الديمقراطيّة والتعدديّة الثقافيّة ضدّان أم وجهان لعملة واحدة

رغم أزليّة النقاش أو الحوار الذي يتّسم عادة بالتفاوت وعدم التوافق بين طرفي، أو نموذجي تناول القضايا الاجتماعيّة والإنسانيّة والسياسيّة، وهما النموذج والجانب النظريّ السائد بين الأكاديميّين وأصحاب الاختصاص والخبرة التي تنحصر بين الأكاديميين والباحثين، أو النموذج الذي يُعنى بالتطبيقات والأمثلة الواقعيّة والذي يسود بين المتحدثين في وسائل الإعلام

17.06.2022 מאת: المحامي زكي كمال
الديمقراطيّة والتعدديّة الثقافيّة ضدّان أم وجهان لعملة واحدة

 

 

والذين يلقون شيوعًا أوسع وأكبر بين المتابعين. إلا أن هذين النموذجين يلتقيان في نقاط تقاطع مختلفة يؤكّد الكثيرون أنها نادرة ومن هنا تنبع أهميّتها ، فهي تؤكّد بلقائها هذا أن موقع اللقاء وموعده هما إشارة إلى أن النظريات الأكاديميّة، وهي خاصّة في علوم التربية تناقش قضايا " نظريّة"، وتحاول إيجاد الحلول لسيناريوهات  ومشاكل وأزمات متوقّعة ( بعضها قد لا يتحقّق أبدًا) ، تلتقي الواقع وتطابقه في حالة تشير إلى أن " ما كنا نخشاه قد حدث"، أو إن الواقع يتفق في سوئه وخطورته مع النظريات، أو ربما يفوقها سوءًا وخطورة، وبالتالي فإن النظريات والدراسات المطروحة فيه تتحوّل من مجرد نظريات إلى أدوات عمل من الضروريّ على أصحاب القرار تبنيها وتنفيذها فورًا، خاصةً وأَنَّها تستند إلى بينات ومعطيات تعكس الواقع الحقيقي، أي أنها جرس إنذار وضوء أحمر أمام السياسيّين من جهة، كما أنها من جهة أخرى تأكيد على أنه على الباحثين والدارسين والأكاديميّين الخروج من برجهم الأكاديميّ العاجي ولقاء " الشخصيات الواقعيّة"، ورفع رايات التحذير، وقرع أجراس الإنذار ووضع النقاط على الحروف، والقول إن الواقع يفوق الخيال خطورة . 
 

 

في ظلّ ما سبق جاء انعقاد المؤتمر الدوليّ الأكاديميّ والبحثيّ:" العدالة الاجتماعيّة في مجتمعات متعدّدة الحضارات"، في الكليّة الأكاديميّة العربيّة في حيفا، وكان لي شرف ترأسِهِ والبروفيسور رندة خير عباس، والذي اكتسب أهميّة خاصّة كونه ينعقد في ظروف عالميّة وإسرائيليّة تنذر بالأسوأ ملخصها عودة الصراعات العرقيّة والسياسيّة عبر استخدام القوّة العسكريّة  كما في حال الحرب الأوكرانيّة، وتعاظم وتفاقم مظاهر التطرّف الاجتماعيّ والسياسيّ والفكريّ، واتّجاه الكثيرين مرّة أُخرى إلى مواقف تكرّس وتقدّس التطرّف القوميّ وإقصاء الآخر، وبينما يشهد فيها العالم والبلاد توجّهات ترفض التعدديّة، وتمارس الإقصاء وتحاول منع المساواة والعدالة الاجتماعيّة، وذلك لأسباب سياسيّة ضيّقة مستعينة بتشريعات تسنّها الأغلبيّة متناسية أن المساواة والعدالة الاجتماعيّة هما الحقّ الأول والأساسيّ للإنسان بغضّ النظرعن العرق، أو الدين أو الجنس أو الموقف السياسيّ.

 

وبالتالي فإنّ أهميّة هذا المؤتمر تأتي في الأساس، لكونه يستعرض حالة، أو معضلة عالميّة واسعة النطاق خاصةً، وأنه لا يوجد مجتمع مهما كان متجانسًا وموحّدًا دون تنوّع وتعدديّة واختلاف، فتلك إضافة إلى كونها من طبيعة الأشياء ، تشكّل حقوقًا أساسيةًّ وطبيعيّةً  لكلّ إنسان لا يمكن التنازل عنها تحت أيّ مبرّرات أو مسوّغات، فكم بالحري إذا ما كان التنوّع  والتعدديّة ثقافيًّا ودينيًّا وقوميًّا ولغويًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا كما في إسرائيل.

 


ليس بجديد أن التعدديّة الثقافيّة والحضاريّة، والتي ناقشها المؤتمر بمشاركيه من مختلف دول العالم، ومختلف الكليّات والجامعات في إسرائيل والعالم، كانت وما زالت تشكّل تحدّيًا للدول المختلفة،  لكنّها تشكّل خاصّة امتحانًا واختبارًا للدول الديمقراطيّة، أو تلك التي تدعي الديمقراطيّة، وهو ما يقول عنه المفكّر أريند ليبارت في كتابه “الديمقراطيّة في المجتمعات متعدّدة الأطياف بأنّ التمكين السياسيّ للدولة وممارسة الديمقراطيّة المستقرة، أمر يصعب تحقيقه للغاية في هذا النوع من المجتمعات متعدّدة الأطياف مستندًا لقول ” أرسطو” عن نظام الحكم المستقرّ بأنّ الدولة تهدف للاستمراريّة قدر الإمكان، ويتحقّق ذلك عندما يتألّف المجتمع من أفراد متساوين وأقران، وبكلمات أخرى فإنّ الاختبار الحقيقيّ للدول الديمقراطيّة يكمن في أن التعدديّة الحضاريّة والثقافيّة تعني بشكل دائم وجود نوع من التوتر الخفيّ، أو العلنيّ بين ضرورة توفير الحريّات والحقوق الأساسيّة، وضمان حريّة الفكر والعبادة والسياسة والتأطر وحريّة الرأي ، وبين رغبة الحكومات الواضحة في ضمان الهدوء والاستقرار،  وهي رغبات يمكن ضمانها إذا كان المجتمع متجانسًا من أصله وبطبيعة تركيبته، أي من تلقاء ذاته، أو كان متجانسًا، والأصحّ القول ، أنّه أصبح متجانسًا بفعل تشريعات وقوانين تسنّها الأغلبيّة تحاول عبرها "تقليص مساحة التعدّد والتنوع" الثقافيّ والحضاريّ والسياسيّ والاجتماعيّ والعقائديّ، فما بالك إذا كان التنوّع قوميًّا ووطنيًّا يصل أعماق الجذور، ويمسّ كلّ صغيرة وكبيرة في تكوينه وتركيبة الثقافات والجماعات التي تشكل المجتمع أو الدولة وتجعلها متنافرة وأحيانًا متخاصمة،  وهو الحال في اسرائيل بين العرب واليهود وبين اليهود أنفسهم، ما يجعل العدالة الاجتماعيّة وتوفير الحقوق والفرص الأساسيّة واحترام الغير وقبول المختلف، من كافّة الجوانب وبكافّة القضايا، الطريق الوحيد نحو مجتمعات يسودها المساواة والعدل والتوافق العامّ مع ضمان الخصوصيّات  الثقافيّة والاجتماعيّة والقوميّة لكلّ مجموعة ومجموعة ما دامت كلّها تتمّ ضمن إطار قانونيّ.

 

 

يخطئ الكثيرون، خاصّة في السنوات الأخيرة، وبفعل أحداث شهدها العالم عامّة والشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم الثالث خاصّة، الاعتقاد بأنّ استقرار المجتمعات الليبراليّة يحتِّم وجود تجانس اجتماعيّ وتوافق سياسيّ بين الأقسام الاجتماعيّة العميقة، ويتطلّب وضع حدّ للخلافات السياسيّة، وكأن هذه العوامل سابقة الذكر تساعد في عدم استقرار المجتمعات الليبراليّة ، حتى أن المفكّر إريند  ليبارت  حاول معالجة تلك الإشكاليّة من خلال اقتراح نوع  معين من الديمقراطيّة تسمى الديمقراطية التشاركيّة، التي قد تواجه بعض الصعوبات إلا أنها ليست مستحيلة، ويمكن التوصّل من خلالها إلى ديمقراطيّة مستقرّة والحفاظ عليها في المجتمعات متعدّدة الأطياف والحضارات والثقافات، وهو ما أكّده المؤتمر وأبحاثه التي أكّدت كون العدالة الاجتماعيّة من جهة، قضية يتخبّط حولها وفيها العالم أجمع بين مؤيّد لها باعتبارها ثروة وكنزًا وبين معارض يعتبرها خطرًا سياسيًا وديمغرافيًّا يسبب فقدان الدول طابعها الأصليّ، كما حدث في أوروبا في قضيّة اللاجئين، ما يؤكّد أن التعدديّة الثقافيّة والحضاريّة هي قضية تحمّل أبعادًا كثيرة وكبيرة تُلامِسُ في إسرائيل وبسبب تنوّعها السكانيّ الكبير، الأبعاد والاعتبارات السياسيّة والحزبيّة والقوميّة وحتى الدينيّة؛  فهي أكبر وأعَمُ من معانيها في دول أخرى في العالم، وبالتالي فإنّ التعدديّة الحضاريّة والثقافيّة فيها لا تقتصر حتى على مفهومها القوميّ ، بين العرب واليهود، بل إنها تصل الفوارق بين المجموعات اليهوديّة التي تجمّعت من كافّة بقاع العالم، وأسّست دولة قالت عنها وثيقة الاستقلال الخاصّة بدولة إسرائيل إنها دولة يهوديّة،، وهي المجموعات القادمة من أوروبا( الاشكنازيم) أو القادمين من الدول العربيّة وشمال أفريقيا ( اليهود الشرقيين الذين أسميهم أنا باليهود العرب) وبين القادمين من أثيوبيا وهم مجموعة يهوديّة ثالثة لا هنا ولا هناك، كما أنهم فئات سياسية متناحرة بل متعادية، فهم يسار يقابله يمين متطرّف دينيّ-  سياسيّ يؤمن بأرض إسرائيل الكبرى، ومتدينون متزمتون يعتبرون التوراة ودراستها في معاهد دينيّة سبب وجود دولة إسرائيل يقابلهم علمانيّون معظمهم أوروبيو المنشأ  يريدونها دولة منفتحة وعلمانيّة لحدّ ما، ووسط هؤلاء أقليّة عربيّة  ضمنت تلك الوثيقة التي كانت حجر الأساس في إقامة الدولة وقوانينها التي تم سنُّها بعد ذلك، الحفاظ على لغتهم وحضارتهم وحقوقهم واحترام انتماءاتهم الدينيّة والفكريّة، وتضمن حريّاتهم وكرامتهم، كما جاء في قانون الأساس" كرامة الإنسان وحريّته" الذي اعتبر إسرائيل دولة يهوديّة ديمقراطيّة ما شكّل نوعًا من قبول التعدديّة الثقافيّة، لكنّ رياح التغييرات السلبيّة والتطرّف التي تضرب إسرائيل في السنوات الأخيرة، ومظاهر العداء للعرب خاصّة ولكلّ من هو مختلف عامّة، تجلت في مواصلة الحكومات سنّ القوانين التي تقضم وتقلِّص حقوق الأقليّة العربيّة فيها وصولًا إلى سنّ "قانون القوميّة " الذي شكَّل رفضًا تامًّا لمبدأ وتوجه أحترام التعدديّة الحضاريّة عبر تعريف إسرائيل على إنها دولة لليهود أو دولة يهوديّة، دون أي حديث عن الديمقراطية والإعلان على رؤوس الأشهاد أن إسرائيل كدولة لليهود ستقيم المدن والقرى لليهود فقط، وأنها تُلْغي كون اللغة العربيّة لغة رسميّة ثانية في البلاد ومنحها" مكانةً خاصّةً" دون تفسير معناها.

 

 

مداولات المؤتمر لم تقتصر على الأبحاث والنظريّات، بل تطرّقت إلى قضايا القيَم والقانون والمعايير والتربية والسياسة والتشريعات، وإذا نظرنا إلى واقعنا في هذه البلاد فالحكومة الإسرائيليّة الحاليّة مثل سابقاتها، تتجاهل التعدديّة وترفضها، وتتناسى أو تنسى أن التعدديّة والعدالة الاجتماعيّة هما حقّ أساسيّ لكلّ إنسان بغضّ النظر عن انتماءاته الدينيّة والعرقيّة والسياسيّة والجنسيّة وغيرها، وهذا الحال هو قلب الأمر رأسًا على عقب، وخلق نموذج غير معهود من الديمقراطية لا تكون فيه الحقوق في المساواة والعيش والعمل والمشاركة السياسيّة وغيرها حقوق أساسيّة محفوظة ومضمونة للجميع لمجرّد كونهم مواطنين في الدولة، بل تصبح الحقوق مشروطة بأداء" الواجبات"، لكنّها واجبات غير منصوص عليها بقانون أو تشريع، بل إنها تعبير عن مواقف سياسيّة للأغلبيّة اليهوديّة عامّة والأحزاب اليمينيّة خاصّة، تعني تضييق الخناق على المواطنين العرب وتحديد نشاطاتهم السياسيّة وفرض القيود على حريّة تعبيرهم، ومنعهم من المشاركة في الحياة السياسيّة والبرلمانيّة، واشتراط المساواة بتأدية يمين الولاء للأغلبيّة ورموزها اليهودية التي لا تعبر عنهم، وباختصار فإنها " واجبات مفروضة" تعني إقصاء المواطنين العرب بدلًا من دمجهم في نشاطات الدولة، بل ربما تصل حدّ اعتبارهم بفعل هذه التشريعات مواطنين مشروطين، أو مواطنين من الدرجة الثانية بل مؤقّتين ، يمكن للدولة في حالات معيّنة، ولو نظرية طردهم وإبعادهم ، وتحويلهم إلى لاجئين ينضمّون إلى  ملايين اللاجئين الذين ينتقلون، أو يهربون  إلى أوروبا من  دولهم في آسيا والشرق الأوسط، بسبب الحروب والقلاقل والنزاعات الداخليّة والقمع والظلم،  واستيلاء توجهات دينيّة وقوميّة متطرفة على سياسات الدول تدفعها إلى قمع الأقليات.

 

 

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن العالم بطبيعته، سواء شئنا أم أبينا، هو عالم متعدد التوجّهات، وإن التعدديّة هي صفة ملازمة لكافّة جوانب الحياة البشريّة الاقتصاديّة والدينيّة والسياسيّة، وأن هناك فوارق داخل الدول وبينها بما يتعلّق بجودة الحياة وطريقة الحكم وإدارة شؤون الدولة، ما يحتّم في كافّة القضايا والمواضيع، وكما أكّد المؤتمر، التوصل إلى ميثاق اجتماعيّ  يشكّل أساس الديمقراطيّة، وينظّم قضية السلطات والصلاحيات، ويؤكّد أن مصدر هذه الصلاحيات هو التزام السلطات بضرورة ضمان أمن وسلامة  وحياة المواطنين وسلامة ممتلكاتهم مقابل" تنازلٍ" معيّن عن بعض الحريّات  لتمكين السلطة من إدارة شؤون الدولة وتشريع القوانين ومحاكمة أولئك الذين يخرقونها، بشرط واحد أساسيّ، وهو أن تعمل السلطة لمصلحة الدولة ومواطنيها كلّهم دون استثناء رغم تنوعهم وتعدّدهم الحضاريّ والثقافيّ والعرقيّ والسياسيّ ، لكن الأمر الخطير هو أن يبلغ الأمر ما نحن عليه في إسرائيل من قبول حالة يعمل فيها منتخبو الجمهور بشكل علنيّ لضعضعة ذلك الميثاق الاجتماعيّ سابق الذكر لمصلحة فئة واحدة دون البقية وخدمة لمصالح سياسية قصيرة المدى، دون أي اعتبار للتأثيرات الخطيرة بعيدة المدى لذلك، فالإقصاء حالة متدحرجة نعرف أين وكيف تبدأ، ولا نعرف أين ومتى وكيف تنتهي.

 

 

أكبر منظّري التعدديّة الثقافيّة وهو المفكّر السياسيّ   الكنديّ ويل كيمليكا ، أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة أوكسفورد،  أشار  إلى وجود اختلاف في طرق التعامل مع التعدديّة الحضاريّة والثقافيّة  في المجتمعات الغنيّة، والغربيّة منها بصفة خاصّة، والمثخنة بمصاعب سببها الهجرة الدوليّة الموسّعة من أوروبا إلى الأمريكيتين في العصر الحديث، وتهميش السكان الأصليين ، وأن التعدديّة الثقافيّة يتمّ حلّها عبر اتفاق اجتماعيّ وسياسيّ على التنازل عن بنية “الدولة الأمة"، عبر توفير العدالة الاجتماعيّة  بين كافة الجماعات والتوجهات، دون أن يكون توفيرها لمجموعة ما على حساب مجموعة أخرى، فالعدالة الاجتماعيّة في بلادنا هنا كما في بلاد أخرى تحمل معانٍ سياسيّة واجتماعيّة، وربما قوميّة وتحمل أبعادًا كبيرة على جوهر وصيغة نظام الحكم والمكانة المدنيّة للمواطنين وحقوق المواطن والحريّات المختلفة، وهي الوسيلة الوحيدة لخلق مجتمع متساوٍ يسوده التفاهم والعدل، وبين  سبل التعامل معها  في دول العالم الثالث، حيث التنوّع الثقافيّ أصيل تاريخيًّا ومتجذّر، مجتمعيًّا وجغرافيًّا، ممّا يجعل الجماعات  المختلفة تركَّز على مطالبها الذاتيّة، وخاصّة تلك المتعلقة بالمشاركة في السلطة والتعبير عن ذاتها الثقافيّة.

 

 

توفير العدالة الاجتماعيّة، قضية هامة لا يمكن تركها للسياسيين، بل إنها غاية يستوجب تحقيقها، كما تؤكّد تجربة الملوّنين في أمريكا، والتي عرضها في المؤتمر البروفيسور جيمس بانكس وأجبته بأن، تعاضد الجهود بين كافّة الأُطر والهيئات، يؤكّد أهميّة الأكاديميا والأبحاث في زيادة الوعي لأهميّة النضال من أجل تحقيق العدالة الاجتماعيّة ما يتطلّب من المؤسّسات الأكاديميّة لعب دور فعَّال في هذا المجال، وممارسة الضغوطات على المؤسّسات الرسميّة من جهة، وتوفير الحلول الكفيلة بضمان العدالة الاجتماعيّة للجميع. وعليه المطلوب من الأكاديميّين والمثقّفين مشاركة اجتماعيّة، فلهم رصيد ضخم، وعليهم أن ينزلوا إلى ساحة العمل الاجتماعيّ، ويشاركوا في النشاطات الرامية إلى تعزيز العدالة الاجتماعيّة، ما يعطي الفرصة لنضوج ونجاح العمل الاجتماعيّ، عبر الدمج التامّ بين الأكاديميا والسياسة وبين النظرية والتطبيق، وعبر دعم توجهات التعدديّة الحضاريّة ومشاركة المواطنين العرب في الحياة السياسيّة، كما كان الحال عليه في الحكومة الحالية،  حكومة التغيير، وتحويل تلك المشاركة إلى نهج دائم وليس إلى تجربة لمرة واحدة يسارع الكثيرون بعد عام واحد على مرورها ، ورغم أنها تتم للمرة الأولى منذ قيام الدولة عام 1948، إلى محاولة الجزم حول ما إذا كانت قد نجحت أم لا،

 

وهنا أقول وبكل وضوح إذا ما لم ينجح بل مُنِيَ بالفشل الذريع هو محاولة قيام دولة تقصي 25% من مواطنيها، هم العرب، من حياتها السياسيّة والبرلمانيّة والاقتصاديّة، وإبعادهم عن مواقع اتخاذ القرار، وإذا ما انتهى إلى الفشل هو تجربة إقصاء المواطنين العرب وإبعادهم، مع الإشارة إلى أنه لا يمكن لأيّ دولة تحترم نفسها وتثق بمكانتها وديمقراطيتها أن تحوّل مبدأ المساواة المدنيّة وقضية المواطَنة إلى حقل تجارب ومساومة،  بل إنه عليها أن تطبقه بحذافيره، فالحياة المدنية المشتركة في دولة متعدّدة الحضارات والثقافات  والتوجّهات الدينيّة والقوميّة هي حقيقة يجب أن تكون مفهومة للجميع. وبالتالي من المحظور اعتبار مشاركة حزب عربي في الحكومة والائتلاف، تجرية لمرة واحدة، بل اعتباره بمثابة تصحيح لغبن تاريخيّ ومدنيّ وسياسيّ وأخلاقيّ وخلل في النظام الديمقراطيّ الإسرائيليّ يتواصل منذ 1948 وحتى اليوم يجب مواصلة العمل على إصلاحه في الحكومة الحالية والحكومات القادمة.

 

 

باعتبار الدولة ، دولة لكافّة مواطنيها كما جاء في خطاب  الرئيس الأميركيّ ابراهام لينكولن  محرّر العبيد ، في غيتسبورغ في التاسع عشر من تشرين الثاني عام 1863 :" حكم الشعب من قِبَل الشعب ومن أجل الشعب"، والسؤال هنا: هل ينحصر الشعب في الدول الديمقراطيّة أو الليبراليّة، أو التي تدَّعي ذلك ، في أتباع ديانة واحدة أو حزب واحد أو قوميّة واحدة أو موقف سياسيّ واحد ؟أم أن الشعب هو تركيبة متنوّعة  من الانتماءات تجمعها مواطَنة واحدة، وانتماء مدنيّ قانونيّ لجهاز واحد هو الدولة التي تهدف أساسًا إلى خدمة مواطنيها وتجميعهم رغم تعدّدهم الحضاريّ والثقافيّ والدينيّ وغيره في مجموعة واحدة تحمل اسم" مواطني الدولة"؟؟؟.

 

 

هذا ما تشهده السياسة الإسرائيليّة حاليًّا وهي حالة تُسَخِّف من معنى الديمقراطيّة، وتدفع بالكثيرين إلى التفكير مليًّا ما إذا كان النظام الديمقراطيّ هو النظام المناسب والملائم في ظلّ الواقع الذي تعيشه إسرائيل، ما يعني أن القول الشائع بأن الديمقراطيّة هي الإمكانيّة الأفضل من بين الإمكانيّات المطروحة (أي بشكل نسبي وليس مطلق) يفقد من فحواه ومصداقيّته بسبب الطريقة التي يمارس بها السياسيّون "دورهم في هذه الديمقراطيّة".
 

 

على ضوء المشاركة الهامّة لكيان العلماء في العالم والتخصّص في مجال التعدديّة الحضاريّة، عبر محاضرتهم ومداخلتهم خلال المؤتمر تستطيع التأكيد بأنّ، إشكاليّة التعدديّة الحضاريّة في الولايات المتحدة بتنوّعها بين البيض والملوّنين والآسيويّين وغيرهم ووجود مجموعات يمينيّة محافظة بل متطرّفة، تنتمي إلى الحزب الجمهوريّ وتؤيّده، ورغم مرور 250عامًا على استقلالها لم تُفْلِح الولايات المتحدة في إيجاد صيغة ملائمة للتعامل مع قضية التعدديّة، وترجمة التعدديّة إلى احترام للتنوع والاختلاف والبحث عن القاسم المشترك الأوسع، وهو الشعب والدولة، بدلًا من الانزواء والتقوقع والتمسك بالانتماءات الضيّقة التي تُفْقِدُ الدولة معناها،

 

وتجعلها قبائل وفئات ما يفرقها أكثر بكثير ممّا يوحّدها وبالتالي سيبدأ تفككها من الداخل، وهو ما انعكس في الولايات المتحدة في حادثة اقتحام مبنى الكونغرس الأميركيّ في السادس من كانون الثاني عام 2021 ، ورفض دونالد ترامب ومؤيّديه قبول الحسم الديمقراطيّ( تبعه حالة مشابهة في إسرائيل رفض فيها بنيامين نتنياهو واليمين ومؤيّديه الحسم الديمقراطيّ، واعتبروا الحكومة الحاليّة غير شرعيّة ليس لسبب إلا مشاركة حزب عربيّ فيها)علمًا أن لجنة التحقيق في هذا الاقتحام بدأت عملها والاستماع الى شهادات وأقوال الشهود ببث مباشر، ما يعيد إلى الأذهان ، لجنة التحقيق في فضيحة ووترغيت قبل 50 عامًا من اليوم بالتمام والكمال، والتي أعقبت اعتقال خمسة متهمين باقتحام مقرّ الحزب الديمقراطي، في السابع عشر من حزيران 1972،  وبحوزتهم أجهزة تنصّت أرادوا وضعها هناك، بعلم الرئيس ريتشارد نيكسون الذي اضطرّ للاستقالة بعد أن كشف الصحفيّ الشاب بوب وودوورد  ومساعده ، عن فضيحة التنصّت خلال تغطيته نبأ تمديد اعتقالهم .

 

 

نهاية القول: المؤتمر أؤكّد أن الدول كافّة وخاصّة الديمقراطية منها، مطالبة بحسم موقفها حول ما إذا كانت تريد التحوّل إلى دولة أحاديّة التوجّه ترفض التعدديّة والتنوع أي "دولة الأمّة"، أو " دولة القوميّة الواحدة والدين الواحد"، أم أنها تريد أن تصبح دولة متعدّدة الثقافات والحضارات والتوجّهات تقدس المشترك وتنبذ عوامل التفرقة، ينتخب الشعب قياداتها، ليحكم نفسه بنفسه، لمصلحة نفسه؟ فالأولى وصفة أكيدة للصراع والنزاع والصدام والتمييز والغبن، وربما التفكّك الداخليّ والعداء والتشرذم والإقصاء، أمّا الثانية فرغم صعوبتها وما تتطلّبه أحيانًا من عضّ على النواجذ، فهي السبيل إلى حكم الشعب من قَبَل الشعب ،ومن أجل الشعب وإلى دول وقيادات تخدم مواطنيها وليس العكس...
القرار هنا لأصحاب القرار، أمّا نحن فقد بلَّغنا.

 

 

תגובות

מומלצים