قلائد معلقة" للشاعر
قراءة في ديوان "قلائد معلقة" للشاعر: عبد القادر عرباسي كفر قرع
أهداني مشكورا، صديقي جميع مؤلفاته الشعرية والنثرية، وكعادتي التزم بقراءة كل كتاب يصلني، فكم بالحري إذا وصلني إهداء ومن صديق قديم، وكعادتي أيضا، أن أبدي ملاحظاتي مشافهة وبكل صراحة. لقد فعلت هذا مع شاعرنا، ولكنني شعرت بتقصيري، فقررت رغم ضيق وقتي ومشاغلي ومرضي، أن أكتب عن ابداعه الأخير: "قلائد معلقة" والصادر هذا العام 2023، وكعادتي أيضا، لا أخون معرفتي ولا أجامل وإن كنت أجَمِّل وذلك بابراز مواطن الجمال اللطيف وتجاهل بعض مواطن النص الضعيف، وفي الحالتين استعمل الكفوف الحريرية.
قبل القراءة، أميل الى قراءة العنوان وتخمين دلالاته، قبل الولوج الى النصوص المرافقة ومتون النصوص. فالعنوان هو أهم عتبة من عتبات النص ومن أهم مفاتيحه؛ لما يوفره من نظره بانورامية لمجمل النصوص.
العنوان الكلامي: قلائد معلقة، فيها دلالة متفائلة، فالقلائد غالبا تكون رمزا للنجاح الذي نعلقه على صدر الفائز، ولكن لا بُد للفائز أن يتعب ويجتهد ويناضل ويعاني حتى يفوز بمبتغاه. ولكن العنوان الفني (وهو اللوحة الفنية)، يبدو وللوهلة الأولى، أن لا علاقة مباشرة له بالعنوان الكلامي "قلائد معلقة"، فاللوحة عبارة عن سلسلة من القيود الحديدية، تبدأ بحلقات مترابطة، وتدريجيا تبدأ هذه الحلقات تتغير في ملامحها لتقترب من شكل سلسلة من الطيور المترابطة، وتدريجيا تنفصل عن بعضها البعض ويتضح شكل سلسلة من الطيور غير المترابطة، تطير وراء بعضها البعض. وهذه المتتالية من قيود حديدية وطيور تشكل قلادة، وفي هذا ارتباط بالعنوان الكلامي.
وهنا نقف على الرابط التلميحي الذكي للعلاقة بين العنوانين: الكلامي والفني. فاللوحة الفنية تبدأ بالقيود الحديدية المتماسكة دلالة العذاب والسجن، ولكن نضال المعذبين وإصرارهم على البقاء ونيل الحرية يتحقق بدلالة الطيور البيضاء التي تحلق بحرية، وكذلك باللون الأبيض للعنوان وللجنس الأدبي، وهو الشعر دلالة الثقافة وهي خندقنا الأخير.
إن هذا الإثراء المتبادل يستدعي قصيدة "إرادة الحياة" المعروفة لأبي القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القَدر. ولا بدّ لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر. نحن أمام ديوان شعر من المفروض أن تتشظى فيه الأبعاد الوطنية ونضال الشعوب من أجل التحرر من القيود والانطلاق الحر في فضاء الحرية.
قرأت الديوان فوجدت جميع قصائده معنونة بالأرقام (الأعداد)، وليس بالكلمات، وهذه فكرة مبتكرة لأنها خارجة عن المألوف. ووجدتها جميعها تخاطب "جميلة" مباشرة.. ويرتفع السؤال: من هي جميلة؟، وجدت الجواب في الإهداء، فهي من ماجدات الوطن فلسطين وجميلاته، فهي الأنثى في كل حالاتها: الزوجة والأم والأخت والابنة والعشيقة و. ولكل حالة يهدي قلادة. جميلة ليست اسما عينيا خاصا بل هو اسم عام، وفي الوقت نفسه ليس مقتصرا على الجنس البشري بل هو اسم يتماس ويتداخل ويتحد مع الطبيعة الأم (منطقة الروحة ص8) من نبات وحيوان ومطر وتضاريس وذكريات، وفي جميع الحالات يعيش حالة من الوجد الصوفي.
اختار الشاعر الاسم "جميلة" دون مئات الأسماء الأخرى؛ لأنه يرى الجمال أينما نظر: في قريته "كفر قرع" وفي وادي عارة وفي منطقة الروحة، وهذا اختيار موفق.
ولماذا هذه العنونة المجردة؟ هذه العنونة تستفز القارئ وتفتح أمامه آفاقا من التأويل؛ لأنها تحرره من قيود التوجيه الكامنة في عنوان القصيدة. وهذا اختيار موفق أيضا.
جميلة، هي الشغل الشاغل لشاعرنا العاشق، فيخاطبها باسمها وبدلال اسمها: جمول، جمولة، جميلتي، جميلة، وذلك بحسب حالته النفسية والعاطفية، يعاتبها يناجيها، يصفها، يشكو لها، يمجدها، يعتذر لها،... وفي جميع الحالات يعبر لها برومانسية شفافة وعفوية متدفقة ولغة سلسة مطعمة بجمال المفردات والتعابير العامية وسردية الجملة الشعرية الانزياحية الراقصة والمتوكئة على الحوار أحيانا.
في نصوص قصائد الشاعر، برز الاندماج بين الجملة الانزياحية الشعرية وبين الجملة السردية النثرية، فتقرأ النثر وتشعر بلذة الدهشة، ووظيفة الشعر أن يقدم الدهشة والمتعة وليس خبر المعرفة، وشاعرنا أتقن هذا الدمج الذكي، ولقد اقترحت (ومنذ عقدين وأكثر) عليه مصطلح" الشعثرة"، وهو نحت بين كلمتي: النثر والشعر، انظر ص95، ص105، ص110، لدرجة أنك أحيانا، تبدأ بجملة نثرية وتنزاح شعريا ولم تنته بعد، والملاحظة نفسها تستقيم مع دمجة للغة العامية المحكية في سياق الجملة الفصيحة السليمة.
اقتصر ديوان شاعرنا على علاقته بعشيقته البشرية جميلة، أقول البشرية لأني لم تصريحا أو تلميحا لجمال قريته ومنطقته الروحة كما جاء في كلمته ص7و8، لكنه عالج من خلال جميلة العديد من الظواهر الاجتماعية: قصيدة6، قصيدة24، قصيدة37،
إن هذا الاقتصار جعلها أقرب الى نصوص الخاطرة الوجدانية، وذلك لكثرة جملها النثرية وعدم التزامها بالوزن الشعري بحرا وتفعيلة؛ مما أضعف بل ونفى عنها مصطلح القصيدة أو الشعر. إن هذه الملاحظة لا تقلل من قيمة النصوص جمالا في التعبير ومعالجة في مضامينها. وهذا الأسلوب وفّر له حرية التجريب: الحوار، التسلسل الدرامي، الجمل الاعتراضية، الدمج اللغوي والدمج الاسلوبي، وهذه نقاط تشهد لصالحة في تجربته الإبداعية هذه. يبدو لي أن شاعرنا: عبد القادر عرباسي، انتبه لذلك فلم يثبت مصطلح: شعر أو ديوان في الكتاب.
فيما يلي بعض التقنيات الشعرية التي اعتمدها الشاعر، وجميعها تهدف الى استفزاز التشويق ومتعة الكشف لدى القارئ: سأورد بعض النماذج لكل تقنية دون الوقوف على أهميتها في السياق، لأني أعتقد أنها معروفة لذائقة قارئ الشعر.
العامية المفردة والتعبير: نجح الشاعر في دمج المفردات أو التعابير العامية/ المحكية في سياق شعرة فجاءت منسابة وليست مقتحمة: حاكيني عقد عقلي/ يا من ريتك تعدمها جميلة، ص 46، المهم خلينا في إللي فيه ص74، ولك يخرب ضبان عقلك ص104، ولِك شو مفكري أني مُطنّش ولا بإيدي ولا بعبي ص84،
التناصات: - أكلت يوم أكل الثور الأبيض ص141. وجيادا بيض تجوب مسافات الروح ص64. فلا كنتُ كُثير" ولا أنا "عَزّة" ولا أنتَ "ابن معمر جميل" جئت عن "بُثينة" تسأل. ص127، قسما بمن وضع السماء بلا عمد ص129،
الثنائيات المترادفة والمتضادة: - ذهاب وغياب ص48، - مشاعر وإحساس ص70، بين الفصيح والمحكي ص87، - الشك والريب ص87، وتمازجي طعما ونكهة ص107. سوى النكبات والحسرات ص128،
تعابير مبتكرة: أقارع زق نبيذ الوقت ص66. فأركب صهوة الحنين ص95، - فقد أودعتكِ وشاح قلبي ص99، كيف تراني خارج النص ص101، - وبهدي فنار وجهك الوهاج ص114، - فجميلتي مسار العشق 114.
شاعرنا: عبد القادر عرباسي/ أبو صخر، في نصوصه/ أشعاره هذه (قلائد معلقة)، لجأ الى الكتابة ليعبر عن مشاعره وتلاطم أمواجها، يبدأ بالكتابة معبرا عنها بصورة عفوية متدفقة دون مراقبة، ولا يترك الكتابة إلا بعد أن يتحرر من حالته النفسية ويشعر بالارتياح. وكل حالة نفسية من لواعج نفسه وهياج مشاعره وشبق رغباته يعبر عنها بالكلمات ومدادها دم القلب وليس عصارة العقل.
ويكتمل تصوير الحالة بلوحة مرسومة بالكلمات وتتوقف الكتابة. وهكذا تكون كل قصيدة/ نص عبارة عن حالة ولوحة في آن واحد، هي دفق مشاعر متتالية ومترابطة بتراتيل الروح العاشقة. إن جمال هذه الكتابة المتحررة يكمن في صدقها وبساطة انسيابها فيتفاعل ويتماهى بها القارئ.
بقلم الاديب الناقد محمد علي سعيد
آمال ابو فارس المربية الاديبة والشاعرة, المسؤولة عن زاوية المنتدى الثقافي. يمكنكم الاتصال بها Amlabo@walla.com او على هاتف 0549026108


















