" ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله "

سبحانك يا مبدع الأشياء بلا مثال, سبحانك يا مخترع العالمين على أحسن حال, سبحانك يا منفرد بالعظمة والكمال, سبحانك يا موجود بلا واجد وباق بلا زوال, سبحانك يا معبود قبل الوجود بلا دال, سبحانك يا واحد يا احد يا صمد يا عال, سبحانك يا من لا شريك لك في فعل وأفعال

04.07.2021 מאת: منير فرّو
" ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله "

 

سبحانك كلما طلعت شمس وهلّ هلال, سبحانك أنت العزيز الحكيم المتعال, سبحانك تعاليت تعاليت يا ذا الجبروت والجلال,  سبحانك عما تكنه الضمائر والوهم والخيال, سبحانك يا من له الحمد على كل حال, سبحانك بك نستعين وعليك المتكال.

قال تعالى : " سبح اسم ربك الأعلى, الذي خلق فسوى, والذي قدر فهدى, والذي أخرج المرعى, فجعله غثاء أحوى, سنقرئك فلا تنسى, إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى, ونيسرك لليسرى, فذكر إن نفعت الذكرى, سيذكر من يخشى, ويتجنبها الأشقى, الذي يصلى النار الكبرى, ثم لا يموت فيها ولا يحيى, قد أفلح من تزكى, وذكر اسم ربه فصلى, بل تؤثرون الحياة الدنيا, والآخرة خير وأبقى, إن هذا لفي الصحف الأولى, صحف إبراهيم وموسى"،

وقال تعالى أيضا : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد"،

الله تعالى الخالق العظيم لهذا الكون، فاطر السموات والأرض، الجاعل من الماء كل شيء حيا، الخالق من كل شيء زوجين، ليكون متففردا بالفردانية، ومتسرمدا بالصمدية، ومنزها عن الضدية، لقوله : " سبحان الذي خلق الأزواج كلها، مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون"، وأيضا: " ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون"، وأعظم الزوجين الذكر والأنثى لتكون منهم المواليد واستمرار النسل والبقاء، كقوله تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائلا "، وأيضا: "  ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " .

الرافع السماء بلا عمد، المزين السماء بالكواكب والنجوم النيرات، والشمس والقمر للأوقات وتقييم الزمن، بقوله : " هو الذي جعل الشمس ضياء، والقمر نورا، وقدّره منازل، لتعلموا عدد السنين والحساب، ما خلق الله ذلك إلا بالحق، يفصّل الآيات لقوم يعلمون"، وأيضا: " والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم”، الشمس ذلك الضياء الذي جعله الله سبحانه وتعالى واحدا من النعم الكبرى لأهل الأرض، سخرها للإنسان، وجعلها من أسباب الحياة والاحتياجات، بداية من ضوء النهار إلى الطاقة الشمسية،

وقد شاءت قدرة الخالق أن تعتمد الحياة الموجودة على الأرض بجميع صورها على ما ترسله الشمس من حرارة وضوء، وهما يلعبان الدور الأساسي في تنمية الحياة وتطورها، وتعتمد الحياة على الأرض كذلك على تأثير الشمس في توفير الغذاء، فجميع الكائنات الحية من نبات وحيوان تدخل فيما يسمى بعملية "سلسلة الغذاء"، التي تبدأ بالنباتات الخضراء، التي تحصل على غذائها عن طريق عملية "التركيب الضوئي" أو "التمثيل الكلوروفيلي " أو "اليخضور"، لان النبات يتميّز عن غيره من الكائنات الحية، فهو ثابت في الأرض لا يتحرك، ومن اجل حصوله على الغذاء، خصه الله بهذه العملية المعقدة، ليتم طبخ غذاءه عن طريق التمثيل الضوئي، الحاصل من أشعة الشمس، فالنبات يتغذى بما  يصنعه، ولكن لا ليتغذي فقط وإنما لتتغذى الحيوانات على هذه النباتات، وفي النهاية يتغذى الإنسان بالنباتات والحيوانات، فعظمة الخالق تتجلى بخلقه للشمس التي هي مصدر الضوء والتي اقسم بها لأهميتها، بقوله : " والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها . والنهار إذا جلاها . والليل إذا يغشاها . والسماء وما بناها . والأرض وما طحاها "،

 فالخالق جل وعلا  جعل الشمس وما ترسله من ضوء نعمة كبيرة على مخلوقاته لتكون سببا لغذائهم ونموهم وبقاء سلسلة الحياة، وبدون الشمس لكان عالمنا مظلما لا حياة فيه، وأيضا لم يكن هناك مصادر أخرى للطاقة، كالرياح ومساقط المياه والأخشاب والفحم والبترول والكهرباء والطاقة النووية،

فهل وجود الشمس ومجموعتها الشمسية، ووجود نظام سلسلة غذاء الكائنات الحية من البذرة التي لا ترى إلى الإنسان العاقل، كانت بفعل العدم والصدف أم بفعل قادر حكيم على كل شيء قدير ؟ وهل بقاء واستمرار دوران الكواكب التي هي جمادات لا عقل لها ولا تمييز وما تقوم بها من خدمة الأرض وما عليها، من الكائنات الحية والتي اجلها الإنسان، الذي صوره تعالى على أحسن تقويم،  هو من فعل ذاتها ؟ هذا ما يقبله إلا من عقله سخيف، ودينه ضعيف،

 فالله الجاعل لكل ما خلق رزقا ومباتا، وجعل للإنسان المتاع ورزقا تفضيلا له عن سائر مخلوقاته، وخصه بالعقل والروح الناطقة ليتشبه بالملائكة ويتشرف بالعلم والبيان، والنطق والكلام، والصنائع والمهن والحرف، بقوله: "و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها"، ودابة كل ما يدب على الأرض من حشرات وطيور كائنات حية ترى ولا ترى في البر وفي البحر، فهو تعالى الرزاق الذي لا يبخل بالعطاء ومن يقدر على مثله إلا هو سبحانه،

المنزل قطره على الأرض لتنبت الأرض نباتا، لتكون لكائناته أرزاقا، بقوله تعالى : "وهو الذي أنزل من السماء ماءً، فأخرجنا به نباتً، كل شيءٍ، فأخرجنا منه خضراً، نخرج منه حبا متراكباً، ومن النخل من طلعها قنوانٌ دانيةٌ، وجنتٍ من أعناب، والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشبه، انظروا إلى ثمره إذا أثمر وبنعه، إن في ذلكم لأيت لقومٍ يؤمنون".

 الخالق الليل للسبات والراحة، والنهار للعمل والفلاحة كقوله تعالى : " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ..."،

 هو الحقيقة  التي تبقى الخليقة بها حائرة، والأبصار خاسئة حاسرة،  فحقيقته تعالى الاعتراف بها ضرورة لا حقيقة، لأنه خالق كل شيء، ومنه ظهر كل شيء، واليه يرجع كل شيء، حكمة بالغة، وقدرة أزلية قاهرة، يدرك الأشياء ولا تدركه الأشياء.

  السؤال عنه تعالى بدعة، وإذا سُأل عنه كيف كان ؟ الجواب كما عليه الآن، لا يشغله شأن عن شأن، قبل الوجود موجود، وقبل أن يوجد الخلق معبود، فهو تعالى معبود قبل أن يعبد، وموجد الموجودات حتى يوحّد،

الدال على وجود ذاته- وحاشاه من كلمة ذات- وجود واختلاف مصنوعاته، ونمو وتطور ما خلق طورا بعد طور،

وفي خلق الحياة وتقلب الليل والنهار ونمو الطفل في الأرحام،  وتطوره من علقة إلى مضغة إلى عظم ثم إلى عظم مكسوا لحم  ثم خروجه لفسيح الدنيا ثم  نشوءه وبلوغه وكمال عقله واشتداد عوده واقترانه بزوجته ليعود لينشيء خلقا من ذكر وأنثى، فكرة لمن تفكر، وعبرة لمن اعتبر، كقوله تعالى : " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون"،

 وأيضا : " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين،  ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما، ثم انشاناه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين "،

  وهنا تظهر عظمة الخالق في دقة الوصف الذي عجزت البشرية عن معرفته حتى اكتشف في الثلاثين السنة الأخيرة الأجهزة الالكترونية الدقيقة التي صورت عمليات تكون الجنين وتطوره، وكما قال تعالى: " فلينظر الإنسان مما خلق، خلق من ماء دافق" ،

 فالله تعالى يقول: لينظر الإنسان مما خـُلق، ليعرف كم هي عظمة الخالق ؟ فإنشاء الإنسان من ماء مهين، من نطفة ذكرية لا ترى بالعين المجردة، وتحوي داخلها خلقة بشرية تامة، من رأس ودماغ وعظم وجلد وشرايين وأوردة وقلب ورئتين وكبد ومرارة وطحال ومعدة وعينين ويدين ورجلين وبطن ودم وشعر ونخاع وجفون وغيره مما يتكون منه الإنسان،  ثم إقامتها في رحم الامرأة، ثم تغييرها من مرحلة إلى مرحلة، ليصبح نشوا يخرج من بطن أمه بعد تسعة اشهر كامل الخلقة، لتدب به الروح ويصبح إنسانا، أليس هذا من فعل قادر، قاهر، حكيم، عليم، خبير، بصير ومصور ؟  

 وكما قال تعالى : " وفي أنفسكم أفلا تبصرون "، فوزن القلب حوالي ثلاثمائة واثني عشر جراماً، ينبض بمعدل سبعين نبضة في الدقيقة، أي: بمعدل مائة ألف مرة يومياً، هذا القلب، ينبض القلب الواحد في العام حوالي أربعين مليون مرة، وفي كل نبضة يدخل حوالي ربع رطل من الدم، ويضخ في يوم واحد اثنين وعشرين ألف جالون من الدم!

الدم الذاهب إلى الدماغ يعود إلى القلب في ثمان ثواني، بينما يعود الدم الذاهب إلى أصابع القدم في ثمانية عشر ثانية، وفي الدم خمسة ملايين كرية حمراء، في كل ملي متر مكعب واحد من الدم، خمسة ملايين كرية حمراء أي: تبلغ في مجموع الدم العام حوالي خمسة وعشرين مليون كرية حمراء. وتفرش هذه الكريات سطحاً مقداره ثلاثة آلاف وأربعمائة وخمسين متر مربع،

يحوي الجسم البشري أكثر من ستمائة عضلة، وأكثر من مائتي عظم، وتحوي العضلة المتوسطة الحجم على عشرة ملايين ليف عضلي، في كل يوم يتنفس الإنسان خمسة وعشرين ألف مرة، يسحب فيها مائة وثمانين متر مكعب من الهواء، يتسرب منها ستة أمتار ونصف متر مكعب من الأكسجين إلى الدم، عمل العضلات مجتمعة في اليوم يساوي ما حمولته عشرون طناً -عمل عضلات جسم الإنسان الواحد يساوي ما حمولته عشرون طناً- في المعدة حوالي خمسة وثلاثين مليون غدة للإفراز،

في الدماغ ثلاثة عشر مليار خلية عصبية، ومائة مليار خلية دبقية استنادية تشكل سداً منيعاً لحراسة الخلايا العصبية من التأثر بأية مادة، في العين الواحدة حوالي مائة وأربعين مليون مستقبل للضوء، في العضو الذي يمثل شبكية الأذن حوالي ثلاثين ألف خلية سمعية لنقل كافة أنواع الأصوات، وهذا إعجاز أيضاً،

 لو تسمع ألف صوت من أول ما يكلمك الشخص تعرف صوته، من الذي أعطاك هذا التمييز تعرف صوت هذا من صوت هذا؟!

 في الدم الكامل خمسة وعشرين مليون مليون كرية لنقل الأكسجين، وخمسة وعشرين مليار كرية بيضاء لمقاومة الجراثيم ومناعة البدن، ومليون مليون صفيحة دموية لحفظ الدم ضد النزف وإيجاد التخثر في أي عرق نازف.

 ومما يذكر هنا أن الكريات الحمر تقوم بنقل ستمائة لتر من الأكسجين لخلايا الجسم كل أربع وعشرين ساعة، يعتبر الكبد أكبر غدد البدن، ويزن ألف وخمسمائة غرام، وفيه من الخلايا ثلاثمائة مليار خلية، في الكبد وحده! يمكن أن تتجدد هذه الثلاثمائة مليار كلياً خلال أربعة أشهر،

الكلية تزن مائة وخمسين غراماً فيها مليون وحدة وظيفية لتصفية الدم، ويرد إلى الكلية في مدة أربعٍ وعشرين ساعة ألف وثمانمائة لتر من الدم، يضخ القلب حوالي ثمانية آلاف لتر من الدم، داخل الجملة الدورانية التي تمتد في جسم الإنسان حوالي مائة وخمسين كيلو متر.

 إن تفكر الإنسان في نفسه من أعظم الأشياء التي تقوده إلى معرفة الخالق، وإلى توحيد الله تعالى، وإلى إجلال الله تعالى، وإلى زرع مهابة الله تعالى في قلب الإنسان وفي صدره، كما قال احدهم  :       وتزعم أنك جرم صغير      وفيك انطوى عالم أكبر

  فهل عظمة خلق الإنسان هي ليست من فعل قادر قاهر حكيم عليم خبير ؟ وهل هي جاءت من قبل ذاتها ؟ او جاءت دون عقل وتدبر ؟ وهل تناسق خلق الكون بسمائه وأرضه وكواكبه وأفلاكه وماءه وترابه وهواءه وإنشاء المواليد وطريقة خلقهم جاء بمجرد وهم وخيال دون مدبر ومهندس ومصمم يفوق عقولنا ودون قدرة قادر أراد للكون أن يكون فكان ؟

كلا إن هذا الاعتقاد لتدحضه العقول والألباب، ولتدفعه حقيقة الاعتقاد برب الأرباب، وان كل ما في الوجود إلا عبرة للوصول والاستدلال على خالقنا العظيم، الذي وصف نفسه بالقدرة فهو القادر المقتدر، وبالخبرة فهو خبير، وبالعلم فهو عليم، وبالرحمة فهو رحيم، وبالكرم فهو كريم، وبالجبروت فهو جبار، وبالقهر فهو قهار، وبالهيمنة فهو المهيمن، وبالتقديس فهو القدوس، وبالملك فهو مالك الملك ، وبالغنى فهو الغني والمغني، والعز فهو المعز، وبالذل فهو المذل، وبالسمع فهو السميع، وبالبصر والتبصر فهو البصير، وبالتصوير فهو المصوّر، فجل المصوّر للصور، والقاهر للقـُدَر، والرازق باعث الأرزاق، ومنوّع الأنواع مبدع المبدعات من لا شيء، وصانع المخلوقات بدون شيء، ومدبر المدبرات دون أن يستعين بشيء، تعالى عن الأشياء،وترفع عن صفات ووصف الأحياء،وهو الباقي بلا أمد، والحاصي بلا عدد، وهو الفرد الصمد.                             

 إنها عظمة الله تخر لها الخلق، وتصعق لها العقول والألباب، هذا السجود لمجرد التفكر بآيات وعظمة ما صنع الله، فكيف لو اظهر الله ذاته للخلق؟ لتلاشت البشرية واضمحلت.

 فيا له من اله عظيم ما ارحمه، وقوي متين ما أعدله، وعليم حكيم ما احكمه، جل شأنه، وعظم مكانه، وتعالى عما يتقولون الملحدون، ويقولون الجاحدون المنكرون، ويتوهم الجاهلون من نفي وجوده تعالى وإنكار ربوبيته ووحدانيته، وهو فوق الأبصار والبصائر، وما تتصوره الأوهام والضمائر، رب المشرقين والمغربين، واله الكونين والعالمين، لا اله إلا هو ولا معبود في الوجود سواه.

     يقول الله تعالى وهو عزّ من قائل  : " ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض، وسخر الشمس والقمر، ليقولن الله فأنى يؤفكون،  الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويقدر له، إن الله بكل شيء عليم"،

وأيضا يقول جل ثناؤه : " أم خلقوا من غير شيء، أم هم الخالقون، أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون "،

 وأيضا قال تعالى: " إن في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً، وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك فقنا عذاب النار سبحانك ".

قال تعالى : " الله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماءً، فأخرج به من الثمرات رزقا لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهر، وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين، وسخر لكم الليل والنهار، وءاتكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلومٌ كفارٌ".

وقال أيضا : "الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم ".

وقال أيضا : "الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها، ثم استوى على العرش، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، يدبر الأمر، يفصل الآيت لعلكم بلقاء ربكم توقنون، وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسى وأنهراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، يغشى اليل النهار، إن في ذلك لأيات لقومٍ يتفكرون".

وقال أيضا : " ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء، فأحيا به الأرض من بعد موتها، ليقولن الله، قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون".

إن الذي يتفكر في خلق السموات والأرض والكواكب والنجوم والأفلاك ودوارنها، والأنهار والبحار، وكل مخلوق في هذا الوجود، وطريقة معاشه ورزقه وحياته، وتدبر الليل والنهار، وطلوع الشمس من مشارقها إلى مغاربها، لا بد أن يخرج بفكرة وجود صانع لهذا الكون، وهذا الصانع فوق إحاطة عقولنا وإبصارنا وحواسنا، لقوله تعالى : "ليس كمثله شيء "،

 فهو جل جلاله شيء، ولكن هذا الشيء لا يشبهه شيء، لأنه هو خالق الأشياء وليس لهذا الشيء الذي هو الخالق أن يكون شيئا ممن خلق، كقوله أيضا : " لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير"،

فالله تعالى هو فوق العقول والأفهام، والخواطر والأوهام، والخواطر والأوهام هو كل ما يخطر في القلب، من أراء ومعان وهواجس، والله جل وعلا ليس بشيء مما يخطر ويلمع بالخاطر والهاجس،  ومع كل هذا فالله أراد منا معرفته عن طريق الشرائع والأديان والمفترضات الدينية التي أنزلها على الرسل الكرام، من آدم أبي البشر، إلى محمد خاتم الرسل عليهم السلام، لقوله : " ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "،

 ولكن ليس للعبد طاقة لان يعرف الله خالق السموات والارضين معرفة كلية، وإنما أن يعرفه تعالى  بالمعرفة الجزئية، لأنه معبود ولا بد للعبد أن يعرف معبوده حتى يطيعه ويعبده، والله عادل غير جائر ولا ظالم ولا يكلف نفسا فوق طاقتها وهو الخبير العليم الحكيم،

 لذلك الخالق تعالى الخبير بمصنوعاته، خص اشرف مخلوقاته الذي هو الإنسان بالعقل، ليعقل به الأشياء كلها، ويدرك معرفته تعالى، ويستدل عليه بالحجة والبرهان، والعلة والمعلولية، بقوله تعالى : " أمن يبدأ الخلق ثم يعيده، ومن يرزقكم من السماء والأرض، أإله مع الله؟ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين "، وأيضا : "ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون"،

 فوجود العقل في الإنسان هو من نعم الله على الإنسان التي لا تعد ولا تحصى، لان به يدرك الإنسان خالقه، فيطيع أوامره، والإنسان خصه الله  بثلاثة جواهر: جوهر فعّال، وجوهر يفعل وينفعل، وجوهر مفعول وليس بفاعل،

 فأما جوهر فعّال ، فهو العقل ،وهو جوهر بسيط، فهو أبدا فاعل غير مفعول، وهو مرتبط بالنفس التي هي الروح، ويلقي عليها نوره كما تلقي الشمس أشعتها على الأرض،  ويعطي الأوامر للنفس ويعقلها ويضبطها ويحيط بكل ما فيها،  فلا شيء أعلى منه، وهو المدبر الأول والأخير للنفس، وهو الذي تحيرت به العلماء وتساءلت  عمن يعطي الدماغ الأوامر حتى يأمر الجسم،

 وأما الجوهر الثاني الذي يفعل وينفعل، فهي النفس الكلية الفلكية الروحانية، التي فيها قبول للخير والشر على حد سواء، فالذي يغلب عليها تكون خاضعة له،

 والثالث الذي هو مفعول وليس بفاعل، فهو الجسم الترابي الذي يفعل بأوامر النفس المرتبطة بالعقل، فإذا كانت النفس مائلة إلى الخير كان تأثيرها على الجسد، فيجترح الخير، وبالعكس إذا كانت مائلة إلى الشر، فعل الجسد شرا، وهذا مثال على العقل والنفس والجسد كما ضربه حكماء الهند :

كان في بلاد الهند رجلان : اعمى ومقعد ، اصطحبا في طريق ، فعبرا ببستان فمالا اليه ، فرآهما صاحب البستان ، ورأى فقرهما وعجزهما فأراد مساعدتهما فقال : يا هؤلاء ما تقولون في ان ادخلكما بستاني فتأويا فيه وتنالا منه ما يكفيكما ، ولكن بشرط ان لا تقطفا شيئا من الثمر فتفسدا الشجر وتؤذياه.

فقال احدهما : وكيف نؤذيك على بستانك ونحن على ما ترى من الزمانة  وسوء الحال ، احدنا مقعد والاخر اعمى.

واي حيلة لنا في تناول شيء من الثمار وهي في رؤوس الاشجار؟!.

فدخلا البستان ، واوصى بهما الناطور الموكل بالبستان ، ومضى صاحب البستان لسبيله.

فأقاما على ذلك مدة ، والناطور يؤمن لهما كل ما يحتاجان من الثمر والطعام.

وأينع الثمر وكبر وطاب ، فقال المقعد للأعمى : ان في الاشجار ثمارا لا يحمل الناطور الينا منها شيئاً ، فما حيلتنا في الحصول على شيء منها ، من غير ان يعلم الناطور ؟ وتشوق الاعمى الى  ما ذكره له المقعد ، وأخذا يجيلان الفكر في الطريقة التي توصلهم الى مطلوبهم. الى ان قال المقعد للأعمى : ما رايك ان تحملني على كتفيك لأطوف في البستان ، فاقطف لك من كل ثمرة اطيبها؟!.

فلما كان الغد ذهب الناطور في بعض حوائجه واغلق باب البستان ، فحينئذ صار الظرف مناسبا لتنفيذ الخطة ، فركب المقعد على ظهر الاعمى ، وطاف به في البستان ، فقطعا ما اشتهيا ، وأفسدا ما قدرا عليه ، ثم رجعا الى مكانهما فرقدا.

فلما جاء الناطور ودار في البستان لم يخف عليه ما حدث من الفساد ، اذ وجد بعض الاثار ، فأتى اليهما وسألهما ، فقالا : لا علم لنا بشيء من ذلك. فصدقهما.

ثم كررا العملية ثانية ، وتنصلا من الامر ، وقالا : لا علم لنا بذلك.

فلما كان الغد أوهم الناطور انه قد خرج كعادته ، وكمن في بعض زوايا البستان ، فظن المقعد والاعمى انه قد خرج ، فقاما الى ما قد تعودوا عليه من الفساد وارتكاب الممنوع ، وفي اثناء ذلك دخل عليهما وامسكهما بالجرم المشهود.

وقال لهما : هل هذا جزاء الذي احسن اليكما ان تعصيا امره وتفسدا بستانه؟!.

واتفق دخول صاحب البستان في ذلك اليوم ، فأعلمه الناطور بما حصل . فقال صاحب البستان : لقد استحقا العذاب بما فعلاه.

ثم أمر عبيده أن يعاقبوهما اشد عقوبة ، ثم اخرجوهما من البستان والقوهما في البيداء ، حتى تأكلهما الوحوش والسباع.

وتفسير المثل

الناطور ، فهو العقل الذي يدل على المنافع والمضار ، وهو ينصح النفس ويدلها على ما فيه الصلاح والفلاح.

وشبهوا النفس ، بالمقعد الذي يبصر ولكنه لا يستطيع انجاز اي عمل بدون مساعدة الجسد.

وشبهوا الجسد ، بالأعمى ، الذي ينقاد حيث تقوده النفس ويأتمر بأمرها.

وشبهوا البستان بدار الدنيا ، والثمار بطيبات الدنيا وشهواتها .

وصاحب البستان ، هو الله تعالى مالك الدنيا والاخرة.

فإذا اطاعت النفس العقل الفعال وعملت باوامره النافعة، وانتهت عن نواهيه، غلب عليها النور، وتهذبت وتطهرت وتخلصت من الظلمة اصل الشرور، وادركت الحقائق الالهيات، واتحدت بارواح الملائكة الروحانيات، فاستقام الجسد الذي هو الة للنفس وعمل الصالحات، عندها تستحق النفس والجسد ثواب الدنيا والاخرة ، واذا خالفت النفس اوامر العقل ونواهيه وارشاداته المستقيمة ، عميت عن نور الهداية، واستولت عليها الظلمة الابليسية المهلكة لها،  وانقاد الجسد للنفس وبرزت منه الاعمال الطالحات، واستحقا النفس العذاب والعقاب ، وخسرا الدنيا والاخرة ، ذلك هو الخسران المبين.

  لذلك على الإنسان أن يسعى إلى تزويد عقله بالعلوم الإيمانية، والرياضية التوحيدية، التيمن خلالها تتهذب الأخلاق ويتجلى توحيد الخالق، ويتنزه عن مخلوقاته ومصنوعاته، ويكون منفردا بالذات، منزها عن الصفات، لا تحوط به جهات، ولا الأزمان ولا الأوقات،  لتتحد بالنفس النورانية الفلكية، وتتحكم بالجسد عن طريق الجوارح، حتى يتطابق الإنسان بإنسانيته، والعقل بجوهريته، والنفس بالعقل وروحانيته، والجسد بعفته،

  لذلك أراد تعالى من الأديان والأحكام السماوية أن يمنح جانبا دنيويا وارضيا، بالرغم من أنها ما ورائية (ما وراء الطبيعة)، ويطلب من الإنسان أن يتدبر فيها ليتضح له واقع الأمر، ولا يتصور أن هذه الأحكام مجرد مجموعة من رموز تفوق فكر الإنسان.

يقول الفيلسوف  إفلاطون : " قد ضل وخاب رأي من يرى أن العالم كائن بالبخت والاتفاق، ولو كان له بصيرة يدرك بها حُسن النظام وترتيب التأليف لاستحيا أن يلفظ مثل هذه المقالة، ولكن يعتاض عنها بالتقديس والتمجيد لمبدع الكل وسبب النظامات كلها – ذلكم الله الذي لا اله إلا هو، عالم الغيب والشهادة"،

 ويقول إفلاطون : " لو لم يكن للعوالم رأس تنتهي عنده وترتقي إليه هو الذي يمسكها ويمدها بالبقاء والثبات والشرح والترتيب والنظام، لما كان فيها شيء من ذلك. لكن كله موجود بأضعافه. فينبغي أن ترتقي الجميع إلى مبدأ فاعل يحرك العوالم ولا يتحرك بنوع من أنواع الحركة . وكماله من ذاته لا يستمده من غيره" .

ويقول إفلاطون أيضا : " وقد نسأل لم أبدع الباري هذا العالم، ولم أحدث الكون؟ فنقول : للفضيلة التي هو أهل أن يمجد بها، وانه أراد أن يفيض بفضله وجوده وخيره على الأشياء بقوته وإرادته البريئة من كل حسد ونقص على قدر ما يقوى كل واحد من الموجودات على قبول ذلك الفيض والخير.  وهذه هي العلة الأولى الحق التي من أجلها وجد هذا العالم ".

 ويقول أيضا إفلاطون : " كل حادث إنما يحدث بعلة والعالم محدث لأنه محسوس، وكل محسوس محدث، وكل حادث لا بد له من محدث أو صانع (لا يوجد دخان بدون نار)،

إن الاحتمالات والبراهين والدلالات على وجود الخالق اجل من تعد وان تحصى، كيف لا؟ وكل ما في الوجود يدل عليه، ويسبّح كل ما لديه، واختصر الاحتمال على وجود الله تعالى باحتمالين لا ثالث لهما إلا الاعتراف بوجوده سبحانه والإيمان به .

 الاحتمال الأول: أن يكون هذا الخلق من غير خالق ، وهذا مستحيل تنكره العقول إذ لا بد للمخلوق من خالق وللمصنوع من صانع ، فالعدم لا يخلق .

 والاحتمال الثاني : أن يكونوا هم الذين خلقوا أنفسهم وخلقوا السماوات والأرض ، وهذا مستحيل أيضا إذ لم يدَّع أحد أنه خلق نفسه فضلا عن السماوات والأرض ، ولو ادعى مدع ذلك لاتهم بالجنون والهذيان ، إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه ، فلم يبق إلا أن يكون لهذا الكون خالقاً وموجدا ، وهذا دليل غاية في القوة والبيان.

إن  الفكر الإنساني وعقله يتعرضان إلى الخطأ في كثير من الموارد، وذلك لان الحواس والأحاسيس ترتكب الخطأ أيضا، فهناك الأخطاء الكثيرة لحاسة البصر كالخداع البصري، ورؤية الأشياء على غير حقيقتها، كمثل السراب الذي يحسبه الضمان ماء وليس هو بماء، وإنما لمعان بدون عناصر مائية،  وأيضا بالنسبة للعقل، ففي كثير من الأحيان يرتب الإنسان إستدلالا، ويحصل على نتيجة بناء عليه، وبعد ذلك يرى أحيانا أن الاستدلال كان خطأ من الأساس، وهذا ما أصاب السوفسطائيين الذين ينكرون وجود حقائق واستدلالات للأشياء، بسبب أن الحواس والعقل تخطيء في كثير من الأحيان، ولا يمكن الاعتماد على ذلك،

  لذلك لسد هذه الأخطاء اقتضت الإرادة الربانية بالاستدلال على الأشياء بالمادة والصورة،  أي بالمنطق العقلي والعلمي، والمنطق الصوري الحسي، فبالمنطق العلمي الصحيح تصح وتتضح الرؤية الصحيحة، كما أن النور أو الضوء عندما يقع على الاجسام المعتمة  انعكس إلى العين، فتشاهد كل شيء يقع عليه النور، لان العين هي عبارة عن غرفة مظلمة، تلتقط الأجسام المضيئة، فتدخل إلى الدماغ فيحللها إلى أشكال، تنطبع هذه الأشكال في القلب، الذي هو العقل بالحقيقة، وهو حقيقية الإيمان، لان القلب هو اللب والجنان، والعقل هو اللب، واللبيب هو العاقل، لقوله تعالى : " وما يذكر إلا أولو الألباب "،

 والنور هو بمثابة العلم الذي يضيء العقل حتى يدرك الأشياء، والمبصورات هي التي يحققها العقل، فكلما كان العلم صحيحا ومفيدا كانت رؤية الأشياء وإدراك حقائقها صحيحة،  ومن هنا كان أعظم الحقائق وأجلاها في الفطر والعقول، حقيقة وجود الله سبحانه وتعالى ،

 هذه الحقيقة التي اتفقت العقول على الاعتراف بها - وإن أنكرتها بعض الألسن ظلما وعلوا - ، فهي من الوضوح بمكان لا تنال منه الشبهات ، وبمنزلة لا يرتقي إليها الشك،

لذلك الدلائل على وجود الله سبحانه كانت متنوعة، ابتداء من ضمير الإنسان وفطرته ، إلى كل ذرة من ذرات الكون ، فالكل شاهد ومقر بأن لهذا الكون ربا ومدبرا وإلها وخالقا . وأولى هذه الدلائل دليل الفطرة ، وهي ما فطر الله عليه النفس البشرية من الإيمان به سبحانه ، كقوله تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون "،

وهذا الدليل باق في النفس الإنسانية بقاء الإنسان نفسه في هذا الكون ، وإن غطته الشبهات ،ونالت منه الشهوات ، إلا أنه سرعان ما يظهر في حالات الصفاء وانكشاف الأقنعة. وهناك أمثلة كثيرة تدلنا على ظهور الفطرة كعامل مؤثر في تغيير حياة الإنسان من الإلحاد إلى الإيمان ، ومن الضلال إلى الهدى ،

كمثل حادثة تتحدث عن طائرة تتهاوى بركابها ، فتتعالى أصوات الإيمان منهم وقد كانوا من قبل أهل إلحاد وكفر ، كقوله تعالى : " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا "،فهذا هو دليل الفطرة، وهو من القوة والمكانة بحيث لا يستطيع أن يدفعه دافع، أو ينازع فيه من منازع .

وثمة دليل آخر لا يقل قوة وأهمية عن دليل الفطرة وهو ما أسماه أهل العلم بدليل الحدوث ، ومفاد هذا الدليل أنه لابد لكل مخلوق من خالق ، وهذه حقيقة يسلم بها كل ذي عقل سليم ، فهذا الأعرابي عندما سئل عن وجود الله قال بفطرته السليمة : البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، ألا تدل على العزيز الخبير . فلله ما أحسنه من استدلال وما أعجبه من منطق وبيان .

 ومن الأمثلة الأخرى التي تدل على هذه الحقيقة ما روي من أن أحد العلماء طلب منه بعض الملاحدة أن يناظره في وجود الله سبحانه ، وحددوا لذلك موعدا ، فتأخر العالم عنهم وكان تأخره عن قصد ، فلما جاءهم وسألوه عن سبب تأخره قال : لقد حال بيني وبين مجيء إليكم نهر ، ولم أجد ما ينقلني إليكم ، غير أن الأمر لم يطل حتى أتت سفينة ، وهي تمشي من غير أن يقودها قائد ، أو يتحكم فيها متحكم ، فصاح به الملاحدة ماذا تقول يا رجل ؟!! فقال لهم : أنتم أنكرتم أن يكون لهذا الكون خالقا ، ولم تصدقوا أن تكون سفينة من غير قائد ، فاعترفوا وأقروا.

 لذلك يثبت الحكيم إفلاطون وجود الله ببرهانين اثنين :" برهان الحركة ، وبرهان النظام ،

فالبرهان الأول : فإن الحركات سبع : الجهات ستة والحركة الدائرية ، فحركة العالم دائرية منظمة ، لا يمكن أن يقوم العالم بها بذاته قطعيا ، لذا فهي ترجع إلى علة عاقلة ، وبدون شك هذه العلة العاقلة هي الله جل جلاله ،

 والبرهان الثاني: العالم هو بحد ذاته آية فنية ، وهذا العمل الرائع والمتقن هو من صنع عقل كامل بكل معنى الكمال ، وذلك لإحاطته الكاملة والكلية بالكليات والجزئيات واللامرئيات ، حيث توخى الخير ورتب كل شيء عن قصد ، لأن "مثال الخير" هو أقصى حدود العالم المعقول وعلة لكل ما هو خيّر وجميل ، لأن" مثال الجمال" هو المقصد الأسمى الذي ترمي إليه الإرادة في نزوعها نحو المطلق"،

وقد أشار إلى هذا بعض المتصوفين بقوله : " إلى أن حدوث الموجودات لم يكن نتيجة عرضية للاتفاق أو الصدفة ، بل نتيجة حتمية لفضل إلهي " ،

 ويرى ابن رشد :" كل من هو علة وجود شيء ما فهو فاعل له " ،

 وكما عبّر عالم الرياضيات والفلكي المشهور البريطاني الأصل فريد هويل بقوله :" كومة من خردة الحديد أخذتها عاصفة هوجاء، ثم تناثرت هذه القطع وتكونت طائرة بوينغ 747 بالمصادفة"،

  وكما ضرب بعضهم: مثل الساعة التي تدور عقاربها لتعطينا الوقت ، لن توجد وتعمل من تلقاء نفسها ،

كذلك جميع الكائنات والموجودات لا يمكن أن توجد ذاتها من لا شيء إلى شيء وتتطور بذاتها ، ولن يكون بمجرد الصدف والمصادفات ، ولا يمكن أن يتطور عن طريق المتغيرات ، لأن ما من شيء يمكن أن يتغير من قبل ذاته دون أن يكون قد صمم تصميما لأن يكون قابلا للتغيير والتطوّر، وهذا التصميم من فعل الخبير العاقل الذي هو الله ، والذي خلق كل شيء بإرادته وجعله قابلا للتغيير بحسب ما يقتضيه ، لتبقى صنعته باقية أزلية أبدية لحكمة أرادها،

 فكل شيء في هذا العالم يدلنا على عظمة الخالق الذي هو الصانع، وحكمته الثابتة التي لا تتجدد بتقلب الأيام والدهور، بل صنعته كاملة الإتقان، لا يلحقها نقصان، وكما قيل: الدال على وجود الله، اختلاف مخلوقاته ومصنوعاته"،

  فهو موجد الأشياء ليوجد ويعبد ويوحد، لا أن ينكر ويجحد، بل هو الموجود في عالي ربوبيته، وعظيم إلوهيته، العظيم الشأن، المبالغ في العطاء والامتنان، الذي لا يخلو منه زمان، ولا من نوره مكان، كل يوم هو في شان، لا يشغله شان عن شان، الواجد الماجد جل جلاله، وتعالى عما يصفون الجاحدون، الملحدون، المنكرون علوا كبيرا، شهدت وأمنت أولا وآخرا، وباطنا وظاهرا، بأنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا احد،

 وانه باريء لا باريء له، وخالق لا شريك له،  ومعبود لا نعبد سواه،  وموجودا لا احد يتعداه، والحمد له حمدا من استوجب رضاه،  وتوسل إليه في كل ما يتمناه،  وتوكل عليه في مسعاه، انه ولي ذلك،  والشكر لرسوله خير من ناجاه، وكما جاء في الكتاب : "ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده، من بعده سبعة أبحر، ما نفذت كلمات الله"، وأيضا : " إن الذين تدعون من دون الله، لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا، وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه "،

فاعتبروا يا أولي العقول والألباب، واستفيقوا من جهلكم قبل حلول الأجل والحساب، وقبل أن تصعق بكم صيحة رب الأرباب، ومالك الرقاب، ويحل بكم االندم والحسرة على ضياع الشباب، حينها لا ينفعكم مال ولا بنون ولا أصحاب، بل تنطق ألسنتكم متلجلجة حاسرة خاسرة : " ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين "، ويحل بكم بعدها العذاب، أعاذنا الله وإياكم منه انه التواب، والغافر لمن تاب، وهو لا يظلم مثقال ذرة خردل بل كما قال وهو أصدق القائلين : " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون"، صدق الله العظيم.

 

 

תגובות

מומלצים