"كركيّ يتصقّر"

10.02.2025 מאת: احمد حسين عبد الحليم
 "كركيّ يتصقّر"

 

رمقة في خاطرة البروفيسور "كركيّ يتصقّر"
 


"عقلك سيرجع لك بالضّبط ما وضعته فيه"
 

 جيمس جويس

 

ولعمري أنّ ثمن  العقيق  الباهظ إلى قعقعة العقول الكبيرة لا يرقى.
 

ها نحن في حقول مراقي العلم والمعرفة نجول ،فقد أبدع وكم أبدع أ.د. لطفي منصور  في هذه الخاطرة الفلسفيّة ،نعم فهي  في فلسفة السّلوك أو الخُلق الدّينيReligious  Ethics،همّها إظهار حقيقة لا ينكرها أحد وهي أن  الدّين في جوهره رسالة سلام نقاء ومحبّة ينشرها العقل السّليم لتنتج مجتمعا سليما.


خاطرتنا المقرؤة هي نظرة  عالم نقديّة إصلاحيّة لمظهر ديني إجتماعي سلبي،هو ضحالة الفكر وخطورة الجهل الواقع فيه فئة من مشايخ الدّجل والتّجهيل وتأثيره لفادح  الخطير على عقول وفي نفوس النشئ الغضّ خاصّة والمجتمع عامّة.


لو دقّقنا في هذه الضّحالة كما وردت في الخاطرة فهي تأتي في ظاهرة تفسير الدّين من منظور التّخويف وتهويل الأمور ،في تعريف خاطئ يزجّ به في خانة المعلّم المعذّب والمعاقب الجسدي بدل من أن يُري ما فيه من هداية علم شاف ودراية تتجسّد في الإعجاز الذي بيّنه في آيات القرآن الكريم.


"كِرْكِيٌّ يَتَصَقَّر" هذا هو العنوان ااذي يحمل انصهارا لفظيّا ومعنويّا يطوي في جزالته بتكثيف بليغ جملة المعاني والأبعاد الفكريّة والفلسفيّة التي يرتئيها هدف الخاطرة،فهو لا يطرح تناقضا كما نشعر لأوّل وهلة من قراءته،وهو ليس في مقابلة الكركي بالصّقر بل في تعاكسهم ،بل وهو تهكّمي sarcastic فيه انعكاس لوكسة الأدعياء.


يتزيّن العنوان ببعد جماليّ لفظيّ وفكريّ،فيه تهكّم وسخريّة من جهل الكركيّ،ذلك الطّائر الضّعيف،ضعف يلقى صداه في الكركرة،ومن جهة أخرى فيه تتويج لهذا التّهكم  فالتّصقّر  من تصقّرَ على وزن تفعّل وهو معاكس لمعنى وتعريف الصّقر والتّطبع ليس بطبع بل هو عكسه في حقيقة الأمر،،إذا فنحن في نقد لاذع ساخر من كلّ من يحاول أن يتقنّع بغير حقيقته،وهنا تحديدا فئة شيوخ الرّجعيّة والجهل والتّجهيل.


اذا نحن في الفلسفة لأن القناع هو عكس الحقيقة وما دمنا في البحث عن الحقيقة فنحن في الفلسفة.


وهنا يأتي دور الأديب المفكر،والعالم المتبحّر فهم ورثة الأنبياء ألا يقولون ذلك؟ومن زبدة معاني العقّاد في كتابه المدهش "عبقريّة محمّد"قوله"قلّما تزول أمّةيقظى في آوان انتباهها"،وهنا تنبيه مزلزل من علّأمة  الآوان الفذّ لطفي منصور،فهو ينثر تبر علمه 
ويغدق بسخاء  متحمّس في كل نصّ إصلاحيّ  أدبيّ له زخات من سماوات الفكر واللّغة يجمعها أضمومة أدب عابقة في سطور تكاد لا تتعدّى بضع صفحات أو أسطر لكنّها تتأبّط طاقة لغويّة فكريّة بها تتعدّى جدران الزّمن.نصوص جلّها جاءت من تجارب عاشها وعايشها على أرض الواقع  بالتّفاصيل المفصّلة والوقائع الدّامغة فأبى ألّا ينصهر فيها روحا وعلما ليخرج منها خلاصة حياة يبلورها في مواقف وكتابات خالدة،تركها لنا  لقمة من حكمة مستساغة للأجيال ومن خيرها نسحق الجهل المحال.وهو القائل في خاطرته:"


التّجارِبُ هي التي تَحُكُّ الإنْسانَ فَيَنْكَشِفُ مَعْدِنُهُ، هناكَ كثيرونَ يَدَّعونَ الْعِلمَ والمعرِفَةَ، ويَنفونَها عَنْ غَيْرِهم، فَتَراهُم في المجالِسِ يحاوِلونَ السَّيْطَرَةَ عَلَى مَجارِي الكَلام، يَتَلَقَّفًًونَ الكَلِمَةَ وَيَسْتَأْثِرونَ بالرَّدِّ الْمُباشَرِ، دُونَ رَوِيَّةٍ أَوْ تَفْكيرٍ، وَيُلْقونَ الكَلامَ عَلَى عَواهِنِهِ، وَإنْ حاوَلْتَ إصلاحَ خَطَإٍ شاخصٍ لا مِرْيَةَ فِيهِ، تراهمُ انتَفَضُوا وَانتَفَخَتْ أوْداجُهُمْ، وَاحْمَرَّتْ عُيونُهم كَأَنَّهُمْ أَصابَهُمْ مَسٌّ مِنَ الشَّيطانِ، "قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنَّى يُؤْفَكون". "
مسخ وتوبيخ من علّامة يعرِف ويعرّف ويجرف  غرفا من جعبة تجاربه في الحياة لأدعياء جهلة تجرف في عجالة ثرثراتها الخاوية من سلال الحمق  الرّثّة.  هو يعرّف بالحق والخير والجمال وهم يتوارون وراء أقنعة الدّجل والهباء تماما كما يذوب في نور الشّمس ظلام الأنفاق..


نعم هو درس يعلّمه مفكّرنا للمتطفّلين بل لطفيّليي العلم والمعرفة من شيوخ وخطباء يعدمون  أسس الخُلق والمعرفة اللّغويّة الحَريّة بمركزهم ومكانتهم الإجتماعيّة الدّينيّة الإرشاديّة.نعم هي آفة الدّين والمجتمع هذا الفكر الرّجعي المتسلّق الزّاحف على جدران الأوهام والبدع.انظر قوله:


"وَإِنْ سَأَلْتَهُمْ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هذا؟ أيْنَ قَرَأْتَهُ وما هُوَ مَصْدَرُكَ؟ شاطَ وماطَ وطاشَ وَغاظَ وَقَالَ مُتَشَدِّقًا: مِثْلي لا يُسْأَلُ، يُعْطِي مَعْرِفَةً، ولا يَأخُذُ، أَنْتُمْ تَأْخذونَ عِلْمَكُمْ مَيْتًا عَنْ مَيْتٍ، وَأَنَا مِمَّنْ هداهُ اللَّهُ إلى عِلْمِهِ. وفِي كثيرٍ مِنَ الأحْيانِ تَجِدُ لَهُ زُمْرَةً جاهِلَةً يَنْصُرونَهُ، ويَشْهدونَ له بالدِّرايَةِ والتَّفَوُّق.


وأكْثَرُ ما تَرَى أمْثالَ هذا الشَّخْصِ مُتَرَبِّعينَ في بُيوتِ الأَجْرِ والْعَزاءِ، وَقَدْ ارْتَفَعَ صَوْتُ الواعِظِ فَوْقَ كُلِّ صَوْتٍ بِعُِنْفٍ شَديد، يُحَطِّمُ قَواعِدَ اللُّغَةِ بلْ يُخْرِجُها من سِياقِ الأدَبِ، يتلو آياتِ القرآنِ كما يَشَاءُ، وَيِفَسِّرُها كما يَرْتَئي، أمّا الأحاديثُ النَّبَوِيَّةُ فَحَدِّثْ عَنْها ولا حَرَجَ، يَخْتَلِطُ فيها الْحابِلُ بالنّابلِ. ويصيحُ الشَّيْخُ وقدِ اعتَقَدَ أنَّهُ عالِمُ الأِمَّةِ، لا يُشَقُّ لَهُ غُبارٌ. "


كفى بهم  جلدا معنويّا من قلم اكتشفته أنامل الدّراية التّاريخيّة والتّدقيق في المخطوطات العصيّة على أساطين البحث العلمي الجادّ.أستاذنا ترجّل في ميدان العيش ومزج معرفته بالتّجربة وأشهر آراءه التّقدّميّة في وجه الخزعبلات الهيستيريّة التي سمح بها الزّمان السّيء في ظروفه التّنازليّة فظهرت فقاعات الكذب والبهتان الفاسدة تبهر القلوب الدّانية من الأفكار السفليّة.نعم في زماننا الفاسد هذا ارتفعت الماديّة انكسرت انحسرت وانحصرت  الرّوحانيّات  فصال وجال علم الدّجال.لا ينكر أحد رضوخ عديد من شيوخ الأخطاء اللّغويّة لعلاجات نفسيّة تسبّبها النّرجسيّة.وفيّ العطب النّفسي هذا الذي تجرّأ فيه عقوق العلم ولسان الزّيف  أن يقول كما كتب حضرة البروفيسور مستطردا:


"أمّا الكُلِّياتُ والجامِعاتُ فَلا توليها هَذِهِ الْفِئَةُ أيَّ اعتبارٍ، فهم يطعنونَ بها، ويعتبرونَها مراكِزَ لِلَّهوِ ولِقاءاتِ الغرام. وتد واهن أساسه صدئ غايته "التّجهيل" ونشر الجهل  في حثّ وضيع نحو غايات سياسيّة أو اقتصاديّة لقوقعة وضعضعة المجتمع والسّيطرةعلى العقول الجيوب والأفراد أنفسهم،وهنا يستشيرني قول العقّاد في كتابه "عبقريّة محمّد حين قال:"إلا أنّ الإنسان ينفر مما يصدمه في مألوفاته وموروثاته ولو صدقه وقام لديه ألف برهان عليه"،نعم شيخ علمائنا منصور يرث فكرا دينيّا نهضويّا من شيخ عالم غاص في تفاصيل الإسلام والنّبوة يحارب فيه أيادي الإثم الفكري الجائرة الغائرة في مهاوي الخيبة لا محالة.
هذا هو ما نُشاهِدُهُ اليَوْمَ مِنَ المشايِخِ الْجُدُدِ والمتمشيِخينَ. ورُوّادِ المساجِدِ لَيْلًا. فَأيُّ تربيَةٍ يتلَقَّى النشْءُ الصِّعارُ عِنْدَنا وهم يسمعونَ "أحاديثَ" عذابَ القَبْرِ، وَقِصَصَ ناكِرٍ وَنَكير، وكيفَ تَجُرُّ الملائِكَةُ البشَّرَ بَعْدَ النُّشورِ إلى جَهَنَّمَ بِالْكَلاليبِ، ناهيكَ عَنْ قِصَصِ الرُّعْبِِ والأهوالِ التي تَقُضُّ مضاجِعَ أطْفالِنا، فيقتَنِعُ كثيرٌ منهم أَنَّهُمْ مُذْنِبونَ، فَعَلَيْهِم أنْ يَعْتِقُوا  أنفسَهُم مِنَ النّار."


نار جهل  على عشب جهل جافّ تأكل الأخضر واليابس،حتى تأتيه زخّات الوعي والتّوعية،من صرخة صقر للعلم هو حارس فيقول:

"نَسِيَ هؤلاء المتلبِّسونَ بثِيابِ التَّقْوى وظَنُّوا أنَّهِم عُلَماءُ قَوْلَ الشّاعِرِ؛
إنَّ الزَّرازيرَ لَمَّا طارَ طائِرُها
           تَوَهَّمَتْ أَنَّها صارَتْ شَواهِينَا
اقتباس وشاهد لم يأت عبثا ولا قصدا عاديّا بل جاء  بعد تروّ وتأمّل عميقين وبعد بحث وتدقيق  في اختيار رصين أنيق،فقد ارتأى أستاذنا وضع  مَثلَ الطّيور،والطّيور رمز الحرّية،وهنا الفكريّة .فيه مقارنة بين القوّة والضّعف،الجمال والقبح،العلوّ والدّنو وأخيرا الحقيقة والوهم.فلا يخفى عن القارئ أنّ التّشبيه جاء للتّحقير فقد شبّه أستاذنا المتمشيخين  (الجهلاء كما قال عنهم) بالزّرازير الواهنة الصّغيرة  فكريّا وشبّه علماء النّورانيّة والتّنوير بالشّواهين العالية المحلّقة  فكريّا.
هذا التّشبيه له نكهة ووقع خاص كون الفلك الدّائر فيه هو الفلك المنشود  للحريّة والآفاق غير المحدودة  للعقل ،ينادي بها كل عالم عاقل يرجو لمجتمعه  قيادة عاقلة تقدّس دور العقل في إدارة المجتمع.


صقرنا  المقعقع "يزأر "من صوت ثقته العلميّة بشهادة صادقة من أدب رفيع وفكر شفيع يرفع الخوف وينمّي جذور الإيمان "الباني لا "الفاني "الهادم لنفوس الأجيال الآتيّة فيقول:
"أمّا اللَّهُ فهو غَيْرُ ما يَقُولُ الجَهَلَةُ. هو خالِقُ الْبَشَرَ وهم عِبادُهُ وهو أرحمُ بِهِمْ من هؤلاءِ المشعوذين
فاللَّهُ هُوَ الرَّحيمُ الرَّحمنُ الودودُ، السّلامُ الْمِقَةُ، إلهُ الْحُبِّ والجَمال وكُلِّ شَيْءٍ طَيِّبْ. فَإلَى هؤلاء الذينَ يجهلونَ الْحضرَةَ الإلهيّةَ الذي خَلَقَ هذه الدُّنْيا خَلَقَها للتحابُبِ والسّلام والوئامِ والسَّعادَةِ والصَّفاء، أقولُ لهم اذهبوا أنتم وكتُبُكُم الصَّفراءُ إلى كوكَبٍ آخَرَ لَعَلّكم تهتدونَ، واتركوا لنا كَوكَبنا فَإنّا بِهِ راضون."


ونرجع إلى الأقتباس في مقدّمة الرّمقة فنرى أنّ جويس الكبير  الخبير في خفايا النّفس البشريّة، كما أثبت  ذلك في كتاباته المتميّزة أسلوبا وعمقا  يضمّ نظرته إلى نظرة البروفيسور منصور محدّدين " الغلّة" و"الغنيمة"البشريّة الفكريّة التي هي الحقيقة الماثلة دون اهتزاز في مهب الجدالات والنّقاشات الأدبيّة والفلسفية في جملة واحدة هي: كما تفكّر تعيش،أي كما تفسّر الأمور  تأتي مواقفك،وأستاذنا يفكر بمنهج العقلانيّيّة والرّحمة فنعبد إلإله  الهادي الرّؤوف  ،ونأخذ من الدٍين عونا لنفوسنا في  خوض غمار الحياة ويفسّر الجهل بالغباء وينهى عنه،فيسطع نور العلم دليلا للنّجاة.

 

 

آمال ابو فارس المربية الاديبة والشاعرة, المسؤولة عن زاوية المنتدى الثقافي. يمكنكم الاتصال بها  Amlabo@walla.com او على هاتف 0549026108

תגובות

מומלצים