هكذا انْطَفَأَ نُورُ الْقَلْبِ

20.10.2020 מאת: بروفيسور لطفي منصور
هكذا انْطَفَأَ نُورُ الْقَلْبِ

 

أ.د. لطفي منصور
هكذا انْطَفَأَ نُورُ الْقَلْبِ:
(قِصَّةٌ قَصِيرَةٌ)
التَقَيْتُ مَصادَفَةً مَعَ زّميلٍ قَديمٍ لي هو الدُّكتور أحمد سالم (هلال). تعانقنا رَغْمَ أنفِ الكورونا، وجلسنا في مَقْهَى Roladen في مُجَمَّع رنانيم، وبعدَ التَّحَدُّثِ عَنِ الأحْوالِ الْخاصَّةِ والعامَّةِ لاحَظْتُ قَلَقًا يَبْدُو عَلَى وجُهِ صَديقي، فَسَألْتُه عَنِ سَبَبِ هذا الوجوم. فقالَ أَنْتَ الوحيدُ الذي أستطيعُ أنْ أُفْضِي إلَيْهِ ما بِداخِلِي. قَالَ:

في لَحْظَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ، في دائرَةِ الذّاكِرَةِ التي ليستْ بالبعيدَةِ، وفي غَفْلَةٍ مِنِ انْشِغالِي في إنهاءِ بَعْضِ كُتُبِي دَقَّ جَرَسُ هاتِفِي الْمَحْمولِ، لِيَقْطَعَ عَلَيَّ حَبْلَ أَفْكارِي، وَقَبْلَ أنْ أُنْهِي عِبارَتي التي كُنْتُ أَخُطُّها تناوَلْتُ الهاتِفَ تِلْقائِيًّا وَأَجَبْتُ؛
- نَعَمْ!
- أستاذ هِلال أنا سَعْدا، هل ما زِلْتَ تذكرُني؟
رَجَعْتُ بِذاكِرَتي إلَى عِقْدَيْنِ أو أكْثَرَ، صَحيحٌ أَنَّني عَرَفْتُ طُلّابًا بِأسْماءِ سَعْدٍ وَأَسْعَدَ وسعيدًة. أمّا سَعْدا فَلَمْ أذْكُرُ تمامًا.
لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ عَلَيَّ أنْ أتَذَكَّرَ طالبّةً أو طالبًا مِنْ بَيْنِ آلافِ الطُّلابِ الّذينَ دَرَسُوا العربيَّةَ عَلَى يَدَيّ في مراحلِ التَّعْليم كُلِّها، اللَّهُمَّ إلّا اللّامِعينَ منهم الذين حَفَروا خُطوطًا في ذاكِرَتي، لا سِيَّما وَأنا أخوضُ في بَحْرٍ مِنَ المَخْطوطاتِ مِنْ حَوْلِي،
- ساعِدِيني مِنْ فضلِكِ عَلَى التَّذَكُّر.
- أنا مَنْ كُنْتَ تَنْعَتني بِمَشْروعِ قِصَّة.
وكَأَنَّي سَحَبْتُ شَريطًا مِنْ ذاكِرَتِي، لاحَتْ فيه  وانتصَبَتْ صُورَةُ طالبَةٍ، كانَتْ تُبْدِي نَشاطًا واهتِمامًا في دُروسي، وَتُصِرُّ أنَ تكونَ بارًِزَةً مِنْ بَيْنِ أفْرادِ فِقَتِها.
- نَعَمْ تَذَكَّرْتُكِ يا سُعادُ، عَفْوًا يا سَعْدا كيفَ أنتِ؟
-  أنا وعائِلَتِي بِخَير، أريدُ مِنْكَ خِدْمَةً أستاذي قَدْ تَكونُ ثقيلَةً عليكَ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَلَوْلا أنِّي كُنْتُ طالبَتَكَ لَتَحَرَّجْتُ كَثيرًا في التَّوَجُّهِ إلَيْكَ، لِأني أعْرِفُ أنََكَ مَشْغولٌ دائِمًا في تَحْقٍيقِ الْمَخْطوطاتِ وَغَيْرِها مِنَ الأَبْحاثِ، لَكِنِّي أعْرِفُ كِبَرَ إنْسانِيَّتِكَ وَتَقْديرَكَ لِطُلّابِكَ فَتَجَرَّأْتُ أنْ أعْرِضَ عَلَيْكَ طَلَبِي.
الْتَحَقْتُ أُسْتاذِي هذا العامَ بَجامِعَةِ بار إيلان - التي دَرَسْتَ أنْتَ بِها لِلَّقَبَيْنِ الأَوَّلِ وَالثّاني كما كُنْتَ تُخْبِرُنا في دُروسِكَ - لِأدْرُسَ لِلَّقَبِ الثّاني الماجِستير. وَأُحِبّْ أنْ يكونَ مَوْضوعُ اُطْروحتِي تَحْقيقَ مَخطوطَةٍ في الدِّراساتِ الإسْلامِيَّةِ، وعندَما راجَعْتُ المسْؤولينَ في قِسمِ الدِّراساتِ الشَّرقيَّةِ بِرَغْبَتي هذه، اعْتَذَروا أوَّلًا، ثُمَّ تراجععوا عِنْدَما ذَكَرْتُكَ، واشترطوا أنْ تكونَ أنْتَ مُرْشِدي في كتابَةِ الأطْرُوحَةِ. فَهَلْ لَكَ أنْ تُساعِدَ طالِبَةً لكَ اتَّخَذَتْكَ مَثَلَها الأَعْلَى في الدِّراسَةِ؟

- أدْهَشَتْنِي سَعْدا بِهَذا الطَّلَبِ. فَوُلوجِ تحقيقِ المخطوطاتِ عَمَلٌ واسِعٌ وَمُتَشَعِّبٌ، هو كَسَعْيِ النَّمْلِ. فَقِراءَةِ المخطوطَةِ في الأدَبِ القديمِ لَيْسَ بالأمْرِ الهَيِّنِ، لِأنَّ القراءَةَ معناها الفَهمُ، وهذا يَحتاجُ إلَى خَلْفِيَّةٍ عِلْمِيَّةٍ واسِعَةٍ لها صِلَةٌ بِمَوْضُوعِ الْكِتابِ، وَما يَدورُ حَوْلَهُ، ثُمَّ معرِفَةُ مصادِرِ الكاتِبِ وضَبْطُ اللُّغَةِ والتَّشْكيلُ التّامّ. والأصعبُ من ذَلِكَ كتابةُ دراسَةٍ تتناولُ العَصْرَ الذي عاشَ فيهِ المؤلِّفُ وشيوخُهُ ومنهجُهُ في الكتابَةِ، وأسبابُ تَأليفِهِ للكتابِ، والشَّخْصِيّاتُ التي تظهر في الكتاب، وبيانُ القيمَةِ العلميَّةِ والأدبيَّةِ والتّاريخيَّةِ لِلْكِتاب، وإسهامُهُ للمكتبَةِ العربيَّةِ.

وَلا يَخْفَى عَلَيْكَ فَأَنا أعْرِفُ مُستَوَى طُلّابِنا في الكلِّيّاتِ والجامعاتِ. فهم يقرأون للامتحانِ لا غَيْرَ، ثُمَّ يَنسَوْنَ ما يَقْرَأون.
- اِخْتارِي مَوْضُوعًا أَسْهلَ مِنَ الأدَبِ الحديثِ مَثَلًا.

- أَنا مُيولي أستاذي إلَى الأدَبِ القديمِ، وخاصَّةً الدِّراساتِ الإسلاميَّةَ، وهذا حُلُمِي، وَأَنْتَ قُدْوَتي، فَلا تَحْرِمْنِي.
نَطَقَتِ الجُمْلَةَ بِصَوْتٍ أجَشَّ كَحَشْرَجَةٍ الحُنْجَرَةِ من دُموعٍ حَبَسَتْها بَيْنَ أجْفانِها، هكذا فَهِمْتُ من تَغَيُّرِ صَوْتِها.
- إذا كانَ الأمْرُ هكذا فَأنا موافِقٌ. عليكِ أنْ تُكْمِلِي الإجراءاتِ الجامعيَّةَ، وسَأُرْسِلُ لقسمِ الدِّراساتِ العُلْيا موافقتِي أنْ أُرْشِدَكِ في كِتابَةِ الرِّسالَةِ الجامعيَّةِ. وسَأَلْتَقِي مَعَكِ في مكتبَةِ الجامِعَةِ في مَوْعِدٍ لاحِقٍ لِأعْرِضَ عليكِ أيْسَرَ مَخْطوطَةٍ عندي
وَهِيَ بِنُسْخَتَيْنِ.

اخترْتُ للطّالبةِ سَعْدا مخطوطَةً مِنَ الأَدَبِ العَربيِّ الجميل كنتُ قَدْ حَقَّقْتُها وَلَمْ أنْشُرْها، وَهِيَ لِمُؤلِّفٍ مِنْ عَمَالِقَةِ المؤلِّفينَ هو عبدُ الرَّحمنِ السُّيوطي، لَمْ تَخْرُجْ إلَى النُّور، لَمْ يَمَسَّها بَنانْ، وَلَمْ يَتَذَوَّقْها لِسانْ. مِنَ الأدَبِ الرَّفيعِ عُنْوانُها “كِتابُ فَضْلِ الدِّيكِ”. نَحْنُ نعرِفُ السُّيوطِيَّ المِصْرِيَّ كَأحَدِ المفسِّرينَ الكبارِ، وتفاسيرُهُ مَعْروفَةٌ، ونَعْرِفُهُ أيْضًا كجامِعٍ لِلْحَديثِ النَّبَوِيِّ الشَّريفِ، وكَمُؤرِخٍ مَشْهور. أمّا كَأدِيبٍ فَقِلَّةٌ من يعرفونَ ذَلِكَ، وأخُصُّ مَقاماتِهِ الرّائِعَةَ.

الْخَطُّ جَميلٌ في المَخْطوطَتَيْنِ ومَقْروءٌ. وفي مقابَلَتي الأولَى لِلطّالِبَةِ - بَعْدَ انْهاءِ الإجراءاتِ وَقَبولِ قِسْمِ الدراساتِ العُلْيا المَوضوعَ رِسالَةً جامعيَّةً لنيلِ اللَّقَبِ الثاني - وَضَعْتُ أمَامَها بَرْنامَجَ العَمَل مطبوعًا وواضِحًا، يَبْدَأُ بِقِراءَةِ النُّسْخَةِ الأكثَرِ وُضوحًا والْمُعْتَمَدَةِ كَلِمَةً كَلِمَةً، وتَطْبَعُها عَلَى الحاسوب، وتُقارِنُها مَعَ النُّسْخةِ الثانيةِ كما هو جارٍ في تحقيقِ المخطوطات. ثُمَّ اتَّفَقْتُ مَعَها أنْ ترسِلَ لي بالبريدِ الألكتروني كُلَّ عَشْرِ صَفَحاتٍ تُنْجِزُها لِأرَى صِحَّةَ الْعَمَلِ وَدِقَّتِهِ.
مَضَى شَهْرانِ عَلَى بَدْءِ العَمَلِ، وَإذا بِالصَّفَحاتِ الأولَى تصِلُني وَهِيَ أقَلُّ مِنْ عَشْرٍ بِقَلبلٍ .

وَيا وَيْلَتي يا صَديقي لِما رَأَيْتُ!! أخطاءٌ في النَّقْلِ وفي الضَّبْطِ والتَّشكيل. والاختلافُ بَيْنَ النُّسْخَتَيْنِ غيرُ موجودٍ. معَ أنَّها أرسلتْ لي أكْثَرَ من عشرينَ رسالةً منها رسائِلُ عاطِفِيَّةٌ، أوْ مُسْتَهَلَّةٌ بِعِباراتٍ عاطِفِيَّةٍ مِثُلِ:
حَياتي... مُهُجَتي.. يا روحِ الرُّوح، أعْشَقُكْ. أَنْتَ أمَلِي، ولَوْلاكَ لَضِعْتُ ...
ثُمَّ أخَذَتْ تَطْلُبُ مُساعَدَةً بِدُروسٍ أُخْرَى بالعربيَّةِ والعبريَّةِ معَ شَلّالاتٍ مِنَ العباراتِ التي تُقالُ بَيْنَ العاشقينَ. فَهِيَ تمتلِكُ قاموسًا من هذهِ الألفاظِ المُغْرِيَةِ.
ذَكَرْتُ الْحَوْقَلَةَ:(لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا باللّهِ العَلِيِّ العظيم)ثُمَّ قُلْتُ: ألم يَخْطُرْ بِبالِكَ أنَّكَ وَقَعْتَ بَيْنَ يَدَيْ “طالِبَة” لَعوبٍ تَبْتَزُّ مُعَلِّمَها لِتَحصُلَ عَلَى رِسالَةٍ علميَّةٍ لدرجةِ الماجستير، وكثيرًا من الواجباتِ الدَِراسيََِةِ، ثُمَّ تَفوزُ بدرجةِ الماجستير، ولم تَعْمَلْ شَيْئًا مِنَ الواجباتِ الدِّراسِيّة؟
- نَعَمْ. عَرَفْتُ هذا منذُ البِدايَةِ، وحَضَّرْتُ كِتابًا لِأرْسِلَهُ إلَى قِسْمِ الدِّراساتِ العُلْيا أعْلِمُهمْ بِانسحابي مِنْ مُهِمَّةِ الإرْشادِ، وَأَنَّ الطالبَِةَ لَيْسَ لَهَا المقدرَةُِ الْعِلْمِيَّةُ لِتَكْتُبَ أطْروحَةً كَهَذِهِ. فلما عَلِمَتْ بِالأمْرِ جُنَّ جُنونُها، وَأصابَها مَرَضُ الْهَذَيان، وَأخَذَتْ تَتَوَسَّلُ وقالَتْ لِي: أُقَبِّلُ خُطَى قَدَمَيْكَ، فغَضِببْتُ مِنَ نَفْسِي واستصْغَرْتُها، لِأنِّي سَبَبٌ لهذا الإسفافِ وهَدْرِ كَرامَةِ طالبَةٍ لِي. مَزَّقْتُ الكتابَ وَاتَّصَلْتُ مَعَ الطالِبَةِ طالِبًا الإقْلاعَ
عَنِ الكتابَةِ رَيثَما يَصِلُها بريدي الألكتروني، وأخبرتُها بالأَمرِ وكانَتْ عَلَى وَشَكِ إنهاءِ دراسَتِها.
وَصَلَها كتابي مَعَ التحقيقِ الْكامِلِ، فحَوَّلَتْهُ إلَى أطروحةٍ جامِعِيَّةِ، بعدَ إضافاتٍ يَسيرة.
وَهَكَذا أنهتِ الطالبَةُ دراسَتَها.
- لَوْ كُنْتُ مكانَكَ لَأرسَلْتُ الكتاب  وَلَمْ أُمَزِّقْهُ، وَأَنَا أعْرِفُكَ يا صَديقي أنَّكَ رَقيقُ العاطِفَةُ، فلا بُدّ
أنَّكَ بادَلْتَها عاطِفَةً بِعاطِفَةً بِعاطِفَةٍ، وَعِشْقًا بِعِشْقٍ، فَرَقَّ لَهَا قَلْبُكَ وَمَنَحْتَها ثَمَرَةً ناضِجَةً مِنْ ثمارِكَ الزَّكِيَّةِ.
- لَمْ يَهُمُّنِي كتابٌ أَوْ ما يهُمُّنيِ أنّها قَطَعَتْ كُلَّ صِلَةٍ مَعِي. وعندَما سَأَلْتُ أحَدَ الطَّلَبَةِ عَنْها قَالَ:

هناكَ مَنْ يَقُولُ إنَّها سافرَتْ مَعَ الرِّيح، وَآخَرُ يَقُولُ: رَكِبَتِ الشَّمْسَ وَسافَرَتْ إلَى أسْتُراليا، وثالثٌ يَقُولُ: رَأيْتُها في جامعةِ حيفا تخرجُ مِنَ مكتب بروفيسور غَزال في قِسمِ الدّراساتِ العليا.
فعرَفْتُ أنّها تُفَتِّشُ عَنْ مَطِيَّةٍ أُخْر ى لدرجةِ

الدّكتوراة.
فَرَدَّدْتُ بيني وبينَ نَفْسِي قَوْلَ الشّاعِر عِنْدَما انْطَفَأَ النُّورُ:
فَإنَّما هِيَ ريحٌ لَسْتَ تَضْبِطُها
       إِذْ لَسْتَ أَنْتَ سُلَيْمانَ بنَ داودِ

 

آمال ابو فارس المربية الاديبة والشاعرة, المسؤولة عن زاوية المنتدى الثقافي. يمكنكم الاتصال بها  Amlabo@walla.com او على هاتف 0549026108

 

תגובות

מומלצים