نار في المنار

08.07.2020 מאת: دكتور اسامة مصاروة
نار في المنار

 

بناءً على اقتراح صديقي فهمي  ناطور سأقوم  بنشر روايتي  "نار في المنار" من بدايتها للتعريف بانتاجنا وعلى أمل أن نحفز القراءة ومناقشتها بصراحة. على فكرة الرواية 350 صفحة. سأقوم بنشر صفحات من حين لآخر حسب رغبة القراء
الفصل الأول

جلس نضال عبد الناصر أمام حاسوبه وبدأ يكتب تقريرًا لجريدة "البقاء" التي عمل فيها منذ أن تخرّج من الجامعة. لم يزعجه إلّا الوقوقة القادمة خارج غرفته والتي حاول التخلّص من مثيريها دون جدوى. كم تساءل كيف استوطنت طيور الوقواق شجرة الزيتون التي انتصبت خلف غرفته, والتي امتدّ استيطان أعداد جديدة منها فوق شجرتي البرتقال والجوز المتجاورتين؟ حاول تجاهل وقوقتها المزعجة بمرور سريع على

- أنا! ماذا؟
- ألم تشتاقي إليّ؟
- طبعًا اشتقت إليك.
- فقط؟
- كثيرًا. 
- اعترفي هكذا!
- أعترف. قل لي عمّ تكتب؟
- عن عمليّات العنف التي استشرت مؤخّرا في الوسط العربيّ.
- اليهود هم الذين يقومون بتلك العمليّات، أليس كذلك؟
- صحيح أن هناك عصابات متطرّفة قامت وسوف تقوم بمثلها ضدّ الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال الإسرائيلي، إلّا أن التقرير الذي أعدّه يتحدث عن العمليّات التي نمارسها نحن ضدّ بعضنا بعضًا.
- هل يعقل هذا؟
- وهل يختلف الأمر عن ذلك في الوطن العربيّ من المحيط البالع إلى الخليج الضائع؟  
-   للأسف لا أمن ولا أمان لنا جميعًا .
- ما الذي يحدث عندكم, يا "زيتونة"؟
- ما يحدث في جميع البلدان العربيّة: فساد, قتل, تدمير صراعات دمويّة الى آخره, وأنت أكثر دراية مني بذلك.
- للأسف الشديد، لا يدفع الثمن دائمًا غير الأبرياء.
-  قل لي، أما زلت تنوي السفر إلى تركيا أم غيّرت رأيك؟
- لا ، لم أغيّر رأيي، أنا فعلًا مسافر غدًا.
-غدًا! لم تخبرني بذلك.
- لا، بل أخبرتك. يبدو أنك قد نسيت ذلك.
- ربّما، أتعرف شيئًا؟
- ماذا؟
- ليتك تأتي إلى بلدنا بدلًا من السفر إلى تركيا.
- للأسف الشديد لا أستطيع.
- لماذا؟ 
-  ما الذي يجري لك، يا" زيتونة"؟
- ماذا تقصد؟
- هل نسيت أنني أعيش في إسرائيل؟
- لم أنس، لكنك سافرت إلى بلاد أخرى وها أنت مسافر غدًا إلى تركيا.
- لأن لإسرائيل علاقات دبلوماسية مع تركيا.
- لكنني سمعت أن باستطاعة الإسرائيليين القدوم إلينا.
- لا غرابة في ذلك.
- لماذا لا تأتي إذن؟
-  لأنه لا يسمح لكلّ واحد بالسفر إليكم.
- سنلتقي إذًا في تركيا.
- إن شاء الله.
- أنا أمزح معك، أنّى لي أن أسافر إلى تركيا؟
- من يدري، يا" زيتونة"؟ يقولون عندنا:  "جبل على جبل ما بلتقي، إنسان على إنسان بلتقي".
- لا يعلم الغيب إلّا الله، يا "كرمل". معذرة، أمّي تناديني، سنتحدّث فيما بعد. عدني بأن توافيني بأخبار رحلتك!
- أعدك، يا "زيتونة".
- أستودعك الله، يا "كرمل".
- إلى اللقاء، يا "زيتونة".
اعتاد الاثنان على مناداة بعضهما بعضًا باسميهما المستعاريّن, ولأنّ صداقتهما كانت افتراضية أساسًا، لم يحاولا معرفة اسميهما الحقيقيْن, والأهم بل والأغرب من ذلك أن صداقتهما الافتراضيّة كانت أكثر واقعيّة من الصداقات الأخرى التي عرفاها.
عاد نضال إلى إتمام مقاله متجاهلًا  الوقوقة الصاخبة وصراخ الطيور المشرّدة خلف غرفته. بعد أن أنهى كتابته وقرأه مرّة ثانية وثالثة وعدّل ما شاء له أن يعدّل, أرسله بوساطة البريد الالكتروني إلى رئيس التحرير.  نهض متثاقلًا وألقى بنفسه على سريره كما لو كان أطلس وقد سُمح له بالتخلّص من عقوبته. غدًا صباحًا سيسافر إلى قرية" أوفاز بنار" التركيّة علّه يجد فيها ما بحث عنه طيلة حياته في بلده- الأمن والأمان. لطالما اعتقد أن لا أمن ولا أمان لأحد في ظلّ الحروب المتعاقبة وانعدام السلام العادل والشامل بين الشعبيْن العربي والإسرائيليّ، ولطالما اعتُقل دون أن يندم على القيام  بإملاءات ضميره  الوطنيّة والانسانيّة.
تنهّد نضال بألم شديد وشريط الأحداث يعرض وجوه عصابات المستوطنين الحاقدة والمدمّرة لكل ما من شأنه أن يخطو بالشعبين خطوة واحدة نحو السلام. لطالما آمن واعتقد أن التعصب الديني هو العامل الرئيس لأشرس الحروب التي شهدها البشر عبر تاريخهم على كوكب الأرض، حروب لم تنشب فقط بين كفار ومؤمنين، بل بين مؤمنين ومؤمنين .ألم تنشب حروب طاحنة في أوروبا نفسها بدوافع دينيّة؟ ألم تنشب الحروب الصليبيّة بدوافع دينيّة ظاهريّا على الأقل؟ ألم تُعقد محاكم التفتيش أيضًا بمثل هذه الدوافع؟ وأخيرًا ومؤخّرًا عاد ليسمع مجدّدًا عن حروب صليبيّة تحت شعار" صراع الحضارات".  ما علاقة الحضارات في تلك الصراعات؟ هل كانت الأهرامات سببًا في غزو مصر, أو الحدائق المعلقة  سببًا في غزو العراق والذي نرى نتائجه المدمّرة يوميّا, والله أعلم متى سيتخلّص العراق منها هذا إن قدّر له أن يتخلّص منها. 
تقلّب نضال على سريره باضطراب شديد. حاول النهوض لكن ما رآه في ذلك الشريط المأساويّ أفشل المحاولة. كان مرهقًا رغم شعوره مؤخّرًا بنوع من الترقب الإيجابيّ والحذر، فهو على وشك السفر في إجازة قد تمنحه الأمن والأمان المنشودين. استمرّ في التقلّب ذات اليمين وذات الشمال لكن المشهد الذي رآه كان من الفظاعة بمكان حتى يهدّئ من روعه ويخفّف من غضبه. لم يستطع محو صورة الطيار الأردني الذي حُرق حيًّا" إحياءً للإسلام" هل هذا ما أوصى به رسولنا الكريم؟ أين الإسلام من كل هذه الأعمال الإجراميّة؟ هزّ نضال رأسه بعنف كي يسقط تلك الأحداث الإجراميّة من رأسه لعلّه يرتاح قليلًا.
أنهى نضال العقد الثالث من عمره ووقف على العتبة الأولى من عقده الرابع وما زال أعزب، الأمر الذي أحزن أخته "نادية "كثيرًا، خاصة بعد موت الولدين. بعد أن أنهى دراسته الجامعيّة متخصّصًا في العلوم السياسيّة، لم يجد عملًا مناسبًا لتخصّصه. كانت مهنة التدريس المهنة الوحيدة المتاحة للأكاديميين الفلسطينيين في الداخل لكنه لم يستوف شروطها، إذ حرص على الابتعاد عن السلطتين الكبرى والصغرى.
كان وسيم الطلعة، ظريفًا وذا لياقة بدنية عالية إذ مارس نشاطات رياضيّة متنوعة. ونظرًا لاستمرار عزوبيّته, كثيرًا ما طالبته أخته "نادية "بالزواج على الرغم من رفضها التام لكلّ عروض الزواج التي تقدّمت لها,  وفاءًا لذكرى خطيبها الذي قضى إثر حادث طرق مروّع قبل عشر سنوات.
     فتحت نادية باب الغرفة ودخلت حاملةً مصحفًا وسجادة للصلاة.  كان صوت التلفاز منخفضًا يكاد لا يسمع وأنّى للمرهق أن يبالي بمتابعة ما يعرض على شاشته. توجّهت إلى حقيبته وقبل أن تفتحها لتضع الأغراض فيها، التفتت اليه وقالت بحسرة: 
-  ليتك تزوجت.
نظر نضال إليها نظرة اختلط فيها العتاب والحبّ معًا، لكنه امتنع عن الدخول في جدال جديد معها حتى لا يجرح مشاعرها ثانية. ما زال يذكر جرحه الشديد لمشاعرها في جدالهما الأخير حين قال  إنّها ستبقى عزباء إلى الأبد لأن الشباب لن يتقدموا لطلب يد امرأة أكل الدهر عليها وشرب. كم ندم على ذلك وإن كانت قادرة على مسامحته, لم يكن ليقدر على مسامحة نفسه.
-  ليس لي نصيب في الزواج.
-  أنت الذي ترفضه. كلّ اصحابك متزوجون إلّا أنت. لو كنت متزوجًا لرافقتك زوجتك وقامت على رعايتك.
- يا أختي، يحتاج الزواج إلى أمن وأمان.
-  ما علاقة الزواج بهما؟ أنت ترفض الزواج لأن الفتاة التي أحببتها لم تنتظرك.
- أكثر ما يحتاج إليه الزواج هو الأمن والأمان والاستقرار والطمأنينة. أين نحن من كلّ هذه الأشياء؟
- هذه مجرد أعذار تبرّر فيها رفضك للزواج.
- يبدو أنك تعيشين على كوكب آخر .ألا تقرئين وتسمعين وتشاهدين ما يحدث حولنا من عنف وقتل وتدمير وحقد  وكراهية؟
- مع ذلك لا يتوقف الناس عن الزواج والحياة أيضًا لا تتوقف أبدًا.
- الحياة يجب أن تستمر، أعرف ذلك ولكن كيف؟
- مثلما يفعل الناس جميعهم، يتزوّجون وينجبون أطفالًا.
- للموت!؟
- هكذا هي سنّة الحياة، يا أخي. فيها الجمال وفيها القبح، فيها الخير وفيها الشر، فيها الحبّ وفيها الكراهية وأنت لا تحتاجني لشرح ذلك.
-  نسيت أن فيها الغدر أيضًا.
أحست نادية بالغضب الذي أثارته في قلب أخيها فصمتت على الفور. لم يغضب نضال عليها بل على نور التي ظنّها حبّ حياته¸ والتي تنازلت عنه حتى تختصر الطريق إلى حياة مرفّهة في بيت أرمل ثريّ أصغر بناته أكبر منها سنًّا. لقد جاهد طويلًا كي يمحو من ذهنه كلّ ما ذكّره بتلك الفتاة التي ظنّها أجمل وأروع ما حدث له في حياته. لكن نور فضّلت عدم الانتظار حتى يُكملا دراستهما ويشُقّا طريقهما ويكوِّنا معًا البيت الجميل والسعيد الذي تعاهدا على بنائه.
حتى تعيد الهدوء إلى جو الغرفة ذهبت نادية إلى حقيبته وفتحتها. بعد أن وضعت سجادة الصلاة والمسبحة والمصحف فيها وأغلقتها ثانية، سارت نحو الباب لكنها قبل أن تغادرها التفتت إلى أخيها وضبطته ينظر إليها ومسحة من الحزن تلوح في عينيه. سارت نحوه وقالت والندم يقبض على قلبها :
-  أنا آسفة جدًا، يا أخي، لم أقصد....
-  لا تتأسّفي، يا نادية، أنا أعرف أنك لم تقصدي إيلامي.
- لماذا تنظر إليّ هكذا إذًا؟
- لأنني قلق عليك وعلى أختك نرجس. من سيهتم بكما في غيابي؟
- من حقّك أن ترتاح، يا أخي، وتنعم بالهدوء والسكينة، سافر وأنت مطمئن.
-  لولا الدكتور فريد القاسمي....
-  نصحك الدكتور فريد بما فيه مصلحتك، فلا تلومنّه. بالمناسبة إلى أيّة منطقة في تركيا ستسافر غدًا؟
- إلى قرية " أوفاز بنار".
- أيّ اسم هذا؟
-  إنها قرية صغيرة تقع في منطقة ذات طبيعة خلّابة تخلو تمامًا من أيّ شيء قد يعكّر صفو الإقامة فيها. هذا على كلّ حال ما أخبرني به الدكتور فريد.
- هل اختارها  لك بنفسه؟  
- نعم، يا أختي، قال إنه زار المنطقة عدة مرات من قبل، وإنها المكان المناسب لكلّ من يبحث عن الأمن والأمان.
- أرجو أن يكون صادقًا فأنت في أمسّ الحاجة إليهما. لتنم الآن، يا أخي فأمامك يوم طويل غدًا. تصبح على خير.
- وأنت من أهله.
قبل أن تخرج نادية أرادت إغلاق التلفاز إلّا أنّه أوقفها قائلًا:
- لا تغلقيه!
- عليك أن تخلد للنوم حتى تصحو مبكرًا.
مدّت نادية يدها لتغلقه فأوقفها فقال بتوتّر واضح:
- انتظري، ألا ترين؟
- ماذا أرى؟
-  يبدو أن هناك عمليّة عسكريّة جديدة.
-  العمليّات العسكريّة لا تتوقف، يا أخي!
-  لكن هذه العمليّة تبدو كبيرة جدًا، أنظري.
- سواءً أكانت كبيرة أم صغيرة، النتيجة واحدة: أبرياء يُقتلون، بيوت تُدمّر وسلام ينضم إلى المستحيلات الثلاثة.
- يا إلهي، الموت يتساقط على البشر والشجر والحجر. 
- كان الله في عونهم جميعًا، نم يا أخي، على الأقل ستخرج من هذا الجحيم غدًا وتدخل الجنة ولو إلى حين.
- الجنة! هل سأموت غدًا؟ يبدو أن الموت أصبح الضمان الوحيد لنيل الأمن والأمان المفقودين في هذا العالم.
- لا تذكر الموت، يا أخي.
- أليس هو الحقيقة الأكيدة في عالمنا؟ لقد اعتدنا عليه حتى أصبح القتلى مجرد أعداد لا أكثر.
- أنت مسافر غدًا... إلى أو...أو... لقد نسيت اسمها.
- "أوفاز بنار"، يا نادية.
- هي كما ذكرت، وإذا كان وصف الدكتور فريد لها صادقًا ففيها ستجد ضالتك.
- أرجو ذلك، يا أختي، أرجو ذلك.
أغلقت نادية التلفاز بحزم وخرجت دون أن يتذمّر.
حوالي الساعة السادسة صباحًا  أقلّت" نرجس" ابنة التاسعة عشرة أخاها  نضالًا بسيارتها البيضاء الصغيرة إلى مطار"  بن غوريون" الذي عرف سابقًا  بمطار "اللد" نسبة لمدينة اللد الفلسطينيّة. قد تتغيّر التسميات، قال نضال في داخله, لكن المشاعر لن تتغيّر. عادة ما تكون الشوارع في مثل هذه الساعة المبكّرة أقلّ ازدحامًا، لكن قوافل المركبات السوداء المثقلة بالدبابات نشرت الظلام على هذا الصباح أيضًا.
أنهت نرجس تعليمها الثانوي في السنة الماضية وإلى أن تلتحق بالجامعة قرّرت أن تجد لها عملّا, على الرغم من رغبة أخيها بأن تلتحق بالجامعة مباشرة ووعده لها بأنه سيتكفل بجميع المصاريف المطلوبة. كان إباؤها وشجاعتها وكبرياؤها أكثر ما ميّزها, لكنّها كانت دائمًا مستعدة للاعتذار إن أخطأت دون تردّد.
وصل الاثنان إلى الحاجز الأول للمطار ليشاهدا عددًا كبيرًا من الجنود يحيطون به .لم تفاجئ الحراسة المشدّدة نضالّا لأنه سبق أن رآها أمام مؤسّسات حكوميّة أو عامة, فما بالك بأهم مطار في دولة قائمة على السيف منذ ولادتها, ولا تستعدّ للسلم كاستعدادها للحرب. كان عليهما أن يتوقفا عند أول حاجز للتفيش. لقد علّمت التجارب نضالًا أن حمله للجنسية الإسرائيلية لن يحرّره من عمليّات التفتيش الدقيقة بل والمذلّة. كيف لا وأبناء الأقلية الفلسطينيّة في إسرائيل لا يوثق بهم, حتى لو أثبتوا ولاءهم للدولة أو أقسموا على ولائهم لها, مثلما طالبهم بذلك بعض غلاتها العنصريين وما زالوا يطالبون؟ بالنسبة لهم ما فلسطينيو الداخل إلّا طابور خامس.
عبرت السيّارات التي كانت أمامهما دون أيّ تأخير, وما أن نظر الجنديّ إلى لباس نرجس الشرعيّ حتى قال :
- قفي جانبًا!
 فردّت غاضبة:
- إليك بطاقتينا، افحصهما بسرعة ولا داعي لأيّ تأخير غير ضروريّ.
- لا تقرّري لي ما هو الضروريّ وما هو غير الضروريّ! قفي جانبًا!
أرادت نرجس أن تجادله لكن نضالًا ضغط على ذراعها وقال:
-  إنها إجراءات روتينيّة, يا نرجس, فلا تجادليه! 
- لماذا لم تطبق هذه الإجراءات على الذين سبقونا؟
- أنت تعرفين السبب، هيّا نفذي طلبه دون توتّر.
- ليس هناك سبب سوى أننا فلسطينيّون.
- أليس هذا سببًا وجيهًا بالنسبة لهم؟
كرّر الصوت العسكريّ إلحاح الريبة قائلًا:
- هيّا، قفي جانبًا!
ضغط نضال مرة ثانية على ذراع أخته دون أن ينظر إلى الجنديّ، فقد قابل الكثير منهم في حياته، وحال من يبحث عن الأمن والأمان في البلاد كحال من ينفخ في رماد أو في قربة مقطوعة.
نظرت نرجس بغضب شديد من خلال المرآة الجانبيّة.
-ذلك الجنديّ ال...
-اصبري، يا نرجس! ما زلت شابة وسوف تعتادين على مثل هذه الإجراءات.
-لا أستطيع ذلك، يا أخي .إنه لا يبالي بنا، تركنا ننتظر رغم أنه لا يفعل شيئًا .إنه يقصد إذلالنا فقط وأنت تعرف ذلك.
-ماذا تريدينني أن أفعل؟  
-يجب أن يوضع حدّ لمثل هذه المعاملة المذلّة.
-إذا كان زعماؤهم عنصريّين ومتطرفين فما بالك بجنودهم الذين ينفذون تعليماتهم. لا تحرميهم من لذة إذلالنا، يا نرجس!
قهقهت نرجس ساخرة وقالت:
-ويدّعون أن جيشهم هو الأكثر إنسانيّة في العالم، ذلك الجيش الذي يقتل أحد جنوده فلسطينيًّا لا حراك له, ويحاولون بشتى الطرق إعفاءه من المسؤوليّة. حقّاً شرّ البليّة ما يضحك.
- نحن نعيش للأسف في واقع مبكٍ وإذا صدف أن ضحكنا فمن شدة الألم.
- ها هو قادم إلينا ومعه جنديّ آخر يحمل ما يشبه عصا المسح التي أمسح بها أرضية بيتنا.
-  أرياني بطاقتيكما؟ 
أخرج نضال بطاقته من جيب معطفه وأعطاها لنرجس التي بدورها ناولته بطاقتيهما.
نظر الجنديّ أولًا إلى صورة نضال في بطاقته، ثمّ تفحّص وجهه وقارن بين الطبيعة وتقليدها. بعد أن كرّر العمليّة ذاتها مع نرجس، أعاد إليهما البطاقتين وقال بجمود:  
- اخرجا من السيّارة!
بدت علامات التوتر تشرئبّ شيئًا فشيئًا من عيني نرجس بينما ظلّ نضال هادئًا.
- لقد فحصت بطاقتينا وأخّرتنا بما فيه الكفاية. لمَ أنت مصرّ على تأخيرنا أكثر من ذلك؟
- اخرجا من السيّارة إن كنتما مسرعيْن!
-  على ماذا تبحثان؟ لسنا ارهابيّين حتى تعاملانا بهذه الفظاظة.
- اسكتي، يا نرجس، في هذا الزمن الرديء كلّ عربيّ أو مسلم هو بمثابة إرهابيّ ونحن السبب! إن الوقت، على كلّ حال، غير مناسب لإجراء أيّ نقاش عبثيّ معهما. هيّا نخرج من السيّارة وليفحصاها كيفما يشاءا!
خرج الاثنان من السيارة وراقبا الجنديّين وهما يفحصان السيارة بدقّة مثيرة للغضب. لم يبق مكان لم يفتشاه، داخل السيّارة أو خارجها.
بعد أن انتهى الجنديّ من مسح السيّارة وظنّ أن أمن إسرائيل وأمانها محفوظان إلى الأبد، نظر إليهما الجنديّ الأول المكفهرّ وجهه وقال: 
- يمكنكما الدخول الآن.
- ماذا يقصد، يا أخي، دخول السيارة أم دخول المطار؟ 
-  ليس لدينا وقت للتهريج ، يا نرجس.
انطلقت نرجس بسيّارتها البيضاء الصغيرة متّخذة المسلك الثالث الموصل إلى قاعة المغادرين الجديدة. عندما وصلت إلى موقف السيّارات المسقوف بحثت دون جدوى عن مكان شاغر لسيارتها .أحسّ نضال بالغضب والاحباط اللذين ظهرا على وجهها فقال بهدوء حتى يخفّف من حدتهما: 
-لنخرج إلى الساحة المكشوفة، ربّما تجدين لك مكانًا للوقوف هناك.
كغيرها من السائقين تجوّلت نرجس بين صفوف السيارات المرصوصة لعلّها تجد لسيارتها مكانًا شاغرًا. بدأت تتأفف بعصبيّة وقالت وهي تنظر إلى يمينها وشمالها:
- يبدو أن الإسرائيليين قرّروا الهروب من إسرائيل.
- لا تستغربي، يا نرجس، ففي فترة الأعياد يسافر آلاف الإسرائيليين إلى الخارج. انظري، هناك من يريد الخروج، هيّا اسرعي لتشغلي مكانه قبل أن يسبقك إليه سائق آخر. ألا ترين السائقين يحومون ويدورون حول أنفسهم كحشرة فقدت مجسًّا لها؟
- بل قل كحيوان مفترس يبحث عن فريسة له.
- المهم، ألّا ندخل في مشادّة كلّاميّة مع أحدهم حول الحق باستخدام ذلك الموقف.
- لا تخف، لن تصل بنا الحال لنُقتل من أجل موقف للسيّارة .
- تعدّدت الأسباب والموت واحد.
- هل ستصل بنا الحال إلى هذا الحدّ؟
- ألم يحدث مثل هذا من قبل؟
- أجل حدث، انا فعلًا لا أفهم...
وصلت نرجس إلى المكان وانتظرت حتى يخليه السائق.
-ما الذي لا تفهمينه، يا نرجس؟
-  كيف يقدم إنسان على قتل إنسان بسبب خلاف على أحقيّة الوقوف؟
- في بلد ينعدم فيه الأمن والأمان من الطبيعيّ أن يتصرف الناس بعصبيّة وتوتّر وقلق وخوف, وكلّ هذه أمور تدفع بهم إلى ممارسة العنف بشتى أنواعه.
- حتى إلى القتل؟!
- حتى إلى القتل. أليست حوادث السير التي تحدث يوميّا نوعا من أنواع القتل؟ أعصاب الناس متعبة ومرهقة من انعدام الأمن والأمان، إنهم لا يرون أيّ بصيص من أمل يشعرهم بالاطمئنان، بل بالعكس تتوالى الحروب تحت مسميّات شتى، وتتفاقم الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعية فينعكس كل هذا على تصرفاتهم .إنهم يتظاهرون بالقوة لكن في داخلهم هم يعرفون أنهم ضعفاء بالرغم من غرورهم. للأسف الشديد هم يعتقدون أن بمزيد من العنف تجاه الفلسطينيين يستطيعون العيش في أمن وأمان. 
أنظري، ها هو قد أخلى المكان، خذي مكانه ولكن بحذر شديد، لا نريد أن نسبّب ضررًا لأحد.
- ولا نريد أن ندخل في نقاش أو عراك مع أحد.
بعد أن أخرج نضال حقيبته سار الاثنان نحو مدخل قاعة المغادرين، وعندما وصلاه استمرّا واثقيْن بأن الجنديّ الواقف خارجه لن يهتمّ بهما بعد أن فُتشا من قبل، لكن ما إن أوشكا على الدخول حتى اندفع الجنديّ نحوهما قائلًا:
-  مرحبًا، أريد أن أرى بطاقتيكما.
برق الغضب في عيني نرجس فقالت:
- لقد فُحصت بطاقتانا في الخارج، ما الداعي لفحصهما ثانية؟
- ناوليه البطاقتين، يا نرجس، على الأقل رحّب بنا وطلب إذننا. ما زلت تحتفظين ببطاقتي، أليس كذلك؟
- أجل، ها هي. لكن ألا تنتهي طريق الآلام هذه؟
- المهم أن تنتهي على خير.
- فعلًا المهم أن تسافر. هاك البطاقتين، أيّها الجندي.
بعد أن فحص الجنديّ البطاقتين وأعادهما قال بأدب:
- رحلة موفقة.
- أترين، هناك جنود مؤدّبون.
- اعتقد أنك تعرف بيت الشعر القائل:" إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةً" 
- لا تكوني قاسية، المهم أننا اجتزنا المرحلة الثانية، لنحمد الله على ذلك.
- الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. هل هناك حواجز أخرى؟
- ليس مستبعدًا. لحسن حظك لم تخوضي مثل هذه التجارب بعد.
-  "لحسن حظي!" كيف وأنا أخوضها معك منذ أن وصلنا؟ 
- ها أنت تستعدّين لخوضها منذ الآن. لنتقدم ولنشاهد ما تخبّئه لنا هذه المتاهات الأمنيّة.
 عندما دخلا القاعة، توجّه نضال إلى أول شاشة عرضت أوقات الرحلات الجويّة.
 أخرج نضال تذكرة سفره من حقيبة يده وتفحّص تفاصيلها فوجدها مطابقة للتفاصيل التي ظهرت على الشاشة فاستبشر خيرًا. بعد أن أعادها إلى مكانها سارا بين حشود تجتمع لتتفرّق أيدي سبأ. رأت نرجس مجموعة كبيرة من الناس يثيرون هرجًا ومرجًا ويتكلمون لغة غريبة .
- أترى هؤلاء الناس، يا أخي؟
نظر نضال إلى حيث كانت تنظر فقال: 
- ما لهم، يا نرجس؟
- أيّة لغة يتكلّمون؟
- ربّما اللغة الروسيّة إذ كثير منهم جاؤوا إلى إسرائيل ولم يكونوا بالضرورة يهودًا.
- لماذا جاؤوا إلى هنا إذن؟
- ليحافظوا على الأغلبيّة اليهوديّة في البلاد.
- بل ليغتصبوا المزيد من أراضينا.
 - الغريب، يا نرجس، أنهم قاسوا - كما يدّعون - من التمييز العنصريّ في البلاد التي جاؤوا منها، وكان من المفروض أن يكونوا أكثر تفهّمًا وتعاطفًا مع غيرهم من المظلومين والمقهورين، لا أن يمارسوا الحقد والكراهية ضدّهم. 
-  هل سيعلمهم زعماؤهم العنصريون شيئًا غير الكراهية للعرب؟ لقد وصلوا إلى إسرائيل مشحونين بها. انظر كيف أصبح حزبهم الفاشيّ بين عشيّة وضحاها أحد الأحزاب الكبيرة في إسرائيل.
- للأسف الشديد أصبح المجتمع الإسرائيليّ أشدّ تطرفًا وعنصريّة. مع ذلك هناك أيضًا ديمقراطيّون وعقلانيّون ومؤيّدون للسلام ويدعون له وكثيرًا ما يدفعون ثمن مواقفهم الإنسانيّة .
- لا تخدع نفسك، يا أخي، أنت تعرف أن المجتمع الإسرائيلي بغالبيته الساحقة أصبح متطرفًا وعنصريًّا، لطالما سمعتك تردّد مثل هذا الكلام.
- كنت أتصور أن الظروف ستتغيّر وبتغييرها سيتم حتمًا تغيير الناس. للأسف لم يحدث هذا والنتيجة واضحة لكلّ من له عين ترى وأذن تسمع. لنترك الآن هذا النقاش ونبحث عن المسلك الخاص بالمسافرين إلى تركيا قبل أن يضيع وقتنا ونضيع معه.
- يوجد عشرات المسالك، يا أخي، كيف نستطيع معرفة مسلكك من بينها؟
- لا بدّ أن هناك لافتة تدلنا عليه، وإلّا علينا أن نسأل.
أينما نظر نضال شاهد العديد من طوابير المسافرين المنتظرين فحص حقائبهم. لم يكن الوقوف في الطابور بحدّ ذاته ما أقلقه بل الطريقة التي سيتمّ بها فحص حقيبته، وما تبع ذلك من تحقيق يقولون له من خلاله إنهم لا يثقون به مهما كانت أفكاره إنسانيّة.
استمرّ الاثنان في السير بين حشود المغادرين والقادمين إلى أن قال مبتهجًا:
- انظري، ها هو المسار الخاص بالمسافرين إلى تركيا، الحمد لله أننا وجدناه أخيرًا!
جدّ نضال في السير ساحبًا حقيبته خلفه، وحاثّا أخته على الإسراع أيضًا. كان الطابور طويلًا، لكنه شعر بارتياح ما, فطريق الإجراءات الأمنيّة على وشك أن تنتهي. لم يبق له إلّا أن يفتح حقيبته للتفتيش ولن تستغرق العملية أكثر من دقيقة أو دقيقتين. فجأة نظر إلى حقيبته وقال متأففًا:
- يا إلهي!
- ماذا حدث، يا أخي، هل نسيت شيئًا؟
- لا، لكن إحدى عجلات الحقيبة انكسرت.
- أهذا ما تحتاجه الآن؟
- لا بأس، سأحملها بنفسي ثمّ إننا قد وصلنا. أعتقد أن عليك الآن العودة إلى البيت. 
- سأنتظر حتى تدخل إلى قاعة المسافرين. 
- قد يستغرق ذلك مدة طويلة. لا داعي لإضاعة وقتك في الانتظار. عودي إلى البيت وطمّئني نادية أن كلّ شيء قد مرّ بسلام.
- سأنتظر معك.
- كما تشائين، لكن أرجوك ألّا تعلّقي على ما قد يثير غضبك.
- وهل هناك ما قد يثيره؟
- إذا استمرت عملية التفتيش كما نراها حاليّا، فلن يكون هناك ما يثيره.
- العملية تسير بسرعة وبسهولة. ما زال أمامك ثلاثة اشخاص فقط, وكما شاهدنا لم تفحص معظم حقائب المسافرين, إذ فحص الموظّف جواز سفرهم فقط.
- أرجو أن يكون حظي كحظهم. جاء دوري الآن، أرجوك كوني هادئة مهما رأيت.
وضع نضال حقيبته على طاولة أمام مسؤول التفتيش وناوله جواز سفره. قرأ الموظّف بياناته الشخصيّة ثمّ قال:
- افتح الحقيبة!
فتح نضال الحقيبة وهو ينظر إلى أخته نظرة تطالبها بالصمت وعدم التوتر، لكنها كانت أقرب إلى الغضب منها إلى التوتّر، خاصة عندما بدأ الموظف بإخراج محتويات الحقيبة بشكلّ عشوائي وبلا نظام ويضعها في كومة، بعد أن رتّبت في البيت مرّتين.
- إذا أردت تفتيش حقيبة أخي، فعلى الأقل لا تتلف ترتيب محتوياتها!
لم يبال الموظف بطلبها واستمر في الحفر داخل الحقيبة وتكويم ما استخرجه على الطاولة الحديديّة الباردة أمامه، ثمّ قال بلا مبالاة: 
-  يستطيع كيّها ثانية. دعيني أباشر عملي!
- أنا لا أمنعك من ذلك بل من تخريب أو إتلاف محتويات الحقيبة.
- اهدئي يا نرجس، اهدئي.
- هل أنتما مسافران معًا؟
- لا، أنا فقط مسافر.
-  لا داعي لوجودك هنا إذن، هيّا ابتعدي!
- عودي إلى البيت، يا نرجس. لا تقلقي، فأنا لست طفلاً!
عانقت نرجس أخاها بحرارة وقالت وهي تنظر إلى الموظّف شزْرًا:
- إلى اللقاء، يا اخي، انتبه لنفسك!
- إلى اللقاء، يا نرجس.
أعاد المسؤول الكومة إلى داخل الحقيبة ببرود شديد، ثمّ اتصل بمجهول آخر، وما إن وصل إليهما حتى قال لنضال:
- اتبعني، من فضل!
لم يجد نضال مناصًا من السير خلفه إذ لم يكن الأمر غريبًا عليه، لطالما وجد نفسه في مواقف مماثلة من قبل. قاده المجهول الأمنيّ إلى غرفة عارية، وما أن دخلها حتى بدأ نضال بخلع ملابسه دون أن يُطلب منه ذلك.
فحص المجهول جسم نضال العاري كما يفعل السجان مع كلّ سجين جديد, وبعد أن انتهى من ذلك قال تلقائيًّا: 
-   البس ملابسك واذهب لاستلام حقيبتك!
لبس نضال ملابسه وذهب إلى حيث ترك حقيبته، فوجدها ما زالت مفتوحة وبداخلها كومة المحتويات. أعاد ترتيبها من جديد ثمّ أغلقها جيّدًا وحملها إلى حيت سيتمّ وزنها وارسالها إلى الطائرة التي ستحمله بدورها إلى تركيا. بعد أن انتهت تلك الاجراءات, أصبح الدخول إلى قاعة المغادرين متاحًا له. 
إجراءات! قهقهت الفكرة ساخرة من توقعاته وآماله. ما إن سار إلى الداخل بضعة أمتار حتى اصطدم بحاجز تفتيش آخر. وضع حقيبة يده على شريط كهربائي آخر للتأكّد من عدم احتوائها على سلاح أو ما يمكن استعماله كسلاح. ثم مرّ عبر إطار مغناطيسي للتأكد من خلوّ جسمه أيضًا من مثل هذه الأدوات الخطرة. ثم خلع حزامه وأخرج قطع النقود المعدنيّة من جيوبه، لكن كلّما مرّ عبر ذلك الباب الكاشف للغيوب، زمجر مهددًا وفاضحًا ومحذّرًا, فيعود البحث من جديد عن ذلك الشيء الخفيّ الذي أيقظ ذلك الإطار الوحشيّ من سباته. أخيرًا اكتشف هويّة ذلك الشيء الشكس - حذوة معدنيّة أضيفت لحذائه لتقويته أو ربّما لتزيينه. لقد عطّلت هذه الحذوة الصغيرة، التافهة والعنيدة عبور أولئك المسافرين الذين انتظروا خلفه ونظروا إليه باستياء شديد.
الحمد لله، لقد انتهت مراسم الإجراءات، وبات الاحتفال بالمغادرة كما يقولون "خبط العصا" أو "على مرمى حجر". عليه الآن أن يبحث عن البوابة التاسعة، ويبرز للمسؤولين هناك جوازه وتذكرة سفره، وما إن يفعل ذلك حتى يجد نفسه عابرًا الجسر المغلق والموصل إلى الطائرة المنتظرة. لكن أمامه ساعة لفعل ذلك، كيف سيقضيها؟ نظر حوله فوجد مقصفًا على بعد عدة أمتار منه. سار نحوه واختار أن يجلس على أول كرسيّ متوفّر حتى ترتاح رجلاه المتعبتان من طول الوقوف والانتظار، ناهيك عن حمل الحقيبة ذات العجلة المكسورة. أقبلت نادلة شابة نحوه حاملة قائمة الطعام, وقبل أن تضعها على طاولته قال لها على الفور:
- لو سمحت، أريد فنجانًا من القهوة وزجاجة من الماء فقط.
- هل تريد قطعة من الكعك مع القهوة، يا سيّدي؟ لدينا منها أنواع رائعة المذاق، يمكنك أن تأتي وتختار ما تهواه منها.
- أشكرك جزيل الشكر، لكنني سأكتفي بالقهوة والماء حاليّا.
ما إن غادرت طاولته حاملة قائمة الطعام وطلبه حتى كتبت له "زيتونة":
- هل سافرت، يا" كرمل"؟
- نعم، أنا في المطار الآن.
- حسنًا، هل واجهتك أيّة مشاكل؟
- لا شيء غير اعتياديّ.
- سبق أن حدّثتني عن الإجراءات الأمنية التي كانت تواجه كلّ فلسطينيّ في المطار.
- لقد اعتدنا عليها كما قلت لك. ماذا تفعلين؟
- أستعد للخروج إلى الجامعة.
- ألم تخرجي بعد؟
 - كان من المفروض أن أخرج قبل نصف ساعة، لكن سمعت أن هناك بعض الاضطرابات التي أوقفت حركة المواصلات العامة.
- يبدو أن الأمن والأمان مفقودان عندكم أيضًا وليس فقط عندنا. هل تعرفين شيئًا؟
- ماذا؟
- لا تخلو محادثاتنا ممّا يعكّر صفو الحياة.
- هذا واقعنا للأسف الشديد.
- دعينا نتفاءل قليلًا، فأنت تعرفين القول المعروف: "ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ! "
- لنكن متفائليْن إذن. هل لي أن أطلب منك شيئًا؟
- بكلّ تأكيد، لا حاجة للسؤال.
- أخبرني باستمرار عن تفاصيل رحلتك، لا تتركني للهواجس والظنون. أريد أن أطمئنّ عليك دائمًا.
- حاضر، يا "زيتونة"، حاضر.
- أستودعك الله، يا "كرمل"، سأحاول أن أعرف ما الذي يجري في الخارج.
- إلى اللقاء، يا" زيتونة".
وضع نضال هاتفه في حقيبة يده ونظر حوله وفجأة وقع نظره على صحيفة تُركت على الطاولة المجاورة يقول عنوانها الرئيس إن الحكومة الإسرائيليّة وافقت على إنشاء ألف وأربعمائة شقة جديدة في الاراضي الفلسطينيّة المحتلّة. فجأة أصمّ  أذنيه دويّ الوقوقة خلف بيته, فوضع أصابعه في أذنيه لتفاديه وأنّى له أن ينجح في ذلك. لقد امتد استيطان طيور الوقواق إلى شجرة الجوافة والليمون والخوخ والبرقوق المنتصبة في جهة بيته الشمالية, كما امتد إلى الأشجار الشرقيّة والغربيّة حتى غطّت مساحات واسعة من أرضه, وأصبحت تُرى أينما تجول في أرجاء أرضه حتى وعلى سطح بيته وحافات نوافذه. العنوان الثاني الذي وقعت عينا نضال عليه اقتحام غلاة المستوطنين إحدى القرى ومهاجمة سكانها وتدمير ممتلكاتهم, بل وسرقتها والجنود الإسرائيليّون يتفرّجون كأنهم جاؤوا  لحراستهم فقط.

 

آمال ابو فارس المربية الاديبة والشاعرة, المسؤولة عن زاوية المنتدى الثقافي. يمكنكم الاتصال بها  Amlabo@walla.com او على هاتف 0549026108

 

תגובות

מומלצים