الواقع المرّ في كلّ حدب وصوب!
وتبقى السياسة هكذا، تختلف حولها المواقف والآراء بين من يعتبرها مجالًا هو أدنى درجات الهرم العلميّ، وفقًا لتعريف الفيلسوف وعالم المنطق والرياضيّات، برتراند راسل، الذي قال عنها إن ممارستها بمثابة انتقال من أعلى قمّة الهرم العلميّ وهو المنطق، إلى أدناه، أي السياسة, جملة ميكافيلي الشهيرة في كتابه الأمير:"اكذب، اكذب حتى يصدقك الناس".
المحامي زكي كمال
وأن العمل فيها هو شكل من أشكال الانحدار من عالم الفكر الخالص والدقيق، وبين من يعتبرها فنّ الممكن، وربّما علم خلق التوازن حتى لو كان مستحيلًا، وذروة الذكاء، خاصّة وأنها لا تتعامل مع معطيات جافّة وأرقام ومعادلات صمَّاء، بل مع كائنات حيّة، ومصالح متداخلة ومتناقضة ومتغيّرة وفقًا لولاءات وأحلام سياسيّة ومحاولات للربح السريع، وإرضاء الموالين وإسكات الخصوم وترهيبهم وتحقيق أطماع ما،
ومن هنا وعلى مرّ التاريخ كان من الصعب التنبّؤ بنتائج الخطوات والقرارات السياسيّة، والتنبّؤات التي كانت مزيجًا من التنبّؤات الذكيّة التي غيرّ بعضها مسار التاريخ، ومنها غزو نورماندي في السادس من يونيو حزيران 1944 والذي شكّل الفوز الأبرز للحلفاء خلال الحرب العالميّة الثانية،
وكذلك توحيد الألمانيّتين بعد هدم جدار برلين عام 1989 ، ما شكّل بداية النهاية للحرب الباردة بين الكتلتين الشرقيّة والغربيّة في العالم، والتوقّعات الخاطئة التي انتهت إلى انهيارات هائلة، ومنها الربيع العربيّ، والتفاؤل بإمكانّية تحقيق ونشر الديمقراطيّة، وقبلها التوقّع بأن إزاحة صدام حسين عن سدّة الحكم في العراق ستؤدّي إلى نقلة نوعيّة هناك. والحقيقة الواقعة هي تفتّت البلاد، وتوقّعات إسرائيلية بأن الرئيس السوريّ بشار الأسد سوف يسقط خلال نصف عام من بداية الثورة السوريّة والحرب الأهليّة هناك،
وأن تحويل عشرات ملايين الدولارات إلى حركة حماس في غزة سوف يمنعها من مواصلة السعي لتحقيق أهدافها المأخوذة من دستور وأهداف حركة "الإخوان المسلمون"، وهو الحال في عالمنا ومنطقتنا اليوم، فالسياسة وقراراتها والتوقّعات حولها ليست بمعزل عن السياق الجغرافيّ والإنسانيّ الذي تتمّ فيه وغير منقطعة عن التحوّلات المتسارعة في التكنولوجيا والاقتصاد، فضلًا عن تعدّد جوانب ومستويات وعوامل التأثير وتداخل المستويات المحليّة والوطنيّة والدوليّة،
وكثرة الجهات المؤثّرة وكلها عوامل تجعل الفارق بين التصريحات السياسيّة والتوقّعات منها وبين النتائج النهائيّة على أرض الواقع، كبيرًا وربما غير قابل للجَسر، ما يؤكّد أن السياسة هي خارج دائرة العلوم الدقيقة، التي تقتضي تصرّفًا واضحًا وموضوعيًّا دقيقًا ومحدّدًا، ونتائج يمكن قياسها ومعرفة احتمالاتها مسبقًا، بل يمكننا اعتبارها فنًّا. فالسياسيّ مطالب أوّلًا وبشكل خاصّ، بأن يبني نمطًا مجتمعيًّا ناجحًا، انطلاقًا من مادّة متغيرّة ومعقّدة هي الطبيعة البشريّة.
هذا ما تؤكّده الأحداث الأخيرة في غزة وإيران وسوريا ولبنان، وكذلك الأوضاع السياسيّة والحزبيّة الداخليّة في إسرائيل، ففي غزة والتي سادت التوقّعات أن إعلان وقف إطلاق النار فيها وفق خطة دونالد ترامب وبمباركة الدول العربيّة والإسلاميّة، يعني إطلاق سراح كافّة الرهائن والمختطفين الإسرائيليين الأحياء والأموات، وانتهاء الحرب والانتقال إلى المرحلة الثانية التي تشمل وضع حدٍّ لسيطرة حماس وإقامة وتشكيل قوّة أمنيّة دوليّة، وتسليم حركة حماس سلاحها وخلق جهات مسلّحة فلسطينيّة تتعاون مع إسرائيل لتحقيق ذلك، وصولًا إلى استعداد أميركيّ للقاء قادة حماس وربما منحها شرعيّة ما، خاصّة بعد تعزيز علاقات واشنطن مع أنقرة والدوحة ودمشق، جاءت النتائج مغايرة تمامًا فالحرب ما زالت دائرة والغارات الإسرائيليّ شبه يوميّة. أما المساعدات الغذائيّة فلا تكفي،
على الرغم من أن معبر رفح والذي كان افتتاحه احد بنود المرحلة الاولى ما زال مغلقا او انه تم الإعلان عن استعداد إسرائيل لفتحه من جانب واحد، ما فسّرته مصر على أنه محاولة للتهجير وليس تنفيذًا للاتّفاق، أما أسلحة حماس فما زالت في أيدي أفرادها، بل أكثر من ذلك فهي وباعتراف الجميع وخاصّة إسرائيل تستعيد سيطرتها على القطاع، وتمنع أي إمكانيّة لإيجاد هيئات فلسطينيّة تعتبرها واشنطن وإسرائيل معتدلة يمكنها وفق الموقف الإسرائيليّ أن تشكّل الضد لحركة حماس أو قوة موازية لها، والدليل مصير ياسر أبو شباب قائد الحركة المسلّحة الشعبيّة، وإضافة إلى كل ما سبق ما زالت القوة الأمنيّة العربيّة، أو الفلسطينيّة، أو الأمميّة، أو غيرها لم تعد واردة خاصّة بعد أن أعلنت معظم الدول العربيّة والإسلاميّة باستثناء أندونيسيا رفضها المشاركة فيها،
ورفض إسرائيل مشاركة تركيا في القوة، وإذا لم يكن ذلك كافيًا ساد التوقّع أن تكفّ إسرائيل عن ملاحقة قادة حماس، وكان الواقع معاكسًا باغتيال رائد سعد، ومن الجهة الأخرى اعتقد السياسيّون والمحلّلون أن وقف اطلاق النار وتصريحات حماس عن إمكانيّة وضع سلاحها والاندماج في إدارة الشؤون المدنيّة في غزة، سيمنحها القليل من الشرعيّة في أوروبا وأميركا وربما العالم العربيّ،
فجاء الواقع معاكسًا بإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عزمه تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظّمة إرهابيّة أجنبيّة، في خطوة تعتبر ربما الأكثر صرامة التي تتخذها واشنطن ضد التنظيم الإسلاميّ المتهم من قبلها بالتحريض على التطرّف، وتقويض الاستقرار في الشرق الأوسط وفي أوروبا وأمريكا،
وهو قرار قوبل بصمت عربيّ واسلاميّ خاصّة وأن مبادئها التي صاغها سيّد قطب أحد أبرز المفكّرين الإسلاميّين في القرن العشرين، ومن ترك بصمة عميقة في الفكر الإسلاميّ المعاصر، وحركة الإخوان المسلمين، تنصّ وفقًا لفكر قطب على ضرورة بسط الشريعة الإسلاميّة وإقامة ما أسماه هو السيادة الإلهيّة، أو الحاكميّة لله وحده بمعنى أن الحكم والتشريع حقّ لله وحده ، في جميع نواحي الحياة، باعتبار المجتمعات المعاصرة الغربيّة والإسلاميّة على حدّ سواء في نظره، تعيش جاهليّة لعدم تطبيقها هذا المبدأ، وبالتالي يجب بناء جيل قرآنيّ فريد يحقّق ذلك، من منطلق الإيمان بأن المنهج الإسلاميّ الشامل يشكّل بديلًا لهذه الأنظمة عبر الدعوة وتصحيح التصورات، والقوة لإزالة هذه الأنظمة.
إزاء هذا القرار والذي يشكّل عمليًّا اعترافًا بطروحات إسرائيل التي تعتبر حماس حركة إرهابيّة، وحركة الإخوان المسلمين مصدر تعليماتها ودستورها، كان من المتوقّع إسرائيليًّا أن ترحّب الحكومة بذلك، وأن تعتبره بداية مسيرة عالميّة تتّجه إلى إعلان الإخوان المسلمين منظّمة محظورة،
وفق معلومات كان معهد أبحاث اللاساميّة العالميّة والسياسات قد صاغها في تقرير تمّ عرضه على مجموعة من أعضاء مجلسي الشيوخ والنوّاب الأميركييّن الشهر الماضي تشرين الثاني 2025، تطرّق إلى نشاط وتغلغل حركة الإخوان المسلمين في أوروبا على مدار 50 سنة أخيرة من نشاطها، عبر استغلال الانفتاح الداخليّ في المجتمعات الليبراليّة مستعينة بالجهاد الحضاريّ، والتغلغل في منظومات التربية والتعليم والأبحاث والأكاديميا والإدارة وغيرها،
دون استعجال أو مخاطرة، بل بتخطيط للمستوى البعيد يجعلها جزءًا من الحياة اليوميّة، ما يدفع الناس حتى لو اعتقدوا أن نشاطها يشكّل خطرًا، للاعتقاد أنه ليس خطرًا داهمًا أو فوريًّا، مع الإشارة إلى أن العلاقة بين التقرير المذكور، وقرار ترامب ليست واضحةً أو مباشرةً بسبب العلاقة بين أميركا وحليفتيها تركيا وقطر، إلا أن إدارة ترامب اتّخذت قرارها هذا بعد خطوة مماثلة في ولاية تكساس، وبالتزامن مع تقرير أميركيّ جديد يتحدّث عن "تغلغل" محتمل للتنظيم داخل الولايات المتّحدة، الأمر الذي عزّز المخاوف داخل الإدارة الأميركيّة بشأن نشاط الإخوان العالميّ، وهي بذلك تنضمّ إلى الدول العربيّة التي أخرجت هذا التنظيم خارج القانون باستثناء قطر وتركيا، وبعده سارعت إسرائيل إلى الترحيب،
دون أن تكتفي بهذا الاصطفاف العالميّ ضدّ الإخوان المسلمين كما اعتقد وتوقع كثيرون، بل ذهب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى أبعد من ذلك من ما جاء في إعلان الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، وأضاف أن إسرائيل أخرجت أجزاء من التنظيم هي الشقّ الشماليّ من الحركة الإسلاميّة خارج القانون، وأنّ الشقّ الشماليّ للحركة الإسلاميّة،
أو أخرجه عن القانون لأنّه "يتآمر ضد الدولة، بهدف إقامة دولة إسلاميّة مكانها، تربطها بحماس علاقات وطيدة، وتحرّض على العنف ضدّ المواطنين الأبرياء، وأنها تعمل على استكمال هذه الخطوة قريبًا، مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن الحكومة الإسرائيليّة وتحديدًا المجلس الوزاريّ المصغر، الذي قرّر عام 2015، إخراج الشق الشماليّ للحركة،
كان قد ناقش اقتراحين أوّلهما الأول هو إخراج جماعة الإخوان المسلمين العالميّة عن القانون، أو إخراج الشقّ الشماليّ للحركة الإسلاميّة، وأن جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك"، أيّد الاقتراح الأول إلّا أنّه تقرّر حظر الحركة الإسلاميّة الشماليّة، وليس الإخوان المسلمين، في خطوة كانت مستهجنة لكن البعض فسّرها على أنها جاءت لأسباب سياسيّة خارجيّة،
لها علاقة بطبيعة الدول الداعمة للإخوان المسلمين مثل تركيا وقطر ومصر حينها، وهي دول لم ترد إسرائيل قطع العلاقات معها، أي أنه جاء بسبب تداخل المصالح، بل تناقض تلك الداخليّة والخارجيّة، وتماشيًا مع مصالح سياسيّة.
وهو الأمر هذه المرة حيث استشفّ الجميع من تصريح نتنياهو أنه يهدّد أو يلمّح إلى إخراج الشقّ الجنوبيّ من الحركة الإسلاميّة عن القانون بما في ذلك الجناح السياسيّ، أي القائمة العربيّة الموحّدة والتي يرأسها الدكتور منصور عباس، والتي تعمل منذ سنوات على دمج المواطنين العرب في مناحي الحياة المختلفة للدولة،
عبر تشريعات ومشاريع قانون، ووصل الأمر ذروته بانضمامها إلى الائتلاف الحكوميّ في حكومة التغيير برئاسة نفتالي بينيت دون مناصب وزاريّة، وهو ما عرضه لهجوم شديد من قادة حماس، ذراع الإخوان المسلمين، وخاصّة يحيى السنوار الذي هاجم منصور عباس في خطاب له واتهمه بالعمل ضد الشعب الفلسطينيّ ودعاه للانسحاب من الائتلاف الحكوميّ الذي يسمح بالمسّ بالمسجد الأقصى،
ووصف عباس ب"أبو رغال" وهو شخصيّة عربيّة قبل الإسلام تعتبر رمزًا للخيانة. ولكن وبدلًا من أن يدرك نتنياهو أنه وعلى ضوء مواقف المواطنين العرب خاصّة في العامين الأخيرين ومنذ السابع من أكتوبر عام 2023، يجدر بالحكومة إعادة صياغة علاقتها بالمواطنين العرب وتشجيع الطروحات الداعية إلى دمجهم في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والأكاديميّة والعلميّة للدولة، جاءت تصريحات نتنياهو بفعل دوافع سياسيّة منها رغبته في الحفاظ على حكم اليمين من جهة،
وربما أنه لن يكتفي بإخراج القائمة الموحدة خارج القانون ، رغم إعلان الدكتور منصور عباس، ان القائمة الموحدة ليست تابعة لحركة الإخوان المسلمين لا من حيث التنظيم ولا المواقف السياسيّة، بل العكس فهي تدعو لاندماج تامّ وفق القوانين المدنيّة في إسرائيل، بل سيصل ذلك الأحزاب العربيّة الأخرى التي كانت لجنة الانتخابات المركزيّة، وهي لجنة تركيبتها سياسيّة قد أوصت بعدم مشاركتها في الانتخابات ومنها التجمع الوطنيّ الديمقراطيّ، وردّت المحكمة العليا هذا القرار، إضافة إلى ممارسة الضغط على الأحزاب اليهوديّة التي تسمي نفسها أحزاب المركز واليسار ومنعها من مجرد التفكير بضمّ حزب عربيّ إلى الائتلاف، وفي هذا المضمار يجب القول أن لا فروق جوهريّة على الإطلاق بين اليسار واليمين في إسرائيل بالنسبة للمواطنين العرب، باستثناء ربما اللهجة والطريقة التي يتمّ فيها عرض المواقف،
لكن النتيجة واحدة وهي سياسة إقصاء مقصودة، وأن السياسات هي ذاتها حتى أن وزير الدفاع بنحاس لافون من الحركة العماليّة قرّر عام 1954 فرض التجنيد الإلزاميّ على المواطنين العرب ليتّضح أن 72% منهم يؤيّدون ذلك، وهي خطوة عارضها الوزراء ويبدو أن فضيحة التجسس في مصر لصالح إسرائيل التي تمّ الكشف عنها، والتي أطاحت ببنحاس لافون،
هي التي منعت ذلك، أما الحكومة الحاليّة فتتناسى ومن دوافعها السياسيّة واحدًا من تعريفات السياسة العامـة بشكلها الواسع على أنها العـلاقـة بين السلطة وبيئتها، وأن الاختبار الحقيقيّ للسياسة وللحكومة هو الفعل، أو عدم الفعل أي النتائج النهائيّة وليس التوقّعات والتصريحات، ومنها تصريح رئيس الوزراء نتنياهو هذا الأسبوع بأن تقليص 200 مليون شيكل من ميزانيّة المجتمع العربيّ، ونقلها إلى جهاز الأمن العام الشاباك بطلب من الوزيرين ماي غولان وإيتمار بن غفير، هي خطوة لمصلحة المواطنين العرب، وأن قراراته يجب أن تكون مجموعـة خطوات يتّخذها فاعلون معروفون بهــدف تحقيق غـرض عامّ، وليس لأهداف ضيّقة وخاصّة.
في سوريا الوضع لا يختلف ، فالتصريحات الإسرائيليّة في الأسابيع الأخيرة تتحدّث عن اتّفاق أمنّي وشيك يمكن إسرائيل من الاحتفاظ بشريط داخل الأراضيّ السوريّة، واعتباره بمثابة الحزام الأمنيّ، تمهيدًا لاتفاق سياسيّ وربما تطبيع، خاصّة وأن إسرائيل عملت في الأسابيع التي تلت الثامن من كانون الأول عام 2024، على تدمير كافّة قدرات وإمكانيات سوريا العسكريّة عبر قصف كافّة المعسكرات، معتقدة أن ذلك ينهي عهد المواجهة العسكريّة ولو المحدودة، ولكن الذكرى السنويّة الأولى للاستقلال السوريّ رافقتها مظاهر مختلفة،
بل متناقضة للتصريحات والتوقّعات، خاصّة في منطقة خان أرنبة حيث صادفت قوة عسكريّة إسرائيليّة قافلة من أفراد أجهزة الأمن السوريّ الذين ردّدوا أمام أفراد القوة الإسرائيليّة شعارات منها الله أكبر، في تصرّف يؤكّد أن التوقّعات خابت، وأن الحال في سوريا لم يتغيّر، خاصّة وأن جنودًا من الجيش السوريّ، وفي مسيرة جابت شوارع دمشق ردّدوا شعارات تأييد لغزة وتوعّدوا إسرائيل بأنهم قادمون لمحاربتها، فضلًا عن معطيات نشرتها مجلة " فورين أفيرز- شؤون خارجيّة" البريطانيّة أشارت إلى أن 14% فقط من السوريّين يريدون سلامًا مع إسرائيل مقابل 92% يعتبرونها قوة عسكريّة محتلّة وتهديدًا لهم، وما نشرته صحيفة الشرق الأوسط حول اتفاق سوريّ إسرائيليّ تنسحب بموجبه إسرائيل، التي طالبت بأن تكون المناطق الواقعة جنوبيّ دمشق وحتى هضبة الجولان منزوعة السلاح، من كل المنطقة التي تعتبرها اليوم حزامًا أمنيًّا طوله 75 كيلومترا في منطقة الجنوب السوريّ التي يمكن وصفها بأنها منطقة حرب، باستثناء تعديلات طفيفة، مع الإشارة إلى استمرار الاعتداءات من الجماعات المسلّحة السنيّة المنضويّة تحت كنف نظام احمد الشرع على القرى والمناطق الدرزيّة في منطقتي القنيطرة والسويداء.
وبما أن الحال هو نفس الحال في ساحات المواجهة الأخرى ومنها إيران ولبنان، مع الأخذ بعين الاعتبار تسريبات مفادها أن إدارة ترامب لا تستبعد التنازل عن مطلب تسليم سلاح حزب الله وكذلك حماس في غزة، وهو قرار لا بدّ ستقبله إسرائيل خاصّة وأن القرارات الفعليّة في المنطقة يتم اتخاذها في واشنطن ويؤيّدها نتنياهو ومنها وقف إطلاق النار في غزة وإيران ولبنان. لا بدّ من سؤال حول الفارق الشاسع بين التوقّعات والنتائج في السياسة، فالتوقّعات هي غير موضوعيّة، بل تدفعها اعتبارات سياسيّة وشخصيّة وانتخابيّة تتغيّر وتتبدّل، دون أن تستند إلى دليل أو معطيات موثوقة، ودون أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف المتغيّرة ، وهكذا تجد إسرائيل نفسها أمام واقع واحد متشابه على ثلاث جبهات حرب هي غزة ولبنان وإيران. فالواقع هو أن الحال فيها لا يزال مقلقًا رغم مرور أشهر على انتهاء الحرب، حتى أن الرأي العام الإسرائيليّ بغالبيّته يدرك تمامًا أن النصر الكامل لم يتحقّق قط، بل بقي مجرد وعد وتوقّع خياليّ وبعيد،
ففي لبنان يتزايد احتمال التصعيد المفاجئ يومًا بعد يوم، ولا يزال حزب الله يرفض نزع سلاحه، وأن السلطات اللبنانيّة غير مستعدة، أو غير قادرة لمواجهة هذا الأمر. وهو الحال في إيران والسيناريو مشابه، فبعد ستة أشهر على الهدنة بعد الحرب التي استمرت 12 يومًا مع إيران، يسود الشعور بالخوف وكذلك خيبة الأمل من عدم زوال الخطر النوويّ الإيراني، وعلامات التساؤل حول جدوى ما كان مع خوف من أن الأمر سيتكرّر والسؤال حول التوقيت فقط،
ومدى الضرر الذي سيتكبّده الاقتصاد والمواطنون في إسرائيل. ومن هنا فإن التوقّعات التي بيّنها السياسيّين لا تختلف في حالتنا هذه عن التحليل السياسيّ ولذلك لا يمكنها أن تصل إلى مرحلة الجزم،
أو أن تكون نتائجها معروفة منذ البداية، بل إنها تبقى دائما في نطاق التوقّع وأحيانًا التمني، وربما تكون نتائجها قريبة من الدقّة على المدى القصير، لكنها تقلّ على المدى البعيد وكثيرًا ما لا تصيب،
خاصّة وأن معظم تصريحات السياسيين تكون مدفوعة بمصلحة خاصّة، وربما بعيدة عن الصدق، أو الشفافيّة والمكاشفة، حتى يقال أن السياسة والصدق لا يلتقيان، كقول ونستون تشرشل رجل الدولة والسياسّي البريطاني الشهير:" رأيت وأنا أسير في أحد المقابر ضريحًا كتب على شاهده: هنا يرقد الزعيم السياسيّ والرجل الصادق، فتعجّبت كيف يدفن الاثنان في قبر واحد"،
وقول جوزيف ستالين:" إن السياسيّ الصادق مثل الماء الجافّ أو الحديد الخشبيّ" والقول الأخير يصحّ في تصريحات السياسيّين ونبوءاتهم حول المستقبل. والتاريخ أثبت ذلك، أما من يدفع الثمن فهو نحن، مع الإشارة هنا إلى أن التصريحات الرنّانة والنبوءات الورديّة والكذب المقصود، أو غيره في حالة السياسة ليس جديدًا منذ جملة ميكافيلي الشهيرة في كتابه الأمير:"اكذب، اكذب حتى يصدقك الناس". أجل نعيش في واقع مرّ من كلّ حدب وصوب.
















