تغيير المواقف بين الانتهازيّة والبراغماتيّة

على الرغم أن قواعد اللعبة السياسيّة العامّة ، منذ بداية الخليقة، أو منذ بداية السياسة، لا تعرف الثبات ولا الاستقرار، بل إنها تتغير متى سمحت المعطيات والظروف، وقرارات الجماهير حتى في الدول التي تتبجّح بالديمقراطيّة بذلك، عبر انتخابات برلمانيّة تغيّر من تركيبة القيادة ومواقفها

13.12.2025 מאת: المحامي زكي كمال
تغيير المواقف بين الانتهازيّة والبراغماتيّة

 

ورغم أن السياسة بتعريفها البسيط ولكن ربما الخطير،  هي فنّ الممكن بمعنى كون المرونة والبراغماتيّة والواقعيّة السياسيّة ضرورة حتميّة، وربما حلًّا أو طريقة للخلاص من تراكمات ومشاكل وقضايا سياسيّة قد تكون عالقة، أو نتيجة لقرارات فرضتها  التطوّرات على أرض الواقع  واستدعتها المرحلة، إلا أن الأسئلة ما تزال تطرح وبشكل حادّ، وبحقّ تامّ، حول أسباب ومسبّبات التغيير في مواقف عدد كبير من القادة والزعماء، خاصّة إذا كان هذا التغيير مناقضًا تمامًا لرايات التي رفعوها منذ سنوات، ولمواقف أكّدوا صراحة وجهرًا وعلنًا أنها مواقفهم الصامدة والصلبة التي لن يزيحوا عنها قيد أنملة. وهي أسئلة تتراوح الإجابة عنها بين اعتقاد  البعض، وبنوع من السذاجة في رأيي ، أن التغير في الموافق يكون عادة من نصيب  السياسيّ الذي يمارس السلطة، وتحديدًا بعد انتقاله من موقع المعارضة إلى موقع الحكم، وأنه حينها يصبح بحكم الواقع أكثر واقعيّة، بعد أن  يعرف حينها حقّ المعرفة الضغوطات والإكراهات التي تحتّمها الحلبة السياسيّة، وهي التي  كان فقط يسمع عنها، وأنه من موقعه الجديد  على سدّة الحكم  ينظر إلى الواقع بمنطق الممكن والمتوفّر والموجود وليس المنشود،

 

وكلّنا يذكر القول الشهير لرئيس الوزراء الأسبق أريئيل شارون، وسنعود إليه لاحقًا،" ما نراه من هنا، لا نراه من هناك". لكنّ الحقيقة الواقعة هي أن تغيير المواقف السياسيّة لا يأتي من فراغ، ولا يأتي  من تلقاء ذاته أو بوحي إلهي، بل إن السياسيّين يغيّرون مواقفهم عادة لأسباب يعتبرونها أولًا قبل غيرهم وجيهة، أو يمكنهم عرضها على إنها كذلك،  وبدوافع أبرزها ضغوط الواقع والتكيّف مع الظروف المتغيّرة، ومنها الأزمات الخارجيّة، أو الرغبة في تحقيق مصلحة ذاتيّة وربما البقاء في السلطة، أو كسب شعبيّة ما خلال فترة الانتخابات، أو  لمواجهة ضغوط داخليّة وخارجيّة والمثال على ذلك إعلان السلطة الفلسطينيّة مؤخّرًا مثلًا تشكيل لجنة لمراجعة مضامين كتب الدراسة بفعل ضغوط خارجيّة ونقاط معيّنة في خطّة دونالد ترامب،   لتحقيق وقف إطلاق النار في غزة، أو قرار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان السماح للمرأة السعوديّة بقيادة السيارة، والذي جاء  في حزيران 2018 وبعد نصف عام من حملة اعتقالات واسعة شنها النظام في السعوديّة طالت  49 شخصيّة بارزة في السعوديّة، بينهم أمراء ووزراء حاليّين وسابقين بتهم قيل إنها تتعلّق بالفساد،  وسط عاصفة من الانتقادات الدوليّة لقمع المعارضين واعتقالهم  كانت ذروتها مقتل جمال خاشقجي في أكتوبر من العام ذاته في تركيا، أ

 

و أنها تغييرات تتعلّق بالسمات الشخصيّة للقائد، ومنها مرونته وفهمه لطبيعة التغييرات كما حدث مع الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، أو بفعل إدراك السياسيّ ضرورة الموازنة بين  الأهداف السياسيّة مع المعايير الأخلاقيّة، ممّا قد يدفعه للخداع، أو تغيير المبادئ لتحقيق غايات منها الحفاظ على شعبيّته وتجنّب خسارة  التأييد كما في تغيير موقف بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيليّ  الذي كرّره في الأسبق من ضرورة تشكيل  لجنة تحقيق رسميّة في كل إخفاق أمنيّ وعسكريّ إسرائيليّ، وإصراره اليوم على لجنة تحقيق من نوع جديد، بعد إخفاقات السابع من أكتوبر عام 2023، أو لتجنّب خسارة الانتخابات، أو التعرّض للمساءلة القانونيّة والقضائيّة، أو بفعل تأثير النظام السياسيّ  وهو ما حصل في قضيّة حكومة التغيير وقبول رئيسها نفتالي بينيت بمشاركة حزب عربيّ هو القائمة العربيّة الموحّدة في الائتلاف الحكوميّ. وهو ما يعارضه اليوم، في تغيير يأتي لكسب الأصوات والتأييد الشعبيّ.

 

الأمثلة على هذا التغيير في المواقف السياسيّة كثيرة، لكن أبرزها ما شهدته منطقتنا عامّة وإسرائيل خاصة، في العقود الأخيرة من جهة وفي الأيام الأخيرة من جهة أخرى، وبداية مع التغيير التامّ في مواقف أريئيل شارون رئيس الوزراء الأسبق، والذي اعتاد التصريح أن لا حقّ لأيّ فلسطينيّ في الضفّة الغربيّة، أو غزّة وقبلها سيناء،  وأن لا مكان للحديث عن كيان فلسطينيّ،  بل أن الأردن هي الدولة الفلسطينيّة، لكنّه تغيّر تمامًا من حيث مواقفه ليعلن عام 2005 عن الانسحاب من طرف واحد من  قطاع غزة، بما في ذلك تفكيك كافّة المستوطنات اليهوديّة وإخلائها، والعودة إلى الحدود التي كانت قائمة عام 1967 وهو تغيير  أثار التساؤلات وعلامات الاستهجان، حتى أنه  اتُّهم بأن اعتداله  السياسيّ وتغيير مواقفه المتعلّقة بالشرق الأوسط والفلسطينيّين في غزة على وجه الخصوص كان نتيجة لقرار المستشار القضائيّ للحكومة آنذاك عدم تقديم لائحة اتهام ضده بسبب الشبهات الخطيرة التي أحاطت به والشكوك حول الفساد  بما يتعلّق بقضية الجزيرة اليونانيّة، وتحديدًا الشبهات حول تقديم أريئيل شارون المساعدة لرجل الأعمال المتديّن دافيد أبل، وتنظيم لقاءات بينه وبين مسؤولين يونانيّين منهم رؤساء وزراء في اليونان، لتسهيل عمليّة إقامة  مشروع سياحيّ في جزيرة يونانيّة اسمها باتروكلوس، مقابل استخدام نجله غلعاد شارون كمساعد ومستشار خاصّ في المشروع .

 

وهو نفس السؤال الذي تمّ طرحه  مقابل وبسبب  جهود رئيس الوزراء إيهود أولمرت، ومحاولته عبر مفاوضات مع رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عباس، التوصّل إلى تسوية سياسيّة تحصل فيها السلطة الفلسطينيّة على  96% من الضفة الغربيّة، بما في ذلك أجزاء من القدس الكبرى، من أجل إقامة دولة فلسطينيّة، وما إذا كان هذا التغيير ناجم عن التحقيقات الجنائيّة ضده بتهم الرشوة وخيانة الأمانة، في إشارة واضحة إلى أن تغيير المواقف الشخصيّة لرئيس الوزراء في إسرائيل، أو طبيعة العلاقة بين السياسة الاستراتيجيّة أو المواقف تجاه السلام والمصالحة وغيره تتعلّق  أحيانًا بالوضع السياسّي لرئيس الوزراء في إسرائيل  ووضعه القضائيّ،  وما إذا كان يخضع لتحقيق سريّ أو علنيّ، أو هل هناك لائحة اتهام ضدّه. وبالتالي يصبح فجأة شخصًا يريد زخمًا سياسيًّا أو يسعى إلى السلام بين إسرائيل وجيرانها وخاصّة مع الفلسطينيّين. وهذا السؤال الذي يطرحه كثيرون في الأيام الأخيرة إزاء التغييرات في خطاب بنيامين نتنياهو ومواقفه بعد تقديمه طلب وقف محاكمته للرئيس يتسحاك هرتسوغ استمرارًا لتوجّه خطّي بهذا الخصوص من الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب.

 

الأسئلة كثيرة ومعظمها تتّفق، أو تلمّح إلى  أن العفو الذي يسعى  إليه دونالد ترامب عبر رسالته الخطيّة  للرئيس هرتسوغ وقبلها التوجّه الشفهيّ خلال كلمته في الكنيست،  لم يأت من فراغ، وهو ليس من باب حسن النوايا، أو لفتة  تتسم بالإيثار يحاول ترامب من خلالها  مساعدة صديقه بنيامين نتنياهو، بل إنه جزء من خطّة متكاملة معالمها واضحة تشمل مواصلة تقريب المملكة العربيّة السعوديّة من الإدارة الأميركيّة على حساب إسرائيل، والتلميح لإسرائيل بضرورة إدراك المرحلة الحاليّة بما فيها عدم مواصلة هجماتها على جنوب سوريا، وتهديد إيران وأهميّة دخول المرحلة الثانية من الاتفاق في غزة والإشارة إلى أن  الدعم  التلقائيّ الذي منحته واشنطن  لإسرائيل دون شروط  قد انتهى، أو أنه أصبح غير مفهوم ضمنًا خاصّة وأن ترامب ألمح إلى أن هذا الدعم منح إسرائيل شعورًا بأنها فوق المساءلة ، وشجّع حكومة بنيامين نتنياهو على اتخاذ خطوات انتهت إلى تعزيز  عزلتها الدوليّة، وتراجع ثقة حلفائها التقليديّين، وانقسامات داخليّة خطيرة، وخسارة تدريجيّة للرأي العام الأميركيّ خاصّة بين الشباب والقاعدة الديمقراطيّة. وهو ما يعزّزه تغييرات بدت وطرأت على تصريحات نتنياهو الأخيرة، فهو يتحدّث علنًا وبعكس تصريحاته السابقة عن المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة والتي تنصّ على انسحاب إسرائيليّ تدريجي من القطاع، أي عدم البقاء على الخطّ الأصفر الحاليّ،

 

كما أنه لم يعد يردّد مقولته أن لا دور للسلطة الفلسطينيّة في مرحلة اليوم التالي،  كما أنه لا يريد  تفكيك السلطة الفلسطينيّة، بل يتحدّث عن وجود فلسطينيّين يريدون المستقبل في غزة، وفجأة يتحدّث عن رغبته في إحلال السلام وكون  محاكمته  تشكّل عبئًا يمنعه من تحقيق السلام مع دول أخرى، في إشارة إلى السعوديّة التي يعرف شروطها، وهي إقامة دولة فلسطينيّة، أو ضمان حلّ يؤدّي إلى إقامة دولة فلسطينيّة،  وربما كان تغيير مواقفه هذه يصل حدّ رفضه خلال النقاش حول ميزانيّة الدولة للعام القادم رفض مقترحات الوزيرين ماي غولان من الليكود والوزير إيتمار بن غفير وزير الأمن القوميّ، تقليص الميزانيات المخصّصة للمجتمع العربيّ، ونقلها إلى الشرطة وحرس الحدود، وربما إشارة بأنه لن يستبعد ائتلاف مع القائمة العربيّة التي سيترأسها النائب الدكتور منصور عباس، والتي ابتعدت عن انتمائها إلى الحركة الاسلاميّة والتي هدّد نتنياهو بإصدار قرار الحظر عليها وخطوات أخرى منها الحديث عن ضرورة لمّ الشمل داخل المجتمع الاسرائيليّ، وربما وقف الانقلاب القضائيّ  - الدستوريّ وغير ذلك، ناهيك عن تلميحات تتعلّق بسوريا تتحدّث عن الرغبة في اتفاق أمنيّ مع الجولاني، وليس نزعًا للسلاح في كلّ المنطقة الواقعة جنوبي دمشق وحتى الحدود في الجولان.

 

 

 هذا التغيير ربما غذّته نتائج زيارة محمد بن سلمان إلى واشنطن والتي انتهت إلى إعلان الولايات المتحدة السعوديّة حليفًا رئيسيًّا من خارج حلف الناتو.  وهو ما يمنح السعوديّة أولويّة لدى الأمريكيّين في كلّ ما يتعلّق بشراء الأسلحة والأنظمة المتطوّرة والحماية من المخاطر العسكريّة، إضافة إلى مذكرة تفاهم أخرى، اتفق الجانبان فيها على بناء  شراكة طويلة الأمد في مجال تطوير الطاقة النوويّة للأغراض المدنيّة، ومنح الشركات الأمريكيّة الأولويّة في بناء برنامج الطاقة النوويّة، وفوق ذلك سوف يستلم السعوديّون طائرات إف-35 الأمريكيّة في السنوات القادمة، وستكون جزءًا من حزمة دفاعيّة تشمل 300 دبابة أمريكيّة، بالإضافة إلى منظومتي الدفاع الجويّ ثاد وباتريوت ، مع الإشارة إلى أن بنودًا من الاتفاقيّات بين الطرفين لم يتم الإعلان عنها بعد،

 

وكلها أمور تعني أن ترامب نجح في تقريب السعوديّة الى قلب السياسة الأميركيّة، بل إلى قلوب الأميركيّين وجيوبهم، وأن يبعدها ولو قليلًا عن الحضن الاقتصاديّ الدافئ الذي وفّرته الصين لها خلال سنوات إدارة جو بايدن، إضافة إلى معناها الرئيسيّ،  وهو أن الأهم لدى ترامب هو ترامب نفسه ومصالحه، ولذلك يكرّر اليوم ما فعله في ولايته الأولى من تزويد لدول الخليج بما لذّ وطاب من الأسلحة ، مع إضافة  تركيا إلى القائمة هذه المرة، رغم العداوةالواضحة بينها وبين إسرائيل، ورفض اسرائيل القاطع لمشاركة تركيا في قوات حفظ السلام، أو وقف إطلاق النار في غزة وربما مؤقتًا لأن مصالح تركيا كما شهدتها من قبل أدّت إلى تقارب بين أردوغان ونتنياهو وحتى مكالمات مع رئيس الدولة حيث دائمًا المصالح تتغلّب على المواقف السياسيّة. 

 

 

وإذا كان ذلك لا يكفي جاء الثامن من ديسمبر، كانون الأوّل الحالي، ليشكّل مثالًا آخر صارخًا على أن تغيير المواقف والتوجّهات السياسيّة المعلنة، يأتي لتحقيق أهداف آنيّة وربما شخصيّة، بعيدًا عن التطوّرات على أرض الواقع، وتجيء الذكرى السنوية الأولى لاستلام أحمد الشرع، أو أبو محمد الجولاني للسلطة في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، لتثبت ذلك، فالتغيير في مواقف وطروحات الشرع يثير الأسئلة وخاصّة حول ما إذا كان حقيقيًّا، أم أنه يأتي لتحسين صورته في العالم والحصول على الشرعيّة الدوليّة والاعتراف الدوليّ وربما الصفح والغفران عنه، وقمّة ذلك الصفح حديثه أمام الهيئة العامّة للأمم المتحدة واستقباله في البيت الأبيض واللقاءات التلفزيونيّة المطوّلة معه ، ومطالبة ترامب لنتنياهو بعدم اتخاذ خطوات تمسّ بالجولاني وتمنعه من بسط نفوذه في الجولان وغيره، فهو تحوّل بسرعة فائقة من  جهادي ّمرتبط بالقاعدة  خصّصت أميركا 10 ملايين دولار لمن يلقي القبض عليه،  إلى زعيم سياسيّ هو أحمد  الشرع،  وتخلّى عن مظاهر الجهاديّة، وأصبح يردّد  خطابًا يتحدّث عن  الحكم والسياسة المحليّة  والرغبة في إعادة الاستقرار إلى سوريا ونبذ العنف وتجنّب التحالفات الدوليّة المتطرّفة، وذلك بمظهر ولغة أكثر غربيّة،

 

 

فهو يتحدّث علنًا عن الإصلاح  السياسّي، لكنه يتحكّم بكافّة المناصب في الدولة،  وبعد أن بادر إلى نظام حكم رئاسيّ تتمحور فيه السلطة التنفيذيّة بيد الرئيس الذي يعين الوزراء مباشرة دون وجود منصب لرئيس الوزراء.  ويعلن أن مواقفه تنصّ على منح الحريّات، لكنّه يقمع المعارضين في الساحل العلويّ ومنطقة السويداء وصحنايا، ويلوح بالحوار الوطنيّ شعارًا لكنّه يخصص له 6 ساعات فقط على مدار يومين ، خلال العام الأوّل لسلطته، ويصرح بصياغة دستور  انتقاليّ وتشكيل حكومة جديدة ، لكنّه لا يقرن ذلك بالفعل، بل يريد انتخابات فقط بعد خمس سنوات من اليوم، ويحاول عبر تعزيز مكانة رجال الدين السنة، ترسيخ حكم الفصائل الإسلاميّة،  ويتحدّث عن غزة وتحرير فلسطين لكنّه يؤكّد إصراره من جهة أخرى على أن لا تشكّل بلاده أيّ تهديد خارجيّ لأيّ دولة جارة، أو بعيدة. وعمليًّا يُمارس تضليل الشعب السوريّ على جميع أطيافه وعلى أمريكا التي ستتعرّف على الجهاديّ الذي لن يغيّر حاله طالما لم يغيّر بما في نفسه والذي لا يؤمن في الدمقراطيّة ولا في الحريّة ولا في الكلمة الحرّة، ولا في الأمن الشخصيّ.

 

 

 وعودة إلى قضيّة العفو الذي يطلبه نتنياهو أو بكلمات أدقّ، وقف محاكمته قبل نهايتها، ودون الاعتراف بالتهم المنسوبة إليه ودون ابداء الندم ،ودون أن يلتزم بالتنحّي من الساحة السياسيّة، وإزاء ردود رئيس الدولة يتسحاق هرتسوغ والتي يمكن تفسيرها على شاكلتين، أوّلهما أنه تعاطف مع الطلب، أو صمت يعني القبول، وثانيهما أنه خطوة ذكيّة تسمح بامتصاص غضب الجمهور  واهتمامه  قبل إصدار القرار، من منطلق إدراك هرتسوغ أن قراره أيًّا كان سوف يخدم نتنياهو ويشكّل سلاحًا في المعركة الانتخابيّة القريبة، فقبول الطلب يعني أن يستخدم نتنياهو ذلك لتكريس روايته حول كونه بريئًا ممّا نسب إليه، وتأكيد ملاحقته من جهاز القضاء والنيابة العامّة. أما رفضه فسيمكن نتنياهو  من استخدامه وبنفس الطريقة لإقناع ناخبيه أن الجهاز القضائيّ والإعلام ورئيس الدولة هم تحالف يشكّل الدولة العميقة التي تلاحق اليمين، وتريد إسقاط حكومته  عبر تهم ملفّقة بعد أن فشلت في ذلك عبر صناديق الاقتراع، أو أنها تريد منعه، وفق تصريحاته، من إتمام ترتيب أوضاع البلاد وتغيير مكانة الجهاز القضائيّ، وضمان الحوكمة وسلطة الدولة، وإدخال ترتيبات على عمل وسائل الإعلام، وجعلها في نظره أكثر مصداقيّة، وفي نظر معظم الإعلاميّين محاولة كمّ أفواهها، وترهيبها كنوع من التخويف وزرع الفوضى وتعميق النزعات الفرديّة والنزاعات والتوتّرات الداخليّة وحتى الكراهية والتنافر الداخليّ.

 

 

وهو ما وصفته  المؤلّفة حانا أرندت في كتابها " أسس الحكم الفرديّ"،  بأنه إثارة للدمار والفوضى، واحتقار لكل ما هو موجود، واستخدام العنف، وممارسة القوة بلا نهاية، وتضليل  عقول الناس من خلال الاضطهاد وتدمير الحقيقة، وتغذية مشاعر الاستياء والغضب الجماهيريّ، لتدمير  ما تم بناؤه على مدار عقود  وربما قرون   من التقاليد والأعراف  وتغيير القوانين التي تحميها، وربما المسّ جسديًّا بالناس، استنادًا إلى قناعة السلطة بأن ما يجمع الجمهور أكثر من حبّه للسلطة والحاكم، هو  كراهية الخصوم والغير، خاصّة إذا كان يمثّل ملامح  الثقافة والفكر والفرديّة،  عبر شبكة أكاذيب وتضليل يتم نسجها وتسويقها  لخداع الناس وحكم العالم، مع الإشارة إلى القول الصادر عن مستشار نتنياهو المعروف ناتان إيشل الذي قال إن ما يحرّك المصوّتين لنتنياهو من  اليهود الشرقييّن  هو كراهيتهم لليهود الغربيّين ، وبالتالي يجب مواصلة تغذية ذلك.

 

إضافة إلى ما سبق تتواصل التساؤلات حول ما إذا كان رئيس الدولة يملك أصلًا الصلاحية القانونيّة لمنح عفو لنتنياهو في ظلّ الظروف القضائيّة الراهنة، أي قبل إدانته، أو اعترافه بالتهم المنسوبة إليه وما إذا كان من الصواب والمناسب منح هذا العفو، وهناك علاقة لهذا السؤال بنصّ القانون الأساسي لرئيس الدولة لعام ١٩٦٤.

 

حيث وفقًا للمادة (11)(ب)  يملك رئيس الدولة سلطة العفو عن المجرمين وتخفيف الأحكام أو استبدالها، وبكلمات أخرى لا يملك رئيس الدولة صلاحية منح  العفو،  إلا لأولئك الخارجين عن القانون والمدانين فقط،  أو المعترفين بالجريمة المنسوبة اليهم وبالتالي، إذا منح الرئيس العفو كما طُلب، فسيُعتبر نتنياهو خارجًا عن القانون ومدانًا  ليس فقط من قِبل خصومه، بل وفق التعريفات القانونيّة الواضحة،  وإذا أخذنا بعين الاعتبار تصريحات نتنياهو السابقة، وكما يعرفها معظم مواطني دولة إسرائيل فنتنياهو  ليس مستعدًّا أن يُسجل في سجّلات إسرائيل بصفته خارجًا على القانون، خاصّة بعد أن أعلن وكرّر الإعلان عن أنه  ينتظر محاكمته لإثبات براءته،

 

ومع ذلك، ووفقًا للطلب الذي قدّمه نتنياهو، يبدو أنه مستعد لدفع هذا الثمن، أو بعضه للتخلّص  من المحاكمة الجنائيّة التي تُجرى ضده، وربما معتمدًا على ما يسمّى قضيّة الحافلة 300 والتي تمّ فيها العفو عن أعضاء جهاز المخابرات (الشباك) الذين اعترفوا بقتل شابين غزيّين اختطفا الحافلة، بعد أن تم الاعراب عن الندم وتنحّي  أبراهام شالوم  رئيس الشاباك والمتورّطين في جريمة القتل في حينه عن عملهم، علمًا أن محكمة العدل العليا قضت بأغلبيّة القاضي الرئيس مئير شمغار  ونائبته  القاضية مريم بن بورات، وبخلاف رأي القاضي أهارون باراك، أنه يحقّ لرئيس الدولة منح العفو حتى لأولئك الذين لم تتمّ إدانتهم بارتكاب جريمة لدى المحكمة، أو قبل إدانتهم، مع التأكيد على أنه لا يمكن تبرير منح العفو قبل الإدانة،  إلا في سياق العمليّة القضائيّة العاديّة، أو في ظلّ ظروف استثنائيّة تمامًا، ووجود مصلحة عليا للدولة، أو ظروف شخصيّة خارجة عن المعتاد، بل استثنائيّة جدًّا ولا حلّ آخر لها.

 


خلاصة القول، حتى لو تم استيفاء كافّة الشروط المتعلّقة بطلب العفو، ماذا سيكون الدرس، أو العبرة المستفادة إذا قبل رئيس دولة إسرائيل إصدار العفو، وانتهى الأمر عمليًّا إلى براءة رئيس الوزراء ً من التهمة وكأن شيئًا لم يكن، وذلك بعد أكثر من خمس سنوات من المسار القضائيّ وسنوات عديدة من التحقيقات، فيقينًا لن يجرؤ بعدها أيّ مستشار قضائيّ للحكومة على تقديم لائحة اتهام ضد رئيس وزراء أو حتى وزير  بوجود  شبهات جنائيّة دامغة تؤكّد ارتكاب جريمة خطيرة، وفي ذلك فتح للباب على مصراعيه أمام مظاهر الفساد السلطويّ وخيانة الثقة والائتمان وغيرها، والسؤال الأهم ورغم إعلان نتنياهو أن وقف محاكمته سوف يفتح الباب أمام إصلاح الفُرقة الداخليّة، هو وبصراحة: إذا كان نتنياهو وحكومته قد ارتكبوا كل ما ارتكبوه بحقّ الجهاز القضائي وحريّة التعبير والرأي وحرّاس العتبة وغيرهم في ظلّ محاكمة جنائيّة كهذه ، وفي ظلّ تضارب مصالح رئيس الوزراء، ومنعه من التدخل في شؤون وسائل الإعلام والمحكمة العليا،  فماذا ستفعل الحكومة  ورئيسها بعد إزالة هذه القيود وانتهاء المحاكمة والعفو عن رئيس الوزراء....

 

والإجابة واضحة للغاية أجارنا الله منها... وبالتالي فرئيس الدولة أمام قرار مصيريّ. ويبقى السؤال، هل يملك من الجرأة، وليس فقط السلطة لاتخاذ القرار الصحيح الذي يصبّ على المدى البعيد في إبقاء دولة اسرائيل ليبراليّة وديمقراطيّة، والحفاظ على سلطة القضاء وحقوق الإنسان وحريّته وواجب الشفافية والانصياع للقانون؟ قرار مهما كان لن تكون إسرائيل بعده كما كانت قبله، والسيناريوهات كلها مفتوحة على مصراعيها!!! ويظهر بأن ما قاله الفيلسوف فيكتور هوغو هو الصحيح "يغيّر الإنسان ملابسه مرّة بعد مرّة ليحافظ على نظافته، بينما يحتفظ بأفكار هي أشدّ اتّساخًا من ملابسه، والأغرب من ذلك أنه يدافع عنها"!!!.

תגובות

מומלצים