هل عالمنا سيصوغ المستقبل أو سيواصل اجترار الماضي؟

إذ تواصل الأحداث في منطقة الشرق الأوسط تسارعها، وبات من المؤكّد أن ما كان هو ليس ما سيكون، وأن اليوم لا يشبه الأمس بشيء، على كافّة الصعد، وفي كافة المواقع والجبهات من غزة حتى لبنان وإيران واليمن وسوريا وصولًا إلى السعوديّة التي عاد ولي عهدها محمد بن سلمان من واشنطن محمّلًا بصفقة طائرات إف 35، رغم التحفّظات الإسرائيليّة في أحسن الأحوال، ودون أن تقوم واشنطن دونالد ترامب حتى باستشارة إسرائيل

29.11.2025 מאת: المحامي زكي كمال
هل عالمنا سيصوغ المستقبل أو سيواصل اجترار الماضي؟

المحامي زكي كمال

 

كما كان متّبعًا في مثل هذه الحالات، وبعد أن أثرى الخزينة الأميركيّة بمئات مليارات الدولارات يثق ترامب أنها ستزداد، يتواصل الحديث معها عن شرق أوسط جديد بتحالفاته وعلاقاته ومصالحه المتشابكة والمتغيّرة،

وعن دور القياديّين في منطقة الشرق الأوسط وتحديدًا اثنين منهم  هما بنيامين نتنياهو ومحمد بن سلمان في صناعة الشرق الأوسط الجديد، خاصّة وأن الأوّل يكرّر القول، وتردّد جوقة مؤيّديه ذلك بعده،

أنه غيَّر الشرق الأوسط ولكن بوسائل عسكريّة عبر انتصارات يقولون إنه حقّقها في لبنان وإيران وغزة واليمن وسوريا والضفة الغربيّة،  وأن التاريخ سيذكره على أنه أعظم قائد في تاريخ إسرائيل وسيّد أمنها وحاميها،  

وكلّها أمور ينكرها معارضوه بشدّة مؤكّدين أنها انتصارات خياليّة أو متَخَيَّلة، سرعان ما ستنتهي،  وربما إلى انفجار أسوأ، أما الثاني فيقول مؤيّدوه أنه يغيّر الشرق الأوسط عبر خطوات سياسيّة كتجنيد الدعم الدوليّ بالتعاون مع فرنسا للاعتراف بدولة فلسطينيّة،  

والدفع باتجاه قرار لمجلس الأمن الدوليّ يشمل رسم معالم الطريق الواضحة والمضمونة لإقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة تضمنه الولايات المتحدة خلال خمس سنوات ، مقابل موافقتها على تطبيع مع إسرائيل ونقل السعوديّة من موقع الصديق لأميركا إلى موقع الحليف الاستراتيجيّ الذي لا يُرَدُّ لَهُ مُراد،

اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، ما جعل مؤيّديه يؤكّدون أنه رجل التاريخ الحديث سعوديًّا، وأنه يكتب التاريخ بيمينه، في تكرار لحديث شهده العصر الحاليّ حول زعماء اعتقد كل منهم أنه يكتب التاريخ وصولًا إلى السؤال الأهمّ والأكثر إلحاحًا حول التاريخ وكتابته،  أو كيفيّة تسجيل أحداث تبقى في ذاكرته، وطريقة رؤية ذلك، وهل هو مجرّد سرد للأحداث دون تحليل عميق، وهل يكفي أن يكتب قائد ما  التاريخ عبر قرارات يتّخذها أو إنجازات يحقّقها،

وأن يوثّق مؤرّخ ما ذلك، أم  أن ذلك يجب أن يقاس بمدى الأهميّة المستقبليّة لهذه الكتابة، أو لسرد الأحداث  المذكورة وتفسيرها، وصولًا إلى السؤال الأهمّ حول مدى تصديق الناس لروايات وسرديّات يكرّسها القادة، ويعتبرونها إنجازات تاريخيّة، رغم أن الناس في قرارة أنفسهم يؤمنون أنها روايات كاذبة وسرديّات غير موثوقة خاصّة في زمن الأزمات الداخليّة والخارجيّة.

 


أقول هنا وقبل كلّ شيء إن الحديث عن قائد  آنيّ يكتب التاريخ عبر قراراته وإنجازاته، هو ضرب من الغيبيّات، بل ربما الاستغباء، خاصّة وأنه يعني أن هذا القائد  وجوقة مؤيّديه، يعتبر التاريخ مجرّد سرد  زمنيّ للأحداث دون التمحيص والفحص حول ما إذا كانت هذه الأحداث التي يتم سردها تحمل أهميّة مستقبليّة، أو يمكن أن تشكّل مادّة يتم منها استنتاج العبر والدروس التاريخيّة، عملًا بقول فريدريش فيلهيلم نيتشه الفيلسوف والشاعر والباحث الألمانيّ الذي يقول إن التاريخ ليس مجرّد سرد لأحداث الماضي، بل هو أداة يمكن توظيفها بشكل نقديّ لخدمة المستقبل، ويجب أن تكون علاقتنا به صحيّة، لتجنّب استعباد الماضي لنا، بمعنى أن سرد الأحداث التاريخيّة وتفسيرها  لخدمة  الحاضر والمستقبل عبر الحفاظ على القيم أو اقتراح قيم جديدة، بعيدًا عن النظرة السائدة التي تقدّس التاريخ كحقيقة مطلقة أو سرد لا يتغير،

ودون استخدام التاريخ  وأحداثه كأداة لخدمة السياسة، أو لفرض رواية رسميّة، ممّا يعيق تطوّ ر المجتمع، وهي دعوة للتحرّر من سلطة الماضي، واستخدامه كأداة بنّاءة بدلًا من كونه عبئًا، أو سلطة تتحكّم في الحاضر والمستقبل، بل يلائم المستقبل، ويخدم أهدافه واحتياجاته، وإلا سيبقى التاريخ قديمه وحديثه وحاضره وماضيه مجرّد سرد نظريّ لأحداث لا فائدة منه حتى أن البعض يذهب إلى تشبيه هذا التاريخ، بكتاب شفهيّ يشمل تعليمات السباحة والإنقاذ، لا يفيدك أن تلقيه تجاه شخص يغرق فلن يخلصه من الغرق. وهذا أفضل تشبيه لما نشهده اليوم من حديث عن كتابة للتاريخ الحاضر، دون اهتمام بالمستقبل، وبمعناه السياسيّ اتخاذ قرارات وخطوات تخدم الحاضر والمصلحة السياسيّة الآنيّة فقط، ودون استخلاص العبر التاريخية من التاريخ.

 


أقول هذا على وقع الأحداث الأخيرة وخاصّة قرار مجلس الأمن 2803 حول غزة والذي ينصّ على ضرورة رسم طريق واضح لإقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة. وهو قرار اعتبره كثيرون أنه يكتب تاريخًا حديثًا ويؤسّس لدولة فلسطينيّة بمجرد كتابته، أو الإعلان عنه، متناسين أقوال نيتشه أن التاريخ ليس مجرّد سرد كلاميّ وشفهيّ لأحداث تصبح مقدّسة وحقائق دامغة في أعين الكثيرين لمجرّد قولها أو كتابتها، يصدقها العامّة لأسباب سنعود إليها، بل إن أهميّته تكمن في معناه المستقبليّ، وبالتالي فالسؤال هنا وفي هذا المقام، هل تصبح الكلمات حقائق دامغة بمجرّد كتابتها،

وهل الحديث عن طريق واضح ومضمون للدولة الفلسطينيّة وتسجيله اليوم في تاريخ مجلس الأمن على أنه المرة الأولى التي توافق فيها واشنطن على قرار ترفض إسرائيل صيغته، ويعتبر ملزمًا لها وليس تصريحيًّا بعكس قرارات الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة والتي أدانت إسرائيل بالجملة لتبقى تصريحيّة فقط، يجعلها دولة قائمة أو يضمن إقامتها، والأمثلة كثيرة فبنيامين نتنياهو الذي سارع إلى تهنئة الرئيس دونالد ترامب على هذا القرار والذي يشترط إقامة الدولة الفلسطينيّة بإصلاحات سلطويّة وسياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة في السلطة الفلسطينيّة، منها تغيير المناهج التدريسيّة ووقف دفع المخصّصات لعائلات السجناء الأمنيّين،

ووقف التحريض في وسائل الإعلام ونبذ العنف والاعتراف بحقّ إسرائيل بالعيش في حدود آمنة وإصلاحات اقتصاديّة أخرى، معبرًّا في لقاءات إسرائيليّة داخليّة استحالة هذه الشروط والإصلاحات، وعن استحالة إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة خاصّة بعد السابع من أكتوبر 2023 واعتبر مؤيّدوه ذلك كتابة تاريخ  سياسيّ إسرائيليّ جديد ، هو نفسه الذي كان قد تحدث عام 2009 في خطاب بار إيلان عن حلّ الدولتين وكذلك في كلماته أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة،

في تصريحات اعتبرها البعض كتابة للتاريخ، لكنها اتضحت أنها كتابة تلائم الحاضر الذي قالت فيه دون أيّ علاقة بالمستقبل، ودون أن يتم استخلاص العبر من ذلك، بمعنى عدم مراجعة التبعات والتأثيرات  المستقبليّة للتصريحات والخطوات السياسيّة، وهل هي خطوات تخدم المستقبل أم الحاضر فقط،  وعدم تصديق الروايات والسرديّات التي يرويها السياسيّون، رغم إدراك الجميع أنها كاذبة وغير صحيحة. وانطلاقًا من أن كتابة التاريخ وصناعته وصياغته لا تتمّ عبر سرد الكلام، بل الأفعال على أرض الواقع، علينا الانتظار للتأكّد من المستقبل، فالتصريحات في منطقتنا في وادٍ والفعل والحقيقة في وادٍ آخر.

 


وهو الحال بالنسبة للمملكة العربيّة السعوديّة فالحديث عن أنها تعمل على خلق شرق أوسط جديد وتكتب تاريخه، أو أنها بمجرد إعلانها إنجازًا ما هو بند واحد ضمن قرار واحدٍ لمجلس الأمن وافقت عليه الولايات المتحدة، دون فحص العوامل التي رافقت اتخاذ هذا القرار من جهة، وهي عوامل آنيّة أولها أنه قرار يستند إلى خطة النقاط ال20 التي أعلنها دونالد ترامب دون أن تصبح اتفاقيّة رسميّة إذ لم يتم التوقيع عليها  من قبل الدول ذات العلاقة، ناهيك عن أن تماشي واشنطن مع التوجهات السعوديّة لا يضمن كتابة التاريخ، ولا يضمن المستقبل وربما لن يفيده، فالسعوديّة الآن تملك مكانة خاصة لدى ترامب ولها وزنها، أو بكلمات أصح،

لهذه المكانة وزن لأسباب آنيّة حاضرة، أولها أن ترامب يرى السياسة الخارجيّة، عبر منظاره الماديّ والماليّ وصفقاته التي تمتد لسنوات خمس في أحسن الأحوال، وثانيها أن السعوديّة قادرة على عقد صفقات بقيمة تريليونات الدولارات توفّر المال للخزينة الأمريكية الفارغة وتوفّر عشرات آلاف فرص العمل للأمريكيّين مقابل بطالة متفشّية في السعوديّة تصل نسبتها في أوساط الشباب9.6 %،

وثالثها انخفاض قوة إيران  والحوثيّين خاصّة بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل، ورابعها عدم اهتمام واشنطن ترامب بسجل حقوق الإنسان حتى اعتبار قتل الصحفي جمال خاشقجي حادثًا عرضيًّا يمكن حدوثه(بعكس موقف إدارة جو بايدن)، وكون الرياض تنسجم في مواقفها مع أجندات إدارة ترامب،  

وإلى ذلك يجب أن نضيف  أن السعوديّة تحافظ وبنفس الوقت على علاقات ممتازة مع الصين وروسيا، مع الإشارة هنا إلى ما قلته سابقًا من خطورة الاستعجال في تحديد معنى كتابة التاريخ خاصّة عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل وإيران، فالحرب التي شهدها شهر حزيران الأخير، وأدت إلى إضعاف إيران عبر تحطيم دفاعاتها الجويّة وتمكين طائرات سلاح الجوّ الإسرائيليّ من التجوّل بحريّة مطلقة في سماء طهران وقصف المنشآت النوويّة بمساعدة قاذفات أميركيّة، وهو ما اعتبروه كتابة صفحات في التاريخ ، سرعان ما اتضح انه ليس بإنجاز إيجابي، فهو وبإضعافه قوة أيران إنما قلَّل ايضًا وفي نفس الوقت من مخاوف السعودية منها وجعلها أقل تهديدًا لها خاصّة مع ضعف حزب الله والحوثيّين واغتيال قيادات حماس في طهران، وبالتالي خففت لهفة السعوديّين للانضمام إلى الحلف السنيّ ضد إيران أو التقدم بخطوات سريعة نحو تطبيع مع إسرائيل يشكّل برعاية أميركيّة تحالفًا يدافع عنها أمام أخطار وتهديدات طهران، فهل هي كتابة للتاريخ؟ وماذا كانت الفائدة المستقبليّة لها؟


 والحال هو الحال من حيث الردود الفلسطينيّة خاصّة تلك من حماس وفصائل بعيدة قليلًا عن السلطة الفلسطينيّة، فهي ترفض القرار جملةً وتفصيلًا وتعتبره كله، وبمجمله، سلبيًّا رغم أنه يتحدّث عن وقف لإطلاق النار  والدعم الإنسانيّ وإعادة الإعمار  ومرحلة ما بعد الحرب، وإدارة شؤون القطاع خلالها، في تكرار لمحاولة تحديد مسيرة تاريخيّة عبر قرارات لا تأخذ المستقبل بعين الاعتبار تمامًا كما أنها لا تأخذ بعين الاعتبار حتى الحاضر وأحواله وميزان القوى فيه، في تكرار لحالة سابقة رافقت القرارات المتعلّقة بالصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، أو العربيّ الإسرائيليّ، منذ أوائل القرن الماضي ومنها قرار التقسيم رقم 181،

الصادر بتاريخ التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1947، والذي أعلن فيه الفلسطينيّون والدول العربيّة رفضهم للتقسيم وإقامة دولتين عربيّة على مساحة 65% من أرض فلسطينيّ التاريخيّة ويهوديّة على مساحة 35%، متجاهلين العوامل التاريخيّة والوقائع على أرض الواقع وخاصّة التحوّلات في أوروبا والمتعلّقة بالنازيّة. وهو قرار تم تسجيله لتتّضح لاحقًا نتائجه السلبيّة، بل ربما الهدّامة مستقبليًّا والتي أمكنها أن تكون مغايرة لو كان القرار مختلفًا أخد بالحسبان التأثيرات المستقبليّة، وهو ما تكرّر في قرارات القمم العربيّة التي رفضت المفاوضات والصلح والاعتراف والسلام، عبر اللاءات الثلاثة، دون أن تأخذ بعين الاعتبار المواقف الدوليّة وانعدام إمكانية تحقيق منجزات ما دامت الولايات المتحدة في الجهة المعاكسة،

وما دامت مواقفها ومواقف إسرائيل واحدة ( بخلاف قرار 2803) ، وصولًا إلى رفض اتفاقيّة كامب ديفيد التي منحت الفلسطينيّين حكمًا ذاتيًّا أمكن تطويره إلى دولة أو كيان شبه مستقلّ، ومن ثم رفض حماس اتفاقيّات أوسلو والعمل على إفشالها عبر ترديد شعارات متزمتة تتحدّث عن كون فلسطين كلها وقف إسلاميّ والدعوة إلى الجهاد وكذلك السابع من أكتوبر الذي اعتبره كثيرون في أوروبا صدامًا بين حضارات ما يذكرني بكتاب "الصدام بين الحضارات" للكاتب صامويل هنتجنتون حول الحرب العالميّة الثالثة وسنعود إليه، وكذلك رفض السلطة الفلسطينيّة المقترح للتسوية إبان عهد إهود أولمرت في رئاسة الوزراء في إسرائيل والذي نص على إعادة نحو 90% من الضفة الغربيّة إلى الفلسطينيّين،

وهو الحال في لبنان بالنسبة لحالة حزب الله، وإعلان قادته السابقين والحاليين عن كتابة فصول من مسيرة المقاومة، دون أي تفكير مليّ بتبعات ذلك المستقبليّة وتأثيرات ذلك على مستقبل لبنان والمنطقة، عبر شعارات تتردّد يعرف الجميع أنها فارغة في كافة الأمثلة السابقة حول إسرائيل وحماس والسعوديّة ولبنان وإيران، لكنهم يصدقونها لأسباب تجدر مراجعتها والحديث عنها، خاصّة وأنها حالات تتكرّر في المنطقة والعالم الثالث وخاصّة الدول التي تحكمها توجّهات دينيّة أصوليّة، أو سياسيّة يمينيّة متطرّفة قوميًّا .

 


هنا لا بدّ من السؤال كيف يحدث ذلك، ولماذا يعيش الشرق الأوسط حالته الخاصّة التي يفضل الناس تصديق  الروايات التي يعرفون أنها غير صحيحة، وليس فقط تصديق الوعود الانتخابيّة الكاذبة والمتكرّرة والتصويت لقيادات أثبتت مرة تلو الأخرى انعدام مصداقيتها، ويبدو أن الجواب الصحيح يثير الخوف المستقبليّ أكثر من كونه يثير العجب والاستغراب، فهم وفق الأبحاث النفسيّة الموثوقة،  يصدقون الروايات التي يعرفون أنها غير صحيحة بسبب عوامل نفسيّة واجتماعيّة مثل تخدير العقول، والتحيّز التامّ والمُطلق والانتماءات الجماعيّة  السياسيّة والدينيّة والفكريّة التي تجعلهم يصدّقون ما يتوافق مع قناعاتهم المسبقة، حتى لو كان يتعارض مع الواقع وما يحدث،

وكأن أساليب التفكير السليم، أو قدرتهم على التفكير السليم تتوقّف وتتعطّل وكأنه تتم  برمجتهم، ممّا يجعلهم يطبقون ما تم تدريبهم عليه دون تفكير نقديّ، فيخضعون لتخدير العقول وغسيل الدماغ منذ الصغر ربما  في المنزل والمدرسة وأماكن العبادة، ممّا يجعلهم يعتقدون أنهم يتّخذون قراراتهم بأنفسهم في حين أن إرادتهم مسلوبة، إضافة إلى ظاهرة يسميها علماء النفس التحيُّز التأكّدي؛ بمعنى الميل إلى البحث عن معلومات تتوافق ومعلوماتهم ومعتقداتهم الحاليّة، وتجاهل المعلومات التي تتعارض معها،

بل اعتبارها فكرًا تآمريًّا دخيلًا وغير دقيقة. وكذلك تغليب الولاء الجماعيّ على الموقف الشخصيّ والولاء الفكريّ الخاص، أي الولاء لجماعة معيّنة كالحمولة والعائلة والحزب، أو الدين، وتبنّي  روايات هذه الجماعة حتى لو كانوا يعرفون أنها غير صحيحة، وذلك للحفاظ على الانتماء والتناغم الاجتماعيّ، ناهيك عن أن البعض يميل إلى تصديق الروايات غير الصحيحة معتبرًا ذلك أسهل من مواجهة الحقيقة، خاصّة إذا كانت تلك الروايات تجيء من مصادر موثوقة أو ذات سلطة، مثل الحكومات أو الشخصيّات الدينيّة أو العلماء، أو يتم تسويقها عبر وسائل الإعلام التابعة والموالية،

ومن هنا صعوبة مواجهة هذه التوجهات من جهة وخطورتها باعتبارها تتعلّق بمجموعات من السهل توجيهها وتجييشها وقيادتها إلى ما يخدم الجهات ذات العلاقة السياسيّة والدينيّة،  عملًا بقول الروائيّ الإنجليزيّ تيري براتيشت:" يحبّ الناس أن يسمعوا ما يعرفونه بالفعل، تذكَّر ذلك. إنَّهم يشعرون بعدم الارتياح عندما تخبرهم بأشياءَ جديدة. ما يعتقد الناس أنهم يريدونه هو الأخبار؛ لكن ما يسعون إليه حقًا هو أن يكونوا خبراء عالمين بالأمور وإخبارهم بأن ما يعتقدون بأنهم يعرفونه هو الحقيقة"،

بخلاف ما يحدث في الغرب من ولاء أهمّ للمواقف الشخصيّة والذاتيّة وليس الانتماء الجماعيّ، ما يشير إلى صحّة الاعتقاد بأن عقلنا مُصمم لأن يصدِّق أمرًا ويعتبره حقيقيًّا فقط بتكراره دون أيّ أدلة أخرى تجعلنا نتأكّد أكثر من حقيقة الأمور. فكلما تكرّر الحديث أمامنا أصبح من السهل تصديقه، ولذلك يسقط الكثير منا في فخّ سوء الفهم فيصدِّق الأحاديث الكاذبة المتكرّرة مقابل الحقائق، ونصدِّق أن خبرًا ما فقط لأننا نشعر أنه صحيح دون أدلّة.


ما سبق هو واحد من المخاوف المترتّبة على تزايد التوجّهات التي تضع الولاء العام أمام الولاء الخاصّ، بعكس الديمقراطيّة الغربيّة، وهو ربما واحد من أسباب فشل الديمقراطيّات، أو الدمقرطة في العالم الثالث، وواحد من الأسباب التي  ربما دفعت صامويل  هنتجنتون، وتدفع غيره إلى الحديث عن صدام قريب بين الحضارات  والتوجّهات والولاءات الفرديّة مقابل الجماعيّة سيكون ربما بمثابة الحرب العالميّة الثالثة،  وأن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القوميّة واختلافاتها السياسيّة والاقتصاديّة، بل إن  الاختلافات الثقافيّة المحرّك الرئيسيّ للنزاعات بين البشر في السنين القادمة,

وأنه لن يكون اقتصاديًّا حتى بين الصين والولايات المتحدة، بل  إن الصراع القادم سيكون بين الغرب الذي يمكنه بطبيعته أن يحمل الولاءات المزدوجة مثلًا أن يكون الإنسان يحمل جنسيتين في نفس الوقت  بقرار فرديّ يعكس سلم أولوياته، أو ولاءاته وقناعاته الشخصيّة والمدنيّة. لكن هذا الأمر غير ممكن إذا كان الولاء للجماعة الدينيّة والمذهبيّة هو الأوّل والأهمّ،  بمعنى أن المستقبل القريب يشير إلى صراع بين الغرب والدول ذات الأغلبيّة المسلمة، أو التي تحكمها قيادات دينيّة متزمّتة أخرى.

 


 ختامًا تجدر الإشارة إلى أمرين متزامنين ربما يتّفقان مع طرح  هنتجنتون حول الصدام الحضاريّ، وهما تراجع الحداثة والحريّة في الدول والمجتمعات العربيّة والإسلاميّة في العقود الأخيرة ربما كردّ فعل سلبيّ على فشل هذه الدول والمجتمعات في ضمان الخير والأمن والعدالة والحياة الكريمة لشعوبها، والقبول بتوجّهات جماعات الإسلام السياسيّ المتزمّتة التي تعتمد العاطفة والولاء الجماعيّ، بل العزلة والانعزاليّة والتقوقع، مقابل إصرار المواطنين في الغرب على تحصيل حقوقهم ومنع استشراء الفكر المتطرّف ومعاقبة قيادات تتبعه كما حدث في البرازيل ، وإبقاء الحقوق والولاءات الفرديّة في المرتبة الأولى،

ما يعني في الجزء الأول قيادات تحكمها مصالح الجماعة دون النظر إلى المستقبل ومصلحة الفرد باعتبارها " تتمتع بحصانة من العقاب أو المساءلة" فتسمح لنفسها باتخاذ قرارات تكسبها شعبيّة آنيّة وتلحق الضرر  بمستقبل شعوبها والأمثلة في شرقنا كثيرة، منها إيران الخميني وتونس وسوريا وغيرها، وفي الجزء الثاني مجتمعات يعرف كلّ من أفرادها حقوقه، ولا يتنازل عنها ويدرك أن الحاكم جاء لخدمته،

وأنه ليس وقودًا لثورة أو فكر جهاديّ أو توجّه سياسيّ جماعيّ عليهم من أجله إلغاء ذاتهم وقبول السرديّة التاريخيّة للقيادة دون فحص، وصولًا إلى اعتبار الشعارات بديلًا للحقائق، وألاكتفاء بسرد الوقائع والأحداث التاريخيّة دون التحقّق وفحص معانيها المستقبليّة، وعن هذا قال ابن خلدون في مقدّمته أن التاريخ ليس تجميعًا وتكديسًا للأحداث أبدًا. بل هو تمحيص وتدقيق، في صرخة واضحة نحو العلميّة في التاريخ، ودعوة صريحة لدراسة الأخبار والتصريحات والقرارات السياسيّة وفق مقياس العقل والبرهان، أي قراءة أحداث الماضي بعيون الحاضر والأهمّ قراءة أحداث ووقائع الحاضر بعيون المستقبل. وبكلمات أبسط: الغوص في بحر التاريخ والماضي دون الغرق فيه، بل بعيون ترى المستقبل.

 

 وهذا ما لا يحدث في شرقنا خاصّة وربما في إسرائيل أيضًا عبر تمترس وراء قيم وقرارات تؤكّد العزلة والتطرّف ورفض الغير وإقصائه وحرمانه من حقّه المدنيّ، فهل لنا أن نتبع قول ابن خلدون: "التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق"... وكذلك التصريحات والقرارات السياسيّة المحليّة والإقليميّة فهي تستوجب منا الفحص والتحقّق من جدواها وأهمّيتها وتأثيرها المستقبليّ.. بعيدًا عن الآنيّ ورغم كل ما قلته أعلاه فأعود إلى الأديب نجيب محفوظ : "التفاؤل يمنحك النجاح قبل اكتماله والتشاؤم يُذيقك مرارة الفشل قبل حدوثه. هي أمور نسبيّة أنت من يحسمها فقط" ومن المعروف أنه من الأفضل أن يكرهك الناس وأنت تُبين لهم الحقّ خير لك من أن يُحبّوك وأنت تزيّن لهم الباطل.

 

תגובות

מומלצים