في إسرائيل قضاءٌ يخدم السياسة !!

على الرغم من أهميّة التعريف العلميّ السائد في علم النفس، لعمليّة اتّخاذ وصنع القرار في القضايا المختلفة والمتنوّعة، وبوتيرة يوميّة كانت أم موسميّة أو غير ذلك، القاضي بأنها "عمليّة معرفيّة ناتجة عن اختيار المعتقد، أو إجراء مفاضلة بين العديد من الاحتمالات الممكنة، واختيار البدائل استنادًا إلى القيم والتفضيلات والمعتقدات التي يملكها صاحب القرار"

13.05.2022 מאת: المحامي زكي كمال
في إسرائيل قضاءٌ يخدم السياسة !!

 

تبرز دون شك، وبوزن لا يقلّ أحيانًا عن أهميّة القرار وصعوبة المفاضلة والاختيار، أهميّة التوقيت في اتخاذ القرار، ليس من حيث الإسراع أو الإبطاء فقد تكون السرعة نقمة والبطء نعمة، أو العكس. ولكن من حيث الظروف التي تحيط باتخاذ القرار وموعده والأحداث  التي ترافقه، وبشكل خاصّ الأثر الذى يحدثه اتّخاذ القرار ومعانيه الواضحة والمستترة، خاصّة إذا كان  إثر القرار يتجاوز موضوعه الضيّق ويصل إلى مناحٍ أخرى، لا تقلّ أهميّة.

 


استنادًا إلى ما سبق واستمرارًا له، لم يكن قرار محكمة العدل العليا في إسرائيل، والذي قضى بردّ التماس أهالي 12 تجمّعًا سكنيًّا فلسطينيًّا في مَسافِر يطا جنوب الخليل بالضفة الغربيّة ضد قرار إسرائيل وجيشها إعلانها مناطق "إطلاق نار"، مفاجئًا أو غير متوقع، ما يعني عمليًّا هدم هذه القرى، وتهجير وترحيل أهلها الذي يقدر عددهم بأكثر من 4 آلاف فلسطينيّ يقيمون فيها منذ عام 1967 وقبل ذلك، أي قبل احتلال إسرائيل للضفة الغربية. كما لم تكن مفاجئة القيم والتفضيلات والمعتقدات التي يملكها القضاة أصحاب القرار، وهي جزء من الانجراف الذي تشهده كافّة أجهزة الدولة في إسرائيل نحو اليمين والتطرّف بكلّ ما يتعلّق بالأراضي المحتلّة. لكن توقيت اتخاذ القرار وموعد صدوره عشية يوم الاستقلال الرابع والسبعين لدولة إسرائيل، هو المهمّ هنا من حيث معانيه ليس فقط القضائيّة بل السياسيّة والقيميّة والعقائديّة التي لا يمكن تجاهل أبعادها الإقليميّة والمحليّة والعالميّة، ولها دون شكّ تأثيرات مستقبليّة بعيدة المدى، فهي تميط اللثام عن النوايا الحقيقيّة لإسرائيل ودور جهازها القضائيّ الذي يتماهى بقراره هذا بشكل واضح مع القرارات السياسيّة ويتماشى معها، دون أن يكتفي بذلك، بل إنه يشرعنها ويمنحها الشرعية ويدافع عنها أمام الهيئات والمحافل الدوليّة.

 


توقيت القرار يشكّل رسالة واضحة المعالم مفادها أنّ إسرائيل لم تعد تخجل من أن تحتفل باستقلالها من جهة، وتعمل من جهة أُخرى وفي نفس الوقت، على هدم قرىً فلسطينيّة وتهجير مواطنيها الذين يقيمون فوق أراضيهم منذ عقود طويلة، وربما قبل إقامتها، وذلك بغطاء وتسويغ قضائي توفّره المحكمة العليا. ورغم هذه الرسالة التي تشكّل تحدّيًا للعالم بقضائه وقانونه ومؤسّساته الحقوقيّة والقضائيّة والأخرى التي لا توليها إسرائيل أيّ اعتراف (هي مدعومة أميركيًّا ويشجعها صمت عالميّ غريب )، إلا أن قرار القضاة كان متوقّعًا أشارت إليه الظروف التي سبقته، والتي من  أهمّ معالمها أنّ المحكمة قبلت بصمت استمرار هذه القضيّة طيلة أربعة عقود بعد أن أعلن الجيش الإسرائيليّ عام 1981إغلاق منطقة ألمَسافِر بشكل كامل (ربّما تأكيدًا لمواقف كان قد تبناها زعماء إسرائيل وقياداتها العسكريّة، لخّصها اريئيل شارون  وزير الزراعة الإسرائيليّ عام 1981 بقوله  إنه يوصي القادة العسكريين بتوسيع نطاق المناطق التي يسيطرون عليها، وذلك لمنع انتشار العرب القرويين  من الجبال نحو صحراء الخليل)، وإعلان ما يزيد عن 30 ألف دونم من أراضيها مناطق إطلاق نار، غير مكترث بأنّها مأهولة بالسكان، ناهيك عن قيام الجيش في السنوات التي تلت الإعلان المذكور بطرد وتهجير نحو 700 من سكّان القرى الـ12 المنتشرة في هذه المنطقة. وتكرّر الأمر عام 1999، بحملة تهجير قسريّ لأهالي تلك التجمّعات، وإغلاق المنطقة بالكامل ونقل الأهالي وقطعان الماشية بحافلات، وأبعادهم عن قراهم إلى منطقة نائية، وهدم تلك التجمّعات للمرة الثالثة، متذرّعًا بحجّة السكن غير القانونيّ متجاهلًا أنّ السكان أقاموا في المنطقة لسنين طويلة قبل ،1967وبعدها بعِلم الجهات الرسميّة كلّها. ووقفت المحكمة متفرّجة طيلة كلّ هذه الفترة، وتجاهلت كلّ الأدلّة والبراهين القانونيّة القاطعة التي تقدّم بها الأهالي على مدار 22 عامًا، والتي تكشف زيف الادّعاء الإسرائيليّ بأن تلك المناطق غير مأهولة بالسكان، وأن الجيش، وهو الحاكم الفعلي الإسرائيليّ في الضفة الغربية، قبِل "بحلّ وسط" لمدّة أربعة عقود سمح للأهالي بالمكوث في الأراضي المذكورة.

 

 


أبعاد هذا القرار أكبر وأكثر من أن يتمّ حصرها في قضيّة عينيّة واحدة هي قضية "مَسافِر يطا" ومصادرة أراضيها، رغم خطورتها باعتبارها عمليّة تهجير واقتلاع لآلاف المواطنين الفلسطينيّين من أراضيهم ومساكنهم التي يعيشون فوقها منذ ستينيات القرن الماضي وقبلها بكثير، بل لأن هذا القرار يشكّل نسفًا لأساس قضائيّ دوليّ هامّ يتعلّق بالأراضي المحتلّة أينما كانت ملخّصه"من يعيش على أرض يمتلكها"، أي أن المواطنين الذين يقيمون فوق أراضٍ محتلّة هم أصحاب الحقّ فيها، وبالتالي فإن القوانين الدوليّة التي تقبلها كافّة دول ومنظّمات العالم،  تضمن حقّ من تمّ احتلالهم، في البقاء فوق أراضيهم التي يقيمون فوقها، أي أنه لا يجوز لدولة الاحتلال أن تُرحِّل، أو تنقل جزءًا من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلّها" ( المستوطنات الإسرائيليّة في الضفة الغربيّة) وفق المادة 26 من معاهدة جنيف الرابعة، وهو ما تنصّ عليه موادّ وتعليمات وبنود النظام الأساسيّ للمحكمة الجنائيّة الدوليّة التي تحظر نقل رعايا الدولة المحتلة إلى الأراضي التي تحتلّها، كما يناقض المادة 49 من معاهدة جنيف  الرابعة التي تحظر النقل الجبريّ الجماعيّ وترحيل الأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال، أو إلى أراضٍ أخرى محتلّة، أو غير محتلة. وتؤكّد أنه محظور أيًّا كانت دواعيه، علمًا أن القضاة في محكمة العدل العليا رفضوا بقرارهم ادّعاء الملتمسين بأنه على المحكمة احترام هذا البند،  إذ أكّدوا أنه" بند اتفاقيّ" يشكّل جزءًا من معاهدات بين دول ذات سيادة، وليس ممارسة قضائيّة  تلزم جهاز القضاء داخل هذه الدول،  ومن هنا فإنّ  عدم الاعتراف بالسلطة الفلسطينيّة دولة، أو كيانًا ذات سيادة يجعلها في هذه الحالة عرضة لدعاوى قضائيّة من مواطني الدولة ذات السيادة أي إسرائيل، كما حدث حين ألزمت المحاكم الأميركيّة مثلًا السلطة الفلسطينيّة بتعويض إسرائيليين تضرّروا ممّا وصفته"باعتداءات إرهابيّة"، دون أن تتمكّن من تقديم دعاوى باسمها أمام المحاكم الإسرائيليّة، ما يضطر مواطنيها التوجّه بشكل فرديّ إلى محاكم إسرائيل التي تحتلّ أراضيها،  ولا يوجد" بند توافقيّ" يلزم القضاء أينما كان وأيًا كان، وهي بهذا إنما تشرعن نشاطات الحكومة والجيش، وتقبل بتسييس القضاء، وجعله أداة  لشرعنة عمليّات الاستيلاء على الأراضي الفلسطينيّة ومواصلة سياسة الاستيطان التي بدأت إسرائيل فور انتهاء حرب الأيام الستة وانتصارها على الجيوش العربيّة، وسعيًا منها للتوسّع عملت بين عامي 1967 و1976 على تنفيذ سياسة استيطانيّة مستوحاة من خطة إيغال ألون نائب رئيس الوزراء، نبعت من دراسة الواقع على الأرض، ومن رغبته في تحقيق الأمن لإسرائيل، والمبنية على استراتيجيّة تضييق مجال الخيارات المتاحة للتسوية، وجعلها تقتصر على تلك  التي تستحيل معها إقامة دولة فلسطينيّة قابلة للحياة، إذ تمّ تأسيس مستوطنات بصفة انتقائيّة وفق مبدأ الكيف لا الكم. وتركّزت المستوطنات في القدس وغور الأردن من جنوب غور بيسان، وحتى جنوب منطقة الخليل، الأمر الذي نجم عنه بناء 34 مستوطنة 12 منها في منطقة القدس خلال هذه السنوات، علمًا أن عدد المستوطنات الإسرائيليّة اليوم يبلغ 127 مستوطنة إضافة الى 135 نقطة استيطانيّة عشوائيّة، وعشرات المزارع  الخاّصة كبيرة المساحة. وليس ذلك فقط فالقضاء الإسرائيليّ "قرّر" خاصّة في السنوات الأخيرة وتحديدًا منذ اتفاقيات أوسلو أو بعدها، منح الغطاء القضائيّ للمستوطنات ( الإخلاء الأخير لمستوطنة تم في عهد رئيس الوزراء الإسرائيليّ مناحيم بيغن مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وهو إخلاء مستوطنة ألون موريه)، مؤكّدًا أن القانون الدوليّ لا ينطبق على  إسرائيل، وإن محاكمها هي الوحيدة المخوّلة بتحديد مصير المستوطنات، والتي كان أحد قضاتها وهو إدموند ليفي قد اعتبرها كلّها قانونيّة وغير منافية للقانون الدوليّ، كما منحتها المحكمة العليا شرعيّة تامّة وكاملة. ولعلّ ما كشف نوايا ومواقف القضاء الإسرائيليّ  فيما يخصّ سياسة الاستيطان والضمّ هو إقرار محكمة العدل العليا دون تحفّظ،  الصفقة التي تمّت بين رئيس المعارضة اليوم، رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو،  ومنافسه السياسيّ بيني غانتس يوم 20 نيسان 2020، والتي بموجبها تمّ تشكيل حكومة وحدة وطنيّة، إذ تضمّنت الصفقة اتّفاقًا يسمح للحكومة بتقديم خطط ضمّ الضفة الغربيّة وغور الأردن  للمناقشة والموافقة عليها في مجلس الوزراء والكنيست اعتبارًا من الأول من تموز 2020، وذلك  في أعقاب إعلان الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب عمّا يسمّى "صفقة القرن" في كانون الثاني 2020، والذي يقترح فيها ضمّ مناطق من الضفة الغربيّة المحتلة إلى إسرائيل، ما يعني أنّ المحكمة شرعنت عمليًّا ضمّ الضفة الغربيّة وغور الأردن، واعتبارها جزءًا من دولة إسرائيل، وليست أرضًا مُحْتَلَّة، وذلك خلافًا لقرارات الأمم المتحدة ومواقف كافّة دول العالم.

 

 

ورغم التنديد الدوليّ القوي لسياسة الاستيطان الإسرائيليّ في الضفة الغربيّة منذ عام 1967، والذي يتجسّد بالأساس في قرارات الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، والرأي الاستشاريّ لمحكمة العدل الدوليّة التي رأت في الاستيطان خرقًا سافرًا للقانون الدوليّ، وجريمة حرب تنتهك حقوق الفلسطينيين، رغم ذلك فإنّ إسرائيل مستمرّة في سياسة الاستيلاء على الأراضي المحتلة وضمّها ، غير عابئة بما يدور حولها من شجب وتنديد. ويمكن إرجاع الاستخفاف الإسرائيليّ بالقانون الدوليّ وقرارات الشرعيّة الدوليّة إلى الدعم الأميركيّ اللامحدود في الشرق الأوسط، الأمر الذي يفسّر عدم اتخاذ مجلس الأمن تدابير حقيقيّة وصارمة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، واكتفائه بالشجب والتذكير بمسؤوليّة إسرائيل كقوّة احتلال مستعينًا بفيتو الولايات المتحدة المضمون في مجلس الأمن.

 

 


مسألة عدم إنصاف القضاء الإسرائيليّ الفلسطينيّين وقضاياهم كالاستيطان والمصادرة والحقّ في العبور وحريّة التنقّل  وهدم المنازل مقابل غضّ الطرف عن "البؤر الاستيطانيّة  غير القانونيّة" وفق مصطلحاتهم، ليست جديدة.  كما أن شرعنتها من قبل القضاء الإسرائيليّ خلافًا لقرارات وتوصيات ومواقف المحكمة الجنائيّة الدوليّة ليست جديدة، وقضية الجدار الفاصل عام 2002 الذي أقامته إسرائيل على حدود الضفة الغربيّة هي مثال على ذلك، إذ قبلت المحاكم الإسرائيليّة كافّة الادعاءات  الأمنيّة التي ساقها الجيش والسلطات الإسرائيليّة، والتي اعتبرتها مسوّغات لبناء الجدار ، واقتطاع مساحات من الأراضي الفلسطينيّة (يتضح من مسار الجدار أن الهدف منه تهيئة معظم المستوطنات والمساحات الشاسعة المخصّصة لتوسعتها مستقبلًا للضمّ الفعليّ إلى حدود إسرائيل) باستثناء حالة واحدة تتعلّق بالجدار في منطقة بلعين، عبر قرار الحكم الذي صدر بتاريخ 30.6.2004 ، وفيه حدّد القضاة أهارون براك، إلياهو ماتسا وميشئيل حيشين أن 30 من بين 40 كيلومتر من مسار الجدار الفاصل، والتي تمّ بحثها في إطار الاستئناف (الممتدّة بين جفعات زئيف وحتى مكابيم) غير قانونيّة، وأنه يتوجّب على الدولة عرض مسار بديل.

 

 

علمًا أن الحكم القضائيّ بحث سؤالين مركزيين، أولهما ما إذا كان القائد العسكريّ يملك صلاحيّة الاستيلاء على الأراضي ذات الملكيّة الخاصّة من أجل إقامة الجدار الفاصل، وثانيها ما إذا تمَّ تحديد مسار الجدار الفاصل في هذه المنطقة طبقًا للقانون، وقد ناقش قرار الحكم الاعتبارات التي من الممكن لها، من الناحية القانونيّة، توجيه أفعال جهاز الأمن فيما يتعلّق بإقامة الجدار الفاصل. وقد كانت نقطة الانطلاق في هذا النقاش من كون الضفة الغربيّة منطقة محتلة، تسري عليها تعليمات القانون الإنسانيّ الدوليّ، والذي يُعنى بالمناطق المحتلة، أي أنظمة لاهاي من العام 1907 و "البنود الإنسانيّة" في اتفاقيّة جنيف الرابعة (كما تعرفها اسرائيل)، وجاء فيه أن القائد العسكريّ لا يملك صلاحيّة إصدار الأوامر بإقامة الجدار الفاصل، إذا كانت بواعثه سياسية. ولا يمكن للجدار الفاصل أن يكون مدفوعًا ببواعث "ضمّ" مساحات من المنطقة إلى دولة إسرائيل، بل يتوجب فعلًا على القائد العسكريّ للمنطقة المُسَيطَر عليها أن يجد التوازن ما بين احتياجات الجيش، وبين احتياجات السكان المحليّين. وفي إطار هذا التوازن الدقيق لا مكان لاعتبارات إضافيّة، مثل الاعتبارات السياسيّة، ضمّ المناطق أو رسم الحدود الثابتة للدولة، وهو المصطلح الذي صاغه القاضي أهارون باراك" الوسطيّة أو التوفيق بين أمرين "، ولكن يبدو أن انتهاء عهد أهارون باراك كان انتهاء عهد أعارت فيه المحاكم الإسرائيليّة أهميّة للقضاء العالميّ والقانون الدوليّ واهتمّت " بما سيقوله الأغيار"، بينما هي اليوم تكرَّس واقَعًا يتّسم بسيادة لغة المصالح وطغيان قانون القوة، يتمتّع ويستمتع بدعم الولايات المتحدة لإسرائيل  في كلّ إجراءاتها في الضفة الغربيّة وقطاع غزة ( قصف المدنيين وتجاهل التقارير الدولية كتقرير غولدستون)، وبينما محاكمها تشرعن  ضمّ الأراضي المستولى عليها قسرًا، وتشرعن  الاستيطان رغم تصنيفه وفق القانون الدولي كجريمة حرب مستمرة في حق أبناء الشعب الفلسطينّي، في تحدٍّ للشرعيّة الدوليّة، وكأنها دولة فوق القانون.

 


شرعنة المحاكم لنشاطات وقضايا تصبّ في مصلحة إسرائيل كدولة، أو مصلحة الأغلبيّة اليهوديّة لا تقف هنا، بل إنها تمسّ قضايا معيشيّة  واقتصاديّة أخرى ، فالمحكمة العليا أقرت مسار الجدار الفاصل رغم أنه يشكّل في معظم مقاطعه استجابة لطلبات المستوطنين اليهود في الضفة الغربيّة، ويتجاهل حقوق الفلسطينيين كما يتجاهل الواجب القانونيّ للدولة المحتلة بعدم المسّ بمصادر رزق وأماكن عمل المواطنين الذين تم احتلالهم، طالما ليست هناك كيان ذات سيادة لهم، وبالتالي قامت إسرائيل بشرعنة وتشريع وغطاء قضائيّ، الجدار دون ضمان وصول المزارعين الفلسطينيين إلى أراضيهم ، وذلك يشبه  ما فعلته إسرائيل ضمن اتفاقيات وقف إطلاق النار التي وقّعتها عام 1949 مع الدول العربيّة والتي جاءت متجاهلة للاعتبارات الجغرافيّة والسكنيّة والإنسانيّة وهي اتفاقيات (مع 4 دول عربية) أدّت الى  فصل المزارعين في 80 قرية فلسطينيّة عن أراضيهم الزراعيّة، وذلك خلافًا للمبادئ الواضحة المتعلقة بالحدود، والتي أجاد تشارلز فوست أحد أكبر علماء الجغرافيا في القرن العشرين صياغتها قائلًا إن أفضل ترسيم للحدود بين الدول يجب أن يضمن   ترسيمًا واضحًا للحدود( إسرائيل لم ترسم حدودها حتى اليوم)، وفصلًا عرقيًّا قدر الإمكان، وعدم الفصل بين مجموعات سكانيّة تربطها علاقات غير قابلة للفصل،  وعدم قطع فئات ومجموعات سكانيّة عن مصادر رزقها، ويمكن القول إن إسرائيل عام 1948 وكذلك عام 1967 وبعدها فعلت العكس تمامًا ففصلت السكان الفلسطينيّين  عن مصادر رزقهم،  ولم ترسم الحدود بوضوح وخلطت بين مجموعات عرقيّة بشكل مقصود فأجازت الاستيطان، وأجازت سيطرة اليهود على منازل الفلسطينيين، كما حدث في المدن المختلطة وكذلك غربي القدس.

 

 

كما أن المحاكم الإسرائيليّة شرعنت " تسييس" الحقّ في الاحتجاج، كما عملت على تجيير القضاء لمصلحة فئات معيّنة، فهي تصدر آلاف وعشرات آلاف أوامر الهدم بحقّ منازل فلسطينيّة في الضفة الغربيّة  وعربيّة داخل إسرائيل، لكنها بالمقابل لا تحرّك ساكنًا إزاء بناء مستوطنات وبؤر استيطانيّة يهوديّة بالعشرات في الضفة الغربيّة، بل إنها لا ترفض أيّ طلب لشرعنة بؤر استيطانيّة منها إفيتار وغيرها، كما أنها بمحاكمها وشرطتها تقلّص حجم وإمكانيات الاحتجاج التي يسمح بها للمواطنين الفلسطينيين مقابل الجيش والعرب  داخل إسرائيل، الذين بنضالهم يريدون وضع حدٍّ لغبن يلحق بهم عملًا بقول الفيلسوف الإيرلندي إدموند بيرك بأن استمرار الظلم والغبن  مرهون بعدم قيام الطيّبين بدورهم ضدّه، مع واجب القول إن الاحتجاج العنيف والمسلّح الذي يمارسه الفلسطينيون في الضفة الغربيّة خاصّة في الآونة الأخيرة، والتي أوقعت أكثر من 20 قتيلًا إسرائيليًّا، وهي وسائل تثير بدورها شجب واستنكار المسؤولين الأوروبيين والعالميين، وحتى بعض الدول العربية، ومنها من وقّع مع إسرائيل اتفاقيّات أبراهام، وتبعدهم عن دعم الشأن الفلسطينيّ ودعم المطالب الفلسطينيّة وخاصّة من طرف الولايات المتحدة ، وهو ما لا يصبّ في مصلحة الفلسطينيين، بل يضعفهم من جهة، ويزيد من قوة الفئات الفلسطينية المعارضة للسلطة الفلسطينيّة ومنها حركة " حماس" وغيرها، والتي تحاول السيطرة على الضفة الغربيّة كما سيطرت على غزة، وتريد جرّ الفلسطينيين إلى جولات نزاع مسلّحة مقابل إسرائيل الى لا نهاية، وسط ظروف ملخّصها انعدام أي دعم عربيّ ودوليّ، ما يعني أن الفلسطينيين لم يفهموا بعد أن التاريخ يؤكّد أن المقاومة المسلّحة والعنيفة لم تنجح في قلب الأوضاع رأسًا على عقب، ولم تنجح في ضمان تحرّر شعب من نير الاحتلال ، وهو ما يجب في نظري أن يشكّل نبراسًا أمام المواطنين العرب في إسرائيل يجعلهم يكرّسون ما فعلوه حتى اليوم من نضال مدنيّ وبرلمانيّ وسياسيّ فعَّال ومتواصل تمّ تتويجه بعد الانتخابات الأخيرة بانضمام القائمة العربيّة الموحّدة إلى الائتلاف الحاليّ برئاسة نفتالي بينيت، إضافة إلى استغلال الوسائل القانونيّة المتاحة للحصول على الحقوق التامّة من الحكومات المتتابعة وصولًا إلى المساواة التامّة في الحقوق وهو الشرط الأساسيّ والأوّل للمواطنة في كلّ دولة ديمقراطيّة حقيقيّة تليه بعد ذلك الواجبات، إضافة إلى تجنيد الدعم العالميّ والعربيّ الماليّ والسياسيّ والاستثمارات في بناء بنىً تحتيّة ومؤسّسات وهيئات في المجتمع العربيّ في إسرائيل، ربما يشكّل بداية لعهد تدعم فيه الدول العربيّة  بشكل خاصّ الفلسطينيين في الضفة الغربيّة وتخصّص الميزانيّات اللازمة لبناء المشاريع، وتوفّر لهم أماكن العمل والتعليم، وترفع من مستواهم الاقتصاديّ، وتقلل من اعتمادهم التام على مرافق العمل في إسرائيل  الأمر الذي يبقيهم عرضة للمسّ والحصار الاقتصاديّ، ويمنعهم من تأكيد وضمان استقلالهم الاقتصاديّ والعلميّ والعمليّ، وربما الاستثمار العربيّ  في صناعات وشركات فلسطينيّة بدلًا من أن تستثمر هذه الدول مليارات الدولارات في شركات تقنيّات أجنبية وليست عربية  ( تجسيد تامّ لعقدة الخواجا التي يعانيها العرب معتقدين أن الأجنبّي أفضل وأذكى وأنجح منهم، وما لهم إلا تسليمه أموالهم ومصيرهم) كما حصل في قضية صندوق الاستثمار الذي يديره جاريد كوشنير  صهر دونالد ترامب، الذي استطاع تجنيد ملياري دولار من العربيّة السعوديّة لاستثمارها في شركات أجنبية، واستثمارها  بدل ذلك لمصلحة المواطنين العرب في إسرائيل، وتخصيص الميزانيات اللازمة لبناء المشاريع الاجتماعيّة والجماهيريّة، وربما استثمارات اقتصاديّة تجعل أموال الدول العربيّة تؤتي ثمارها لمصلحة الشعوب العربيّة، فهل من مستجيب ؟؟؟ أم أن عِبر التاريخ لم تذوّت بعد؟ 


 
 

תגובות

מומלצים