الشيخ المرحوم ابي كامل فارس ابو فارس باني مقام سيدنا ابي عبدالله عليه السلام
اتصف شيخنا المرحوم ابي كامل بالبشاشة والتواضع والبساطة والتّقى ومخافة الله والكرم الذي لا حدود له، وعن عطائه قام الشيخ فارس ابو فارس ببناء مقام سيدنا ابي عبدالله علية السلام
يا زائرا ربوعَ الكرملِ الاخضرْ
لتزور مقامَ نبينا الأعطرْ
خبِّر دروزَ لبنانَ وسوريا الشامَ
والمهجرْ:
في حيّنا،
وعلى سفوحِ ترابِنا الغالي
يرتاحُ فارسُنا، ويرقدُ شيخُنا الاكبرْ
بلّغْهُ أشواقًا وقلْ لفارسِنا،
في كرملي تبكي كرومُ التينِ والزيتونِ
والزعترْ
تبكي كبارًا وأخيارًا قد ارتحلوا
عن الديارِ
وأخلوا البيتَ والمحضرْ...
الشيخ ابو كامل فارس يوسف ابو فارس رحمه الله، باني مقام سيدنا ابي عبدالله عليه السلام.
ولد الشيخ فارس يوسف ابو فارس رحمة الله عليه في قرية عسفيا عام 1873 وتوفي عام 1978. التحق بالجيش التركي، ثم هرب منه الى شبه الجزيرة العربية. بعدها وصل الى فلسطين عن طريق الضفة الغربية حيث نام بعض الليالي عند رجل من مدينة جنين. وصل الى قريتة عسفيا في فلسطين وتزوج من المرحومة نجمة عبدالله السابا في سن مبكرة، حتى يُعفى من الخدمة الاجبارية في الجيش التركي لأن القانون في تلك الايام يعفي المتزوجين من الخدمة العسكرية.
لقد كان الشيخ فارس ابو فارس كبير العائلة. اتصف شيخنا بالبشاشة والتواضع والبساطة والتّقى ومخافة الله، ناهيك عن كرمه الذي لا حدود له، وعن عطائه. فقد أنعم عليه الله برزق وفير وكان من اكبر الملاكين في قرية عسفيا.
كان بيته مفتوحا، والزائر الذي يقصد عائلة ابي فارس كان يحل عليه ضيفا أولا، فيلقى الترحيب عنده ويقوم اهل البيت بالواجب اتجاه الضيف على احسن وجه، ثم ينتقل لزيارة باقي كبار العائلة. لقد اعتاد زيارته قبل قيام دولة اسرائيل سائق باص يدعى اسماعيل سيف من سوريا، كان يأتي بالركاب من سوريا الى مدينة حيفا، فيستريح في بيت الشيخ فارس وينام عنده ليلته حتى صباح الغد ليعود الى بلاده. وما زال اولاده وأحفاده يذكرون أفضال الشيخ فارس على جدهم حتى اليوم.
انجب الشيخ فارس ثلاثة من الأولاد: كامل الذي توفي طفلا، ثم ام يوسف كاملة ابو فارس والدة السيد سعيد ابو فارس والمرحوم يوسف ابو فارس، وأم نايف منوة كيوف. بوفاة ابنه لم يبق له من الاولاد الذكور احد. لقد تميز شيخنا بحنان لا يوصف، فقام بتربية اولاد زوجته، ثم تربى بين أحضانه الكثيرون من اقربائه أيضا.
قام الشيخ فارس ابو فارس ببناء مقام سيدنا ابي عبدالله علية السلام، الذي يتميز اليوم عن غيره من المقامات بالنظام والنظافة والبنايات الكبيرة الواسعة، والساحات التي تقام فيها النذور، والغرف الواسعة التي يجتمع فيها المشايخ الاجلاء للمذاكرة في امور الدين. كل ذلك بفضل القيم الشيخ أبو أمل نهاد ابو فارس الذي يرعى المقام ويقوم على خدمة الزائرين منذ سنة 2005. وبفضل وكيل المقام السيد سعيد ابو فارس مدير مدرسة عسفيا "ب".
أما بالنسبة لقرار شيخنا بالشروع في بناء المقام فقد سمعت قصتين: الاولى رواها لي حفيده السيد سعيد ابو فارس فقال: لقد أغدق الله بأنعامه على جدي لكنه حرمه من الاولاد الذكور؛ فقرر ان يصرف امواله في عمل خيري يفيد به مجتمعه وأهل بلده، فعزم على بناء المقام. تشاور جدي مع المرحوم الشيخ ابي حسن منهال فشجعه على ذلك، ثم شجعته جدتي منوه على بيع الارض والمباشرة في بناء المقام.
لقد باع المرحوم الشيخ فارس ما يقارب الخمسة عشر دونما في منطقة تدعى "ظهر ابو نجيله"، وبنى غرفتين: الطابق العلوي للمقام الشريف، والطابق السفلي سكن فيه حتى مماته. وتم تدشين المقام في 1/1/1963 حضره المشايخ الاجلاء من الكرمل والجليل. لقد بنى السلاسل في ارض المقام وزرع كروم التين، وقد ساعده في ذلك الشيخ حسن سيف، فقد كان ساعده الايمن في بناء السلاسل والعمل في الأرض، واستقبال الزوار الوافدين الى المقام.
اما القصة الثانية فقد رواها لي الشيخ ابو ملحم فقال: لقد سمعت من ابي ان جدي الشيخ فارس ابو فارس حلم حلما حيث جاءه وحي في احدى الليالي وطلب منه بناء المقام الشريف، ففعل ذلك بعد أن تشاور مع أقربائه. ثم اخبر حلمه للشيخ ابي حسن منهال الذي شجعه على ذلك، وعرض عليه المشاركة في المشروع، لكن الشيخ فارس قرر ان يقوم بهذا المشروع لوحده لأنه نوى ذلك منذ البداية. نرى في ذلك ان القصتين تتوافقان مع بعضهما البعض، لأنهما تتحدثان عن عزم الشيخ في بناء المقام.
اعتقد انه لا شيء يحدث صدفة. فإذا عرفنا أن لا شيء يحدث إلا بإرادة رب العالمين، وإن الله لا يخص بإعمال الخير غير الصالحين من عباده، ندرك عندها أن الله خص الشيخ الجليل فارس ابو فارس ليقوم ببناء المقام؛ لأن هذه مشيئته وإرادته. والله يعلم أن نبيّه ابا عبد الله عليه السلام قد مر في تلك الديار المقدسة، وأراد أن يقام له فيها مزار للتبرك والعبادة، ثم لحماية اهل قرية عسفيا بإقامة الصلوات والشعائر الدينية في ذلك المكان المقدس.
ما هي قصة المقام؟
قبل ان يباشر الشيخ فارس ببناء المقام كان في قرية عسفيا مزار مقدس، يقصده السكان يدعى "سيدي ابو عبدالله". وكان المكان عبارة عن غرفة "برّاكية"، وحولها بعض الحجارة والأشجار. بالقرب من المكان كانت عين ماء تدعى عين العلق، التي ما زالت تتدفق منها المياه حتى هذه الأيام. وكان سكان القرية يردون الماء للشرب وللتبرك بها والشفاء من الامراض لقربها من المزار. وكان سكان القرية يقدمون النذور لسيدنا ابي عبد الله عليه السلام المتواجد قرب العين.
يتواجد مقام سيدنا ابي عبدالله في قرية عسفيا منذ مئات السنين. وقد اختلفت القصص حول كنه سيدنا ابو عبدالله. فاعتقد البعض أنه ولي صالح كان قد جلس في ذلك المكان فحلت البركة عليه، ثم أعتاد السكان زيارة ذلك المكان للتبرك. واعتقد البعض الاخر انه نبي من انبياء الدروز الذين مرّوا في المنطقة في فترة الدعوة، فقد جلس واستراح تحت الشجرات في ذلك المكان، ثم اصبح مزارا يتباركون به ويقدمون له النذور.
يبدو ان الاحتمال الثاني هو الأصح. فقد عُلّقت على حائط المقام معلومات منقولة عن السيد حكمت مقلدة نصها ما يلي: "لقد زار المستشرق ماسينيون الشرق في أوائل القرن، وقال انه قرأ إحدى المخطوطات التي تشير بأنه توجد عين ماء في منطقة ما في جبل الكرمل، تنسب للولي "أبي عبدالله محمد بن وهب" لكنه لم يزره...".
لقد آمن الكثيرون من سكان قرية عسفيا بسيدنا ابي عبدالله دروزٌ ومسيحيون. وتناقلوا القصص التي تروي قدرة النبي على خلق المعجزات. حدثتني امرأة من عائلة مارون عن قصة سمعتها وهي صغيرة، وقد حدثت هذه القصة مع عمتها ام موريس فقالت: في احدى الليالي كانت النساء جالسات في عزاء قبل اربعين سنة تقريبا. قالت ام بولص لام موريس: "خرفي الي موجودين شو صار معنا وإحنا صبايا". قالت ام موريس: "كنا صبايا بنات سطّعشر سنه، قلت لذيبه: تعالي نتسلق عِلْت من حد سيدي بو عبدالله. ماكنش يومها في شارع زي اليوم، وكان في بَدُو حاطّين خيامهن عطريق سيدي بو عبدالله بيسموهن النَوَر. تسلقنا عِلْت. وإحنا طالعين بس وصلنا عَراس الطلعة وكنا عطشانين كثير، شفنا ام صالح، وهي مره بدوية كانت حد العين ولابسة ابيض من راسها لقدمها. هيك كانت كل النسوان البدو تلبس يومها. قلنا اسا منشرب مي من خالتي ام صالح، اكيد عبّت مي من العين. بس وصلنا العين وِلّا فش حدا! كمّلنا في طريقنا ولما وصلنا عَسَوا بيت خالتي ام صالح ناديت عليها: هي يا خالتي ام صالح. طلّت علينا وقالت: تفضّلوا. سألتها: قوليلي، كنتِ حد العين قبل شوي؟ قالت ام صالح: لأ بعدني اليوم مطلعتش من بيتي ليه؟ شو السيره؟ قالت ام موريس لام بولص: هذا سيدي بو عبدالله! ظهر علينا.
ثم اضافت المرأة التي حدثتني بالقصة قائلة: "نحنا منآمن في سيدي بو عبدالله أكثر منكن. لأن الانبيا لكل الناس!". وأنا بدوري أقول: كم انت على حق! الأنبياء لكل الناس لأنهم رسل من عند الله.
مما يجدر ذكره ان نساء كثيرات من عائلة مارون كن يتبرعن للمقام، قبل ان يبنيه الشيخ فارس بفراش ومال، كما ان بعض الرجال منهم كانوا يتبرعون بدهن المقام وتقديم ما يحتاجه الزائرون، لكنهم لا يحبون إعلان ذلك للناس حتى يكون لهم اجر عند الله.
حدثتني الخالة ام ملحم نجيبه قصة سمعتها من والدتها، انه مرضت دجاجات جدتها ام محمد، فنذرت نذرا لسيدنا ابي عبدالله انه حين تشفى الدجاجات سوف تذبح دجاجة وتطبخ عليها الارز في المقام الشريف. عندما صحّت الدجاجات وسلمت، طلبت جدتها من بناتها الذهاب للمقام وإيفاء النذر بدلا منها؛ لأنها كانت مريضة. فذهبن للمقام وذبحن الدجاجة وطبخن الارز وأكلن في المقام المبارك. في احدى الليالي ظهر سيدنا ابو عبدالله في الحلم على جدتها ام محمد وقال لها أن نذرها غير مقبول، وأنه عليها الذهاب بنفسها لإيفاء النذر، ففعلت ذلك على الفور خوفا من عقاب نبينا العظيم.
سمعت قصة أخرى عن معجزات سيدنا ابي عبدالله عليه السلام، انه قام احد سكان القرية بقطع الاشجار وعمل من غصونها "مشحرة". فحذره سكان القرية من فعل ذلك لان هذه الشجرات مباركة ولا يجوز قطعها لأنها تابعة للوقف. لكنه تابع عمله. بعد عدة أيام "قطع المشحرة"، وأنتجت له الفحم الكثير. وضع الفحم في اكياس ونقلها الى بيته، ثم فوجئ بأكياس الفحم تشتعل داخل المخزن في أكياسها. تأكد عندها الرجل وسكان القرية ان في المكان نبي صالح لا يمكن التلاعب معه. وما زال أهل القرية يتناقلون الكثير من القصص والروايات حول معجزات سيدنا ابي عبدالله، وقصصه مع اهل القرية، ويؤكدون ما سمعوه بالحجج والبراهين وبذكر اسماء الاشخاص الذين حدثت معهم هذه القصص.
لقد اعتنى شيخنا الجليل بالمقام سنين عديدة، فترك بيته الذي سكن فيه وأعطاه لابنته ام يوسف كاملة، ثم انتقل ليعيش في المقام في الطابق السفلي. وعندما كبر شيخنا في السن، وأصبح عاجزا عن ادارة شؤون المقام لوحدة أوكل الامر لثلاثة من بعده: لحفيدة من ابنته كاملة السيد سعيد ابو فارس، وأخيه يوسف ابو فارس ولعمهما نور الدين ابو فارس. وأعطيت الوكالة الرسمية والإدارية للسيد سعيد ابو فارس منذ سنة 1978، كما تقرر ان يكون الشيخ نور الدين قيما للمقام الشريف منذ سنوات السبعين.
لقد اكمل الوكيل والقيم عن المقام مسيرة الشيخ فارس في توسيع المقام، فجمعت التبرعات من اهل القرية وبنيت باقي الغرف والضريح. حتى اصبح المقام يضج بالحياة وبالزائرين من جميع القرى الدرزية ليلا ونهارا. خاصة في أيام العُطل والأعياد.
لقد سعى السيد سعيد ابو فارس وكيل المقام وعمه الشيخ نور الدين، بموافقة الشيخ المرحوم ابو يوسف امين طريف لجعل زيارة سنوية للمقام. وأعلن اليوم الخامس عشر من تشرين الثاني من كل عام يوم زيارة رسمية للمقام الشريف. في هذا اليوم يجتمع مشايخ الطائفة لإقامة الصلوات الدينية وللتباحث في شؤون الطائفة.
توفي شيخنا الجليل فارس ابو فارس عام 1978 عن عمر يناهز المائة وست سنوات. وقرر الشيخ ابو يوسف امين طريف دفنه في ارض المقام. لقد رثاه قائلا: "لقد دخل قصره قبل ان يدخل قبره". وعنى "بقصره" اي المقام الشريف الذي بناه بيديه ومن ماله الخاص. رحم الله شيخنا الجليل المعطاء المقدام الكريم العطوف واسكنه الله جنة الموحدين.




















