دراسة نقدية تحليلية ذرائعية لمكاشفات شعرية

26.10.2019 מאת: عبد الرحمان الصوفي المغرب
دراسة نقدية تحليلية ذرائعية لمكاشفات شعرية

 

دراسة نقدية تحليلية ذرائعية لمكاشفات شعرية  (شاعر يرفض توقيع قصيدته ) للشاعر مجد الدين سعودي / عنوان الدراسة النقدية الذرائعية ( ديوان في ميزان فلسفة الفكر الإسلامي القديم والمعاصر ) / الدراسة من إعداد الناقد الذرائعي

عبد الرحمان الصوفي / المغرب 

 الجزء الأول 

أولا : المقدمة 

يعد التاريخ خزانا مهما كمنبع من منابع الإلهام الشعري ، الذي يعكس الشاعر من خلاله صورا شعرية ذاتية أو مجتمعية تساير روح العصر ، فيسير بناء الماضي  وفق رؤية إنسانية معاصرة ، تكشف عن هموم الإنسان ومعاناته وطموحه وأحلامه ، وهذا يعني أن الماضي يعيش في الحاضر ويرتبط معه في علاقة جدلية تعتمد على التأثير والتأثر . فيجعل النص الشعري ذا قيمة توثيقية يكسب حضورها دليلا ناصعا محكما ، وبرهانا مفعما دالا على كبرياء الأمة التليد وحاضرها المجيد ، أو حالات انكسارها الحضاري ، وكذلك مدى انعكاسه على الواقع الحاضر والمعاصر ، ويتضح من خلال أوجه التشابه يبن أحداث الماضي ، وواقع العصر وظروفه ، إن سلبا أو إيجابا ، وفي هذا كله يطلق الشاعر العنان لنفسه وخياله ووجدانهة ليكشف عن صدى وصوت الجماعة ، وصدى نفسه وذاته ووجدانه  في إطار الحقائق التاريخية العامة . عرف هذا اللون الشعري تطورات ومسارات متعددة ، سواء قبل زمن ما قبل الحداثة أو زمن الحداثة وزمن ما بعد الحداثة ...

كانت الحداثة أيديولوجية وأفكار شاملة يعتقد روادها أنها ستظل قائمة أبد الدهر ، مدعية أن لديها حلولا جاهزة لكل مشكلات العصر حاضره ومستقبله ، على اعتقاد أنها تملك مفاتيح الحقيقة المطلقة ، وعلى أنقاضها ظهرت نزعة ما بعد الحداثة راسمة مسار الحقيقة النسبية في كل ميادين الحياة الفكرية والعلمية والفنية والأدبية ...

وإذا نظرنا إلى الشعر العربي لشعراء ما بعد الحداثة ، فإنه يبرز أمامنا بوضوح استخدامهم لتقنية القناع التي برعوا في استخدامه ، فتطورت بتطور التجارب الشعرية التي لاقت انتشارا واسعا في العالم العربي ، ونعني بالقناع تقنية ما يصطلح على تسميته ( الإلماعية ) ( 1 ) التي هي عبارة عن إشارة في القصيدة إلى شخصية أو حادثة أو أسطورة أو عمل أدبي ، بهدف استدراج القارئ لاستحضار صورتين متوازيتين قوامهما نص حاضر وآخر غائب أي المزج بين لحظتين تاريخيتين في صورة منفردة أو كلية أ. تناص بأشكاله المختلفة  ...

سنركز في دراستنا الذرائعية ( ديوان في ميزان فلسفة  الفكر الإسلامي القديم والمعاصر  )  للمكاشفات الشعرية المعنونة ب ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) ( 2 ) لمجد الدين سعودي على المفاتيح التالية : (  ما بعد الحداثة - البعد التاريخي – المضمر المسرحي – التصوف ) .

ثانيا : توطئة : 

جاء في الفصل السادس في كتاب ( الذرائعية ) في التطبيق للدكتور عبد الرزاق عودة الغالبي ( 3 ) : ( إذا كانت الموسيقى لغة عالمية تفهمها وتتفاعل معها كل مخلوقات الكون من بشر وحيوان ونبات وجماد . وإن كان الأدب انعكاس وجدان الأديب على مرآة من ورق . يحدد ملامحه بقلم من فكر . يستمد مداده من روحه ومعتقده . جاعلا من تجاره الشخصية والعامة مخزونا لا ينضب . يضخه كلما ضغطته الحياة . فإن الشعر تحديدا هو متنفس النفس وحديث الروح ، والقلب للقلب ، والعقل للعقل ، حديث محمول على بساط من الخيال ، يطير بنا عبر الأثير ، ينقلنا مع آلامه ، ننتشي بانتصاراته ، نتأجج بحماسه ، نجاريه في عشق وولهة ...

الشعر هوية ، إن لم نقل أنه بصمة يتفرد بها كل شاعر ، تتضافر في صنعها عدة عوامل شتى ، أو خلقيات مختلفة تنبت في تربة الشاعر الرسالية والنفسية والتربوية والإنسانية الأخلاقية ، وتشكل بالجمل شخصيته الإنسانية والفكرية التي توسمه كبصمة تميز ، ومنها ينطلق نحو الانتشاء والشهرة ، لذلك ليس من السهل أن تفهم أي عمل أدبي بمعزل عن هذه البصمة ، وهذا ما يسمى بالتكنيك ، أي بصمة الشاعر التي يتميز بها عن الآخرين ، فإن لم تكن موجودة فيه ، فهو إذا يقلد ، كما أنه ليس لنا أن نقيم العمل الأدبي ما لم يمتلك قاعدة نقدية عريضة ، تمكننا من الغوص في عمق أعماق العمل الأدبي دون وجل ، وفيها نتمكن من استخراج ما غاب عن الأنظار من مخبوءات في تلافيف وجدان الأديب عموما ، أو الشاعر خصوصا ، آخذين بعين الاعتبار أن الشاعر قد ائتمننا على دواخل الحشا ، وعيننا حراسا على نبضات وجدانه ، ووضع بين أيدينا عصارة فكره ومشاعره ، فلا نستسهل أو نستهين بما بين أيدينا ، بل علينا أن نحمله بمنتهى العناية ، ونتفحصه بكل اهتمام وعناية ، ونتعامل معه بكل احترام وتقدير ... ) .

ثالثا : السيرة الذاتية للشاعر 

الاسم : مجد الدين سعودي / من مواليد مدينة ( وادي زم ) / مدينة المقاومة والمناضلين .
الصفة : أديب وناقد وإعلامي / المدير المسؤول السابق عن موقع أنوال 24 الالكتروني 
الإصدارات :
- مكاشفات  شعرية  ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) 
- مجموعة قصصية ( وصف ما لا يوصف )
- مجموعة قصصية ( قناع هراء ) 
- إدريس أمغار مسناوي ( الإنسان ، القصيدة ، المستقبل ) دراسات نقدية في بعض دواوينه الزجلية 
- مليكة الجباري : عنقاء اللوكوس ( الكتابة ، الوجود ، التمرد ) مقاربات نقدية في دواوينها الأربع 
- مكاشفات شعرية / وتأتي المليكة غماما ...

نشر الكاتب عدة دراسات أدبية ومسرحية وسينمائية في عدة جرائد ورقية مغربية .
قيد الطبع مسرحية وأعمال أدبية أخرى .

رابعا : البؤرة الثابتة في نصوص مكاشفات شعرية  ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) 

كما جاء في كتاب ( الذرائعية في التطبيق ) أن البؤرة الثابتة من صفات النص الرصين المتكامل للشروط النصية البنائية والجمالية لاحتوائه على إستاتيكية وديناميكية التنصيص في الأفكار والأيديولوجيات الإنسانية وحتى في الشكل البصري ، فنلتمس تلك الحطة ( البؤرة الثابتة في النصوص ) . للكاتب مجد الدين سعودي في ديوانه توجه فكري وأيديولوجي معارض لقوى الشر بكل مسمياتها والمتواجدة في مختلف مناحي الحياة ، يتميز بإستراتجية فكرية ونظرة خاصة إلى مجتمعه الصغير والكبير المنفتح على الإنساني وهي رسالة لإنسانية لا يتميز بها إلا الكتاب الكبار ، وتتضح البؤرة الثابتة من خلال فعل ( يرفض ) في العنوان ، والرفض تحث أيديولوجية معارضة لكل أشكال الفكر المسيطر .
من هذه البؤرة أنطلق إلى كشف مخبوءات النصوص من خلال الدلالات السيميائية والدلالات الرمزية والمعاني المؤجلة ، كنوافذ أناقش فيها نصوص الكاشفات الشعرية .

يقول في قصيدة ( ضاقت العبارة ) ص : 158 والتي مهد لها بقول ل " الحلاج "  : ( ألسنة مستنطقات ، تحت نطقها مستهلكات ، وأنفس مستعملات ، تحت استعمالها مستهلكات ) .

           1 
لجميل بن عمر 
حكايات العشق والتضحية 
والبوح 
والتصالح مع الذات 
والتخاصم مع البقبيلة الفتيلة 
تنهد جميل بن عمر ...
صمت كل الدهر 
أجابه الرفيق الشيخ معاذ بن سهل : 
( الحب أصعب ما ركب ، وأسكر ما شرب ، وأفضع ما لقى ، وأحلى ما اشتهى ، وأوجع ما بطن ، وأشهر ما علن ) ... 

إن معرفة البشرية لذاتها قادها إلى تساؤلات عديدة عبر مر العصور، لذلك صار الإنسان عمق التفكير الفلسفي والبحث العلمي، من هنا نشأت العلوم الإنسانية ، بالرغم أن مايميز الإنسان هو الفكر المجرد والنسق النفسي والأخلاقي . الشعر بدوره استلهم النزعة الإنسانية من هذه الحقول المعرفية ، مغلبا الجانب الروحي على الجانب المادي .
الشعر هو السعي إلى أعلاء الفكر وقوة العقل وتغليبه على اللاعقل ، الشعر ظاهرة حياتية إنسانية وجدانية ، لا نجد له الدليل العلمي كنسق مرتبط بالظاهرة اللغوية ، بل يدخل في بنية الإنسان العقلية وامتزاجها بالحياة من خلال الزمان والمكان والأحاسيس والعاطفة . الشعر قبل أن يكون أبحرا وعروضا وقوافي ، هو إلهام وغوص في أعماق النفس الإنسانية . تقول هاجر العرباوي : " يرتبط الالتزام بالأدب التزاما موضوعيا ، وقد يرتبط بالحياة كذلك اتباطا وثيقا مما قد يضفي على شعور الأديب والفنان إحساسا قويا ، وهكذا فالأديب ابن بيئته يسعى دائما إلى ربط معاناته بالواقع المعاش ...." ( موقع ديوان العرب ) ( 4 ) 
نجد الشاعر " مجد الدين سعودي "   بني بؤرة نصوص ديوانه على محاور متماسكة ومتكاملة من القيم الإنسانية المثلى التي ينبغي أن تسود بين الناس وأفراد المجتمعات ، ومرتكز القيم المثلى عند الشاعر في العقل  ، وهذه القيم المثلى هي كلية مشتركة بين الإنسانية .
بؤرة الديوان  من النوع الرصين لأنها تتضمن استاتيكية ودينامكية التنصيص مع الفكر الفلسفي المتضمن للدلالات السيميائية  والرمزية المؤجلة في منطق فلسفي عقلاني .

خامسا : الاحتمالات المتحركة ، أو ديناميكية النصوص في المكاشفات الشعرية   .

1 - قراءة سيميولوجية لغلاف المكاشفات الشعرية  ( شاعر يرفض توقيع قصيدته )

غلاف الديوان لونه أسود ، وهذا اللون من أكثر الألوان شهرة وتفضيلا لدى أغلب الناس ، حيث يعتبر ملك الألوان ، ويستعمل بكثرة في الطباعة لتأثيره الواضح والقوي ، يحمل اللون الأسود العديد من المعاني والدلالات والتفسيرات ، يرتبط جانب منها بالإيجابي ، وجانب آخر بالسلبي ، فهو يترافق مع الشر والموت والغموض . يتوسط اللون الأسود دائرة كروية الشكل ، مقسمة إلى قسمين ، قسم يتكون من ماء وتراب ، والقسم الثاني من لهيب نار ...الدائرة نبض حقيقي لعدة قضايا إنسانية ، إنها تدخل ضمن المنطلق الإيماني بالقدر خيره وشره ، وحياتها مليئة بالدلالات التشكيلية والفلسفية والوجودية ...التشكيل الدائري يحمل الكثير من المتضادات والمتناقضات ، لا غنى عنها سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل ...والدائرة لغة تعني الهزيمة والسوء والشر الكثير ، يقول الله عز وجل في كتابه العزيز : ( ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ) التوبة آية 98 . مكونات الكرة التي تتوسط واجهة غلاف الديوان تدخل ضمن مكونات العالم في الفلسفة ( النار ، الماء ، الهواء ، التراب ) ، وقد تطرقت لهذه المكوات العديد من المدارس الفلسفية . وتحيلنا لوحة الغلاف الكرية على المبدأين الأساسين في الفلسفة الصينية ( البانغ والين ) المشهورة ، أي من الاثنين ينشأ الثلاثة ، والثلاثة معا تمثل الواحد .

2 - قراءة سيميولوجية لعنوان المكاشفات الشعرية  ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) 

عنوان يستفز القارئ ، فيجعله يطرح عدة أسئلة منها ، لماذا يرفض الشاعر توقيع قصيدته ؟ ، وهل قصيدته طلبت منها التوقيع ؟ ، وهل القصيدة تحتاج إلى توقيع ؟ ، هل التوقيع هو القصيدة ؟ وغيرها من الأسئلة التي سنحاول إيجاد أجوبة عنها ونحن نغوص في أعماق قصائد الديوان .

وضمن بنية العنوان تفاجئنا ( مكاشفات شعرية ) ، والمكاشفات مصطلح صوفي يحمل في طياته التداخل والامتداد والتوالد الدلالي ، تجعل القارئ يتوغل بعيدا في منافي اللغة الصوفية ومعجمها ، ( مكاشفات ) من باب تطويع العبارة والارتقاء بها إلى حياة الإشارة المنفتحة على المتن الشعري في نصوص الديوان . المكاشفات عند المتصوفة إشراقة تنتهي بالسالك إلى كشف وارتفاع الحجب والارتواء برؤية المحجوب ، فإذا كان البصر يمكن الرائي من مشاهدة الأشياء المحسوسة ، فإن قوة البصيرة لدى العارف تمكنه من خرق الحجب ( الظاهر / الباطن ) . يقول " محيي الدين ابن عربي " : " الكشف هو الخروج من الحجاب على وجه الذي يدرك ( به ) صاحب الكشف شيئا لم يدركه قبله ..." ( 3 ) .

فهل ستسلك قصائد الديوان طريق المكاشفات الصوفية ؟ ذلك دافع من دوافع غوصنا في قصائد ديوان ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) .
جاء في كلمة الإهداء ما يلي : ( واعلم – رحمك الله – يا رفيقي ... وكن رفيقا ل ( ابن الرومي – وابن القارض – وابن أمية – وابن عربي – وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه – والتبريزي – والحلاج ...) . على ضوء فكر هؤلاء ستتم دراستنا الذرائعية للاحتمالات المتحركة للنصوص الديوان ، والتي قسمناها إلى قسمين : 

( المقام الأول / مكاشفات النعيم ) ، تتصدره قصيدة ( إشراقات ( الكفة الأخرى ) .

، المقام الثاني / مكاشفات الجحيم ) ، وتتصدره قصيدة ( ملحمة النيل ) .

3 - سيميولوجية الإهداء في المكاشفات الشعرية  ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) 

يدخل الإهداء في الديوان عند مجد الدين سعودي ، فيما يمكن توصيفه ( ما قبل النص ) له قيمة تعليقية رمزية ، نتعرف من خلالها قصة وهدف العمل الأدبي ، بما فيها من ظروف وحيثيات أججت الإبداع ، وجعلت منه شعلة متقدة ، ونظرا لأهمية الإهداء كأداة من أدوات حفرنا وغوصنا في نصوص الديوان . يقول " جميل حمداني " : " يرفق كثير من الكتاب والشعراء والمبدعين نصوصهم الإبداعية بذكر الإهداء ، باعتباره نصا موازيا للعمل الأدبي ، يقدم النص ، ويعلنه ، ويؤطر المعنى ، ويوجهه سلفا ..." ( 4 ) 

، نقدم للقراء الإهداء  كاملا ، وكما جاء في الصفحة (3) من الديوان :

الإهداء : ( واعلم – رحمة الله – يا رفيقي ، أن الحياة الفانية ستضيق بك وستعيش المعاناة والجور والقلق والتوزيع الغير عادل للثروة ووأد الثورة في مهدها ، فالتجأ يا رفيقي إلى العشق ليفعم قلبك بالأمل والتمرد ، والتجأ إلى المناجاة الكاشفة ، كن رفيقا للحياة لتكون الحياة رفيقة لك مدى الحياة ...وكن رفيقا لابن الرومي ، وابن الفارض ، وابن أمية ، ابن عربي ، ابن طفيل ، علي بن أبي طالب ، التبريزي ، الحلاج ...واعشق المقامات والحلول والاتحاد ، وكن للحلاج سندا ونصيرا ، فالحسين بن منصور الحلاج ، سيد المتصوفة ، والذي إذا تكلم أفاض ، وإن أحب فنى في عشق المحبوب ، وهام في ملكوت المعرفة ...واعلم سيدي الحلاج ، أن شطحاتك روحية وسامية ، ولهذا أوصي كل صديق أن يكون حليما وقت الشدة ، عاشقا في وقت الضيق ، ثائرا وقت الخضوع والخنوع ، كاشفا للحق وجاهزا للحق ...إلى كل رفيق ثائر وعاشق للربيع ومحب للمعرفة وسيف على رقاب الظالمين ...اهدي مجموعتي الشعرية ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) . 

4 - المقام الأول / مكاشفات النعيم : 

للفرد المبدع سلطة مطلقة على اللغة بحيث يتحكم فيها ويتصرف كذلك فيها بحرية وإرادة دون إكراه أو إرغام ، فاللغة لسان يحمل سلطة اجتماعية محايثة له ، وهذه السلطة قائمة على الفعل في اللغة ، والتي هي الخاصية المميزة للإنسان ، فتكشف عنه ككائن مفكر عاقل ، بل هي نمط حياته المجتمعية ، والفكر لا وجود له خارج اللغة ، لكن هل اللغة تعبير شفاف وكشاف تواصلي كامل النوايا والمقاصد ؟ وبعبارة أخرى ألا تصير اللغة وسيلة للإخفاء والتمويه ؟ هل توحد اللغة البشر أم تفرقهم ؟ الأجوبة على هذه الأسئلة وغيرها ، ستكون في صلب اهتمامنا ونحن نغوص في هذه المكاشفات ... 
المقام الأرض الخصبة والتجربة الوجدانية الوجودية ، ذات أبعاد دينية وميتافيزيقية ، تبدأ بخروج الإنسان من نعيم الجنة وهبوطه إلى الأرض ، عالم المتناقضات المتفاعلة في استمرار الحياة ، فيصبح مقام النعيم الرغبة الدفينة والملحة على عودة الإنسان إلى أصل النعيم .

لنلاحظ القصيدة المعنونة ب( إ شراقات ( الكفة الأخرى )) ، تبتدئ أول هام بقول جلال الدين الرومي ( واعلم عظمة العشاق ...من أعظم ما يعشقون ) ، ثم تبدأ القصيدة التي جاءت مرقمة القفلات  ( من 1 إلى 7 ) ، نقتطف منها الآتي    :
     
      1
في كفة 
اجتمعت نساء العالم 
دخلن الحمام للمكاشفة 
تعرين 
وتحدثن عن اللمس 
والبخار والجنس 
أزلن الأوساخ وأرحن الأبدان 
ارتحن من عناء العمر 
واسترحن من الأشجان 
والكلام المباح )
           2
في كفة 
اجتمعت نساء العالمىة
بصخبهن وضجيجهن 
تحدثن عن العشق والعاشقات 
الجميلات الماكرات 
القبيحات والناكرات 
السافرات والحجبات 
الشطحات والمقامات 
            3
في كفة 
كانت نساء الأرض 
تسافرن 
نحو المجهول 
بحثا عن الصواعق والخوارق 
والبيادق والنمارق والحرائق 
وقال لي حكيم الكلمة ابن الفارض : 
( وإذا صفا لك من زمانك واحد 
فهو المراد وعش بذاك الواحد ) 
كل واحدة بقصة 
وغصة 
وعشق ممنوع 
وحب وثني 

دائرة مقنعة يحضر فيها جلال الدين الرومي ، عالم فقه الحنفية والخلاف وأنواع العلوم والتصوف ، والشاعر الملتزم بتعاليم الدين الإسلامي السمحة ، حيت استطاع بها جذب أشخاصا من ديانات أخرى ...عرفت أشعاره بالموسيقى الروحية المساعدة المريد على تعرف الله والتعلق به وحده .
الكفة  الجماعيي أصبح في القصيدة مقاما يجمع الروح والنفس والقلب والسر ، وهي أسماء لمسمى واحد ( القفلة ( 5 ) من نفس القصيدة / في كفة أخرى اجتمعت نساء العالم - لتشاهدن غرق التيتانيك - وأغاني العشق - وقصص المجانين - والحب الممنوع - والعشق الحلال أو المحال ) ... هي الكفة الأخرى التي جمعت نساء العالم ، الروح في الجسم هي البحر اللطيف ، أما النفس فهي منبع الأخلاق بنوعيها الجميل والقبيح . ثنائية النفس / الجسد من باب تمجد النفس والعقل وتحتقر الجسد من خلال تجاوز عوائق تطهير النفس من الرذائل والشهوات الرديئة والنزوات الفاحشة التي تعلق بها . بحيث لا يصير العقل والهوى على طرفي نقيض . وتحيلنا القصيدة على لوحة غلاف الديوان ومكوناتها الأربع المؤثرة في حياة الإنسان .

جاء في قصيدة (واو النسوة : أنوار وأسرار ) والتي تتكون من خمس قفلات مرقمة من ( 1 إلى 5 )  . القفلة الأولى  افتتحها الشاعر مجد الدين سعودي ببيت شعر لابن الفارض الملقب بسلطان العاشقين ، وهو من أعلام الصوفية ...شعره مرآة صادقة تعكس على صفحاتها أذواقه التي خضعت له نفسه في سبيل الحب الإلهي ، ويعد شعره تراثا روحيا خالدا ، يحقق أعلى أشكال التاريخ غنى وتنوعا ، وهذه الأشكال القصوى لم تكن أبدا من صنع ثقافات معزولة ، بل من صنع ثقافات تنسق قصدا أو بغير قصد ، وكل ثقافة تظهر متحالفة مع ثقافات أخرى ، فيتيح الأمر تشييد سلسلة من التطورات الغنية والمتنوعة ...يقول الشاعر مجد الدين سعودي في ( واو النشوة : أنوار وأسرار ) :

( يا لا ئما لامني حبهم سلفا ...كف الملام ، فلو أحببت لم تلم ) ابن الفارض 
        1
حدثنا الواو 
صعدت سبع سماوات 
رأى فيما رأى
الملائكة 
والطيور 
يستقبلونه 
بأحلى الابتسامات 
والزغاريد والهتافات 
وهو فيما يرى 
ينتشي عشقا 
والملكوت 
يفرش أرضه 
بكل أنواع الهيام 
ونكران الذات 
والأحلام 
      2 
قال الواو 
وفي لحظة سكر 
ولحظات فكر 
نطق الحق : 
الله 
يا رافع السموات 
هي الحياة 
بعد المماة 
هي الصديق 
هي الثبات والغفران 
هي التي تعيد للقلب 
أروع النبضات 
وللعشق 
أحلى الومضات 
وفي بحرها 
تجري السفن 
بأمان 

اتخذ حرف الواو رمزية الإنسان المتحدث ( حدثنا الواو) ...فترج أخبار عن السموات وهي عالم دلالي في القصيدة ذات أبعاد متداخلة وكثيرة تحلق بالنفس الإنسانية في العالم المحيط بها ، وكذلك تحيق الإنسان في إنسانيته وعوالمه الداخلية . إن الفكر ليس شيئا داخليا فقط ، بل يوجد خارج العالم والكلمات ، فهما يتكونان معا وفي آن واحد . اللغة تسمح بالانتقال مما نعلمه الى ما نجهله مع قابليتها للتمدد لتشمل ما لا نهاية له من الأشياء . والحكم الصادق للعقل ما تتطابق مع الواقع ، الحق لا يتضاد مع الحق بل يشهد عليه ، من منطلق أن التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى المجازية ، من غير أن يخل ذلك بعادة اللسان العربي ، ونقطع قطعا أن كل ما أدى إلى البرهان ، وخالفه ظاهر الشرع ، فإن ذلك يقبل التأويل ، وهي قضية لا يرتاب منها العقل حين يكون القصد الجمع بين المعقول والمنقول ، وهما موضوع قصيدة ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) .

يقول الشاعر في قصيدة ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) والتي تضم عشر قفلات ( من 1 إلى 10 )  .  القفلة الثانية  افتتحها بقولة لابن أمية .

( أحبك حبا لو يفض يسيره .. على الخلق مات الخلق من شدة الحب ، واعلم أني بعد ذلك مقصر ..لأنك في أعلى المراتب في قلبي ) . ابن أمية 
       1
أخبرني طائر السونونو 
ذلك الصباح 
بفجر أطل ولاح 
بعطر فاح 
وبعناق بطعم الارتياح 
أخبرني بألم الولادة 
ولهفة اللقاء 
      2 
قال السونونو 
ستأتي ممتطية ابتسامتها 
معانقة جنونها 
والأسود يليق بها 
تشاكسه
ويشاكسها 
تماثله 
ويماثلها 
والشعر المنفلت 
من خيوط متشابكة 
تؤرخ لبوهيمية دائمة 
يتطاير في السماء اللازورد 
وحركاتها وتحركاتها في تلك القافلة الغجرية 
وأهازيج ( أحواش ) تؤرخ لبصمتها وبسمتها 
والحلاج يباركها هاتفا : 
( أنا من أهوى ومن أهوى أنا 
نحن روحان حللنا بدنا 
فإذا أبصرتني أبصرته 
وإذا أبصرته أبصرتنا ) 

إن النفس تسير وعالم عقلها راسمة صورة الكل متماشية مع نظام المعقول ، ترى الخير الفائض في الكل ، لكي تستوفي نفسها هيأت الوجود كله لصالحها ، فيصبح العالم النفسي متوازيا للعالم الموجود كله ، مشاهدة لما هو المطلق والخير المطلق والجمال الحق متحدة به ومنتقشة بمثاله وهيأته ، ومنخرطة في سلكه ، وصائرة من جوهره ، وإذا بلغت القوة العقلية مبلغ النفس من الكمال ، فارقت البدن باحثة عن الاستكمال التام الذي لها أن تبلغه من خلال العشق الذي يتسع في الصورة التي يقع التجلي والحلول ، حيث تصل لذة العشق أجمل من كل لذة

 سادسا : المدخل البصري 

مكاشفات شعرية ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) ، عنوان مستفز بصريا يطرح على القارئ عدة أسئلة قبلية . جزء من جواب عن هذه الأسئلة مدون أسفل غلاف اللوحة ( مكاشفات شعرية ) ، الديوان يضم في 164 صفحة من الحجم المتوسط ، يبتدئ بإهداء مستفز بدوره بصريا ( واعلم – رحمك الله – يا رفيقي ...) ، الفهرس بدوره خرج عن المألوف الذي عهدناه في دواوين الشعر وغيرها ، 

الفهرس مقسم إلى جزأين ، (المقام الأول / مكاشفات النعيم ) ، والمقام الثاني / مكاشفات الجحيم ) .

المقام الأول / مكاشفات النعيم يضم ثلاثة عشر نصا شعريا ، تحمل العناوين التالية : ( اشراقات الكفة الأخرى ) ، ( واو النشوة: أنوار وأسرار) ، ( خط أحمر : عشق أحمر ) ، ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) ، ( خمرة الحب ) ، ( وما أنا بقارئ ) ، ( مذاقات قدسية لسيدة الياسمين ) ، ( سلام حتى مطلع العشق ) ، ( والعشق واحد ) ، ( سيدة النجوى الحزينة ) ، ( نرجس والبلوى ) ، ( الشال الأحمر والتقوى )، ( رقصة عشق أبدية )، تمتد هذه النصوص من الصفحة ( 6 ) إلى الصفحة ( 86 ) .

المقام الثاني / مكاشفات الجحيم يضم بدوره ثلاثة عشر نصا شعريا ، تحمل العناوين التالية : ( ملحمة النيل ) ، ( رسالة البهتان ) ، ( خلوة الشخيري ) ، ( شر البلية ) ، ( أحلام تتهاوى ) ، ( وادي زم : غربة وطن ) ، ( هل ينام القمر ؟ ) ، ( الولد وما ولد ) ، ( ولن تضل الطريق ) ، ( حي بن يقضان في مملكة الفناء ) ، ( أعز ما يكتب ) ، ( استيقظ لتراك ) ، ( ضاقت العبارة ) ، تمتد هذه النصوص الشعرية من الصفحة (88) إلى الصفحة ( 161 ) .

وضع الشاعر مجد الدين سعودي خاتمة معنونة ب ( وأسدل الستار ) نثرا ، وهي خاتمة أبقت على باب استفزاز القارئ بصريا مفتوحا .
كل نصوص الديوان مجزأة إلى وحدات أو قفلات تحمل أرقاما عربية ، مع حضور مكثف لعلامات الترقيم بكل أنواعها ، وشخصيات تاريخية تنوعت اهتماماتها وموسوعيتها  ...

1 - التجنيس الأدبي 

مرأى النص العربي يستفز القارئ من حيث شكله البصري المكون له ، وهو مشهد سحري يحمله النص كجنس أدبي ظاهر ، وشكله الأنيق المتزن ، فالجنس الأدبي في النص العربي مختلف تماما عن جميع النصوص بصريا في اللغات الأخرى ، شكلا وصورة ، فلو أخذنا شكل كل جنس لوجدناه يلبس أردية مختلفة من جنس إلى آخر ، فالمقامة مسجوعة ، والقريض معمد بعمودين ، أما الحر فهو عمود يضيق ويتسع ، أما الشعر النثري فالمنطوق الشعري يترصد نفسية الشاعر وعاطفته .

مر الشعر العربي عبر العصور الماضية باختلافات متعددة ومتنوعة ، لكن هذه الاختلافات أصبحت في العصر الحديث ظاهرة أدبية ، ألفت حولها العديد من المؤلفات والمراجع ، وعمق هذه الاختلاف الحراك الثقافي والأدبي الذي شهده العالم العربي .

لقد كانت الحداثة بمفهومها الشمولي حديث المثقفين والأدباء والشعراء ، فتعددت الرؤى والمناهج ، بل تعددت الحداثة الأدب وامتدت إلى مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ...مع هذا التحديث عرف الشعر نقلة نوعية ،وأصبحت كأنها مطلبا قوميا ، فنحت بذلك الحداثة منحيين ، حداثة زائفة ركنت إلى التعبير من أجل التعبير ، ومنحى الحداثة الرائدة المطورة للقديم والناهضة به .

الحداثة لا يمكن اختزالها في وقت محدد أو لحظة تاريخية ، فهي ممتدة في كل الأزمنة وفي كل المجتمعات . اللغة العربية ليست لغة ساكنة و عاجزة عن توليد أبعاد جديدة ، بل إنها متحركة ومستوعبة لكل الأبعاد في كل الأزمنة التاريخية . اللغة كائن حي تتأثر بالواقع الاجتماعي والاقتصادي ، مما يعني أنها تتفاعل مع الحداثة وما بعد الحداثة بطرق وأساليب متنوعة .

خاتمة : 

نكتفي بهذه النماذج من قصائد ( المقام الأول/ مكاشفات النعيم ) ، وننتقل لنسائل الديوان في الجزء الثاني أو  المقام الثاني أو الكفة الأخرى المعنون ب ( مكاشفات الجحيم ) بمنطق الحقيقة في الفلسفة وفي الفكر الإسلامي ، التي تعددت الآراء والأفكار حولها ..

المراجع :  المراجع سنقدمها مصاحبة للدراسة النقدية  كاملة 

آمال ابو فارس المربية الاديبة والشاعرة, المسؤولة عن زاوية المنتدى الثقافي. يمكنكم الاتصال بها  Amlabo@walla.com او على هاتف 0549026108

 

 

תגובות

מומלצים