث أثناء العمل مع المرضى الآخرين، وكيفيّة تطويعه لتقبّل شخصيّته والشخصيات الأخرى، وكيف يمكنه أن يزرع في نفوسهم الأمل للنّجاح، على الرغم من الصّعوبات التي قد تواجهه دائما كانتكاسة بعض المرضى الممثلين، وعدم مقدرتهم على الاستمرار في العمل المسرحي مما يتطلّب البحث مرة أخرى عن مرضى مناسبين للعمل وتكثيف العمل معهم من أجل للوصول الى يوم العرض بأمان .

لقد أحدث هذا العمل تطوّرا كبيرا في العلاج النّفسي للمرضى، فجميع المرضى والمريضات الّذين اشتركوا في الأعمال المسرحيّة في المستشفى خرجوا إلى ذويهم ولم يدخلوا المستشفى مرّة أخرى، والذين لم يخرجوا أصبحوا يعتمدون على نسبة قليلة جدّا من العلاج الدّوائيّ إضافة لاستقرارهم النّسبيّ.

من خلال هذه التّجربة المسرحيّة حاول الأديب الفنّان كريم أن يبثّ رسالة إلى المجتمع من مسؤولين ومنظّمات مجتمع مدني والعائلات، بأنّ المريض العقليّ والنّفسيّ هو إنسان مهما حدث له وبإمكانه العيش ضمن المجتمع بشرط الاهتمام به وتهيئة ظروف معيشة مناسبة له. لكن يبدو أنّ هذه الرسائل كانت دائما تصطدم بثقافتنا وجهلنا بالمرضى النّفسيين.

يقول الكاتب بكل ثقة وشجاعة: "أنا أوّل من استخدم العلاج بالسايكودراما في مجال الطّبّ النّفسي، ربما كانت هناك محاولات بسيطة في أماكن أخرى من العالم، لكن أن يقف المريض أمام الجمهور ولمدة ساعة إلى ساعتين وهو متماسك ويؤدّي دوره بحرفيّة عالية، فهذا لم يحدث الّا معي وهنا في العراق!"

لقد كتب أديبنا نصوصا مسرحيّة خاصّة بالمرضى النفسيّين والعقليّين، كما كتب بعض المسرحيّات البعيدة عن عالم المرضى منها: مسرحية ( نائب الموت ) وهي نبوءة عمّا سيحصل في العراق لاحقا. وفعلا فقد تحققت هذه النبوءة. كما كتب بعض المسرحيّات الشّعريّة مثل مسرحية (رحيل النوارس(.

 

תגובות

מומלצים