عقيدة التقمّص

أطلق التوحيد على الأجساد البشرية اسم الأقمصة أو القمصان، وهي جمع قميص وتجمع كذلك على قُمُص. وفي الحديثِ: "إن اللّهَ سَيُقَمِّصُكَ قَميصاً" أي سيُلْبِسُكَ لِباسَا. والقميص يعني السربال والثوب الذي يغطي النصف الأعلى من جسم الإنسان. أما من حيث المعنى فالقميص هو السربال الذي يبلى، بينما يبقى الجسم مع تبدل القمصان.

14.12.2009 מאת: همس الروح
عقيدة التقمّص

لماذا أطلق التوحيد اسم القميص على الجسم، على عكس المقصود في معناه العربي الأصيل؟
ذلك لأن الجسد هو اللباس المتبدل للنفس في حيواتها المتتالية، بينما النفس باقية خالدة على مدار الدنيا. وهذا ما جرى عليه معنى التقمص في الكتب المذهبية التوحيدية.

وإذا كان الإنسان متمثلا بجانبين اثنين؛ روحاني وجسماني، فإن القميص هو الجسم المادي الفاني المرئي، والروح الجوهرية اللطيفة الشفافة هي الخالدة غير المرئية. وتمزق القميص أو نقلة النفس من قميص إلى آخر تعني بالمنظور التوحيدي موت جسم الإنسان وانتقال نفسه إلى صورة جسم إنسان آخر.

لا بد لنا ونحن بصدد الكلام عن التقمص أن نفرق بين النفس والروح بالمنظور التوحيدي الذي نفهمه. فالروح في استخداماتها التوحيدية هي الجوهر الحيّ الشفاف اللطيف؛ أي أنها تنتمي إلى المعقولات الحيّة من المخلوقات والكائنات. وقد جرى استخدام الروح في الكتب التوحيدية كصفة أكثر منها إسما، فيقال: هذا الشيء روحاني؛ أي جوهر حيّ شفاف لطيف. وعلى خلاف ما يعتقد بعض الموحدين المتدينين من تقسيمهم للموحدين في قسمين اثنين؛ روحانيين أي عقّال رجال دين، وجسمانيين أي جهّال زمنيين، فإن كتب الحكمة التوحيدية قد استخدمت وصف الروحاني لكل ما هو معقول غير مادي وليس لرجال الدين، فقالت عن الضد أي الشر بالذات إنه لطيف روحاني، كذلك قالت عن العقل: إنه لطيف روحاني فهما متشابهان من جهة تكوين كل منهما وعدم دخول المادة في خلقهما.

أما النفس فمعناها اللغوي كما ورد في لسان العرب: "النَّفْس: الرُّوحُ.. قال أَبو إِسحق: النَّفْس في كلام العرب يجري على ضربين: أَحدهما قولك خَرَجَتْ نَفْس فلان أَي رُوحُه، وفي نفس فلان أَن يفعل كذا وكذا أَي في رُوعِه. والضَّرْب الآخر مَعْنى النَّفْس فيه مَعْنى جُمْلَةِ الشيء وحقيقته، تقول: قتَل فلانٌ نَفْسَه وأَهلك نفسه أَي أَوْقَتَ الإِهْلاك بذاته كلِّها وحقيقتِه والجمع من كل ذلك أَنْفُس ونُفُوس".

وللنفس بمفهومها التوحيدي أقسام ثلاثة أخذا بتقسيم أفلاطون للنفس البشرية، لا عملا بتقسيم أرسطو، الذي جعلها على ثمانية أقسام. فأول أقسام النفس الثلاثة وأشرفها، هي النفس العاقلة أو الناطقة وهي الجزء العقلاني أو العقل الجزئي الإنساني الموصوف بالنور والعلم والخير. والقسم الثاني يتمثل بالنفس الشهوانية التي تتحكم بالرغبات والغرائز الحيوانية في الجسم الإنساني وقد تسمى النفس البهيمية. وأخيرا القسم الثالث الذي يتمثل بالنفس النامية وهي تلك القوة التي تدفع خلايا جسم الإنسان كي تنمو ضمن قالب الصورة البشرية.

هل جميع أقسام النفس خالدة، تشكل مطرحا للتقمص؟
هنالك قسم واحد خالد هو النفس العاقلة أو الناطقة، تنتقل بعد الموت من جسد إلى آخر وهي وحدها محل التقمص، أما النفسان الشهوانية والنامية فهما غير خالدتين باعتبارهما آلتين من آلات الجسد، تموتان معه ولا تتقمصان.

أين هو موضع النفس العاقلة إذن؟
إن الجسد هو موقع قسمي النفس؛ الشهواية والنامية، أما النفس العاقلة الناطقة فهي كما وصفتها كتب الحكمة التوحيدية، تحيط بالجسم إحاطة إدارة وتدبير كما تحيط هالة النور بجسم من الأجسام. وفي ذلك جاء في الحكمة التوحيدية: {بل هي (أي النفس العاقلة) عليه (أي على الجسم) مشرقة وبه حائطة كإشراق نور الشمس على جميع ما في الدار لتنتفع بها العيون والأبصار}.

ما هو تعريفنا للتقمص؟
التقمص يعني بمفهومه التوحيدي تردد الأرواح في الأجسام ضمن دائرة النوع. وبكلام آخر: هو انتقال النفس البشرية بعد كل موت من جسد إنسان ميّت إلى جسد إنسان آخر حيّ.

ماهي أنواع التقمص؟
للتقمص بمفهومه العام أنواع أربعة: النسخ وهو انتقال النفس ضمن دائرة النوع؛ والمسخ وهو انتقال النفس البشرية إلى جسد حيوان؛ والفسخ وهو انتقال النفس البشرية إلى نبات؛ ثم الرسخ وهو انتقال النفس البشرية إلى جماد. ولم يؤمن التوحيد إلا بالنسخ دون غيره من أنواع التقمص.

ما هو موقف الإسلام المحمدي من التقمص؟
لم يشكل التقمص جزءا من العقيدة المحمدية في مذاهبها الأولى وخاصة السنية منها. وربما كان للنصيرية والإسماعيلية قصب السبق في اعتناق التقمص مع أنه آل إلى الزوال من العقيدة الإسماعيلية شيئا فشيئا حتى تنكرت له أكثر فرقها اليوم.

أما النصيرية فما زالت تعتمد التقمص جزءا من عقيدتها. ومعرفتنا أن التقمص عند الاسماعيلية والنصيرية يفسح المجال للنفس البشرية بحرية الانتقال في دائرة مفتوحة بين كل الكائنات الحية منها وغير الحية.

إلا أن بعض النصوص في القرآن الكريم دلت على عقيدة التقمص وانتقال الأنفس في حيوات متتالية حتى يوم الميعاد. ومن هذه الآيات على سبيل المثال لا الحصر (البقرة28): ]كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[؛ تبين الآية تكرار الموت والحياة بالنسبة لجميع الأحياء عامة وللناس المخاطبين خاصة لكن فقهاء السنة والمذاهب الإسلامية المحمدية غير المؤمنة بالتقمص تفسرها على نحو آخر فتقول: كنتم أمواتا؛ أي عدما قبل خلقكم فأحياكم؛ أي خلقكم أول مرة من العدم، ثم يميتكم؛ أي الميتة التي تنتهي فيها كل حياة على وجه الأرض ثم يحييكم؛ أي في يوم البعث والنشور قبل يوم الحساب، ثم إليه ترجعون؛ أي بعد الحساب.

وبرأيي أن هذا التفسير يتعارض مع حديث الرسول (ع) عندما ذكروا له عن أحدهم أنه مات، فقال: لقد قامت قيامته. أي أن هناك قيامتين لكل نفس إحداهما في الحياة الدنيا عن طريق التقمص ويتبعها الحساب الأول، ثم الثانية في الآخرة يتبعها الحساب الثاني الأخروي وهذا يشكل صلب المعتقد التوحيدي.

ثم قوله تعالى (الزمر 6): ]يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ[؛ فالخلق من بعد خلق يفيد التكرار، والخلق في بطون الأمهات يخص الأجساد، والضمير في يخلقكم يعود على النفوس، التي تخصّ الضمير في؛ يخلقكم، وهم جميع الناس المخاطبين.

هل آمنت النصرانية بالتقمص؟
تتنكر النصرانية اليوم لعقيدة التقمص على الأقل بمذاهبها الثلاثة الكبيرة؛ الكاثوليكية، والأرثوذكسية، والبرتستانتية. أما في البدايات الأولى للنصرانية فقد كانت عقيدة التقمص ركنا من أركان النصرانية ثم أغفل الأخذ بهذه العقيدة لما فيها من إهمال لدور الكهنة في الحياة.

ففي كتاب "التقمص" لمؤلفه "رونالد تسيورر"، نجد ما يلي:
كان أهم المعتقدين بالتقمص رجل دين نصراني عالم يدعى "اوريغينيس الاسكندراني" (185-254 م)، الذي ارتبط اسمه بذكر التقمص في النصرانية وهو أول العارفين الكبار بالكتاب المقدس بل أعظمهم على الاطلاق. وفي كتابه "المبادئ" تبنّى "اوريغينيس" بشكل مباشر مبادئ الكارما والتقمص, فقد قال مثلاً : "إذا أراد المرء ان يعلم كيف تكون الروح البشرية مطواعة للخير في آن ومطواعة للشر في آن آخر عليه ان يفتش عن السبب في الحياة التي سبقت الحياة الحالية".
في القرن الرابع الميلادي صارت النصرانية دينا رسميا للدولة الرومانية فبدأت أولى العقائد المتماشية مع مصالح الكنيسة تخرج أعناقها إلى الضوء وتطرد العقائد الأساسية التي رافقت بداياتها الأولى كالتقمص.

وفي عام 543م وبضغط من القيصر الروماني "جوستينيان" الأول (527-565)، تمت الدعوة إلى عقد سينودس للكنائس الشرقية كان هدفه المعلن القضاء على جميع الفوارق اللاهوتية المتراكمة منذ 300 عاماً، وذات الصلة بتعاليم "اوريغينيس", وفرض المؤتمر على هذه التعاليم تسعة تحريمات كان أولها التحريم الحاسم المتعلق بفكرة التقمص ولعن كل من يقول به.

ومن القساوسة الأعلام الذين آمنوا بالتقمص عقيدة؛ العلامة الايطالي والراهب الدومينيكاني "جوردانو برونو" (1548-1600م)، الذي قدم إلى المحكمة الكنسية عام 1592م بسبب معتقداته الفلسفية الخاصة حول تنقل الأرواح وحُكم عليه بالموت حرقا وتمّ تنفيذ الحكم فيه علانية في 17 شباط من عام 1600م.

إذن شكل التقمص أحد المبادئ الأولية للنصرانية ثمّ تمّ استبعاده خدمة للكنيسة التي أرادت السيطرة على حياة الأفراد وأخذ دورها الإيماني التطهيري في كل صغيرة وكبيرة، حين أفقدها التقمص هذا الدور باعتباره أداة للحساب البدئي للروح في حيواتها المتتالية مما ساهم إلى حد كبير بتحجيم دور رجال الدين.

التقمص (السامسارا) في الفكر الهندي:
سبقت الديانة الهندوسية الهندية جميع الأديان الإسلامية السماوية الثلاث؛ اليهودية والنصرانية والمحمدية حيث كانت بدايتها على أقرب تقدير في القرن الخامس عشر قبل الميلاد أي قبل اليهودية بحوالي ثلاثة قرون.

آمنت الهندوسية بالتقمص (السامسارا) منذ نشأتها مترافقا بقانون الحساب (الكارما)، وألتزمت بهذا الإيمان الديانات الكبرى الهندية إضافة للديانة الهندوسية؛ البوذية والجينتية التي نشأت في حوالي القرن السادس قبل الميلاد.

أخذ التقمص (السامسارا) في الديانات الهندية الثلاث شكل العقاب في قانون الكارما حيث يستمر تردد النفس في الأجساد ساريا طالما لم تطهر النفس وتزكو متخلصة من شوائبها في حيواتها المتكررة. وبقدر ما تصفو النفس ترتفع إلى الأعلى حتى تصل إلى الصفاء والنقاء الكامل عندئذ تتحد بالجوهر الكلي الإله (براهمان) كي تعيش حياة أبدية في حالتها هذه فلا ترتد بعدها إلى الحياة مجددا. 

תגובות

1. ב לפני 16 שנים
זהו תחום הקופסה השחורה

מומלצים