علاقات إسرائيل والولايات المتحدة بين التبعيّة والاستقلاليّة
ليس سؤالًا جديدًا، إنه سؤال يتكرّر كثيرًا، خاصّة في حالات الحرب والطوارئ التي ترافق هذه المنطقة منذ مئة عامٍ تقريبًا، عبر حروب متكرّرة ومواجهات عسكريّة لا تعدّ ولا تحصى، وتوتّرات متزايدة خاصّة منذ أربعينيّات القرن الماضي، وبشكل خاصّ بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948.
سؤال يتطرّق إلى طبيعة وأسباب ودوافع تلك العلاقة الخاصّة والمميّزة بين إسرائيل والولايات المتحدة، وملخصه خاصّة منذ العام 1967 من يقود من، وهل تلك إسرائيل عبر مؤيّديها ومريديها من اللوبي اليهودي إيباك، هي التي تقود السياسة الأمريكيّة الخارجيّة خاصّة، أي أن أميركا دولة تُقاد من قبل اليهود ومؤيّديهم داخلها، أم أن العكس هو الصحيح،
وهو أن الولايات المتحدة هي التي تقود إسرائيل، وأن إسرائيل تأسّست لأسباب تتعلّق بمصالح الإمبرياليّة الغربيّة. ووجودها قائم، لأن الولايات المتحدة تريده، فإسرائيل بحسبه محتاجة إلى الولايات المتحدة، لكي تبقى على قيد الحياة، والولايات المتحدة تحتاج إسرائيل لكي تبقى في المنطقة، وأنه لم يكن بإمكان إسرائيل أن تظهر كدولة، وتكون قادرة على التطور كدولة عسكريّة مُجهّزة بأقوى الأسلحة لولا دعم واشنطن التي لا تملك، ربما حتى اليوم،
دولة أخرى أفضل من إسرائيل يمكنها الاعتماد عليها لتحقيق أطماعها ومصالحها في الشرق الأوسط، وفق اعتراف الرئيس الأميركيّ السابق جو بايدن، عندما كان نائبًا للرئيس السابق باراك أوباما عام 2013 في اجتماع لمنظّمة يهوديّة، حيث قال "لو لم تكن هناك دولة إسرائيل، لكان علينا أن نخترعها للتأكد من حماية مصالحنا". معترفًا بذلك علنًا وصراحةً باستحالة هيمنة الولايات المتحدة على المنطقة دون إسرائيل، لكنه سؤال تزداد حدّته أيام الأزمات والحروب.
أما الجديد هنا فهو أن هذا السؤال الذي تردّد دائمًا على لسان العالم كلّه والعرب والفلسطينيين خاصّة، أصبح اليوم وللمرّة الأولى يتردّد علنًا وعلى رؤوس الأشهاد، على ألسنة الإسرائيليّين عامّة والسياسيّين والإعلاميّين خاصّة، على ضوء أحداث وتطوّرات شهدتها الأشهر الأخيرة، وتحديدًا منذ بداية الولاية الرئاسيّة الثانية للرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، وهو الرئيس الذي استبشر اليمين الإسرائيليّ الاستيطانيّ به خيرًا كبيرًا، لم يتحقّق في أمور وقضايا عدّة على الأقلّ حتى الآن.
هذه الأمور والتي كانت بدايتها دعوة رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو إلى البيت الأبيض ، أثناء تواجده في زيارة إلى هنغاريا في شهر نيسان 2025 بصورة مفاجئة على خلفيّة تقارير تشير إلى أن إسرائيل تخطّط لضربة عسكرية ضد المنشآت النوويّة الإيرانيّة، وليس كما أُعلن لإجراء مناقشات حول الضرائب الجمركيّة التي فرضتها الإدارة الأميركيّة على إسرائيل، ليعلن ترامب أمام نتنياهو ودون إبلاغه مسبقًا بأن واشنطن بدأت حوارًا مع طهران حول مشروعها النووي الذي كانت إدارة ترامب نفسها،
بإيعاز من نتنياهو قد انسحبت منه عام 2018، تلتها وفي نفس السياق قرارات، أو فرمانات ترامب بوقف الحرب التي اندلعت بين إسرائيل وإيران أواسط حزيران الأخير وشاركت فيها الولايات المتحدة بطائرات بي 52 القاذفة، وليس ذلك فقط بل أوامر ترامب بعودة الطائرات الحربيّة الإسرائيليّة التي كانت في طريقها لقصف مواقع إيرانيّة فور إعلان وقف إطلاق النار، ثم مواقف ترامب من الحرب في غزة وخطة وقفها والتي كانت أميركيّة ربما بتأثير إسرائيليّ، لكنها فرضت على نتنياهو إنهاء الحرب بعكس إرادته ورغبته والتي كانت واضحة وجليّة،
إذ أراد مواصلتها لأسباب ائتلافيّة وحزبيّة أدّت إلى عرقلة صفقات محتملة لإعادة الرهائن الإسرائيليّين الأحياء وجثث الموتى منهم، وإعلان بعد ذلك أن ضم الضفة الغربيّة لن يتم وتصريح نائبه جي دي فانس خلال وجوده في إسرائيل، وبعد إقرار مشروع الضمّ في الكنيست بالقراءة التمهيديّة، أنها خطوة تمثّل إهانة وصفعة له حتى لو كانت حيلة أو ألعوبة ائتلافيّة، وأنها خطوة لن تتم ثم تعليمات نتنياهو لرئيس الائتلاف الحكوميّ بمنع تشريع القانون،
وبين هذا وذاك إملاءات واشنطن على رئيس الوزراء نتنياهو بالاعتذار لدولة قطر بعد مهاجمة مكان لقاء قادة حماس في الدوحة، وإجباره على تلاوة بيان اعتذار صاغته الإدارة الأميركيّة وتمّت تلاوته من قبله تحت مراقبة وأمام ناظري ترامب، تبعه توقيع اتفاقيّة تعاون عسكريّ بين الدوحة وواشنطن، وختامها إقامة مقرّ أمريكي عسكريّ في بلدة كريات جات قريبة من غزة، لمراقبة عمليّة وقف إطلاق النار في القطاع، يتم منه إصدار التعليمات الواضحة للقوات الإسرائيليّة عبر ما تم الكشف عنه من نشاطات استطلاعيّة أميركيّة فوق القطاع للمراقبة وتتبّع الأحداث، والزيارات المتكررة للقياديين الأمريكيّين بدءًا بستيف ويطكوف وجاريد كوشنير،
مرورًا بنائب الرئيس جي دي فانس، ووزير الخارجيّة ماركو روبيو وموفدة ترامب إلى الشرق الأوسط مورتان أورتاغوس، وكلّها زيارات غايتها ليس إبداء الدعم والتأييد، بل إنها زيارات اعتبرها البعض زيارات متابعة ومراقبة لضمان عدم قيام إسرائيل والحكومة الحاليّة بخرق الاتفاق ،
وتتبّع تصرّفات نتنياهو خشية من تفضيله اعتبارات ائتلافيّة، أو زيارات تريد واشنطن منها، الإعلان رسميًّا أنها صاحبة القرار الوحيدة بكل ما يتعلّق بالحرب في غزة والسلام، أو التطبيع في الشرق الأوسط، ورغبة واشنطن في احتضان نظام أحمد الشرع في سوريا توسيع رقعة اتفاقيّات أبراهام، ومن هنا ما رشح عن غضب عارم اجتاح نتنياهو بضغط أميركيّ جراء تصريحات وزير ماليته بتسلئيل سموتريتش المهينة تجاه السعوديّة وقوله:" ليواصلوا هناك ركوب الجمال"، ودفعه إلى الاعتذار سريعًا.
هذه الزيارات التي يصفها البعض بالإنجليزيّة بأنها babysitting ، أثارت وللمرة الاولى داخل إسرائيل أسئلة حقيقية حول ما إذا كانت إسرائيل دولة مستقلّة في قراراتها أم أنها دولة تحرّكها خاصّة في القضايا السابقة، حاجتها الوجوديّة إلى دعم الولايات المتحدة العسكريّ،
وكذلك الدعم غير المحدود على الصعيدين الاقتصاديّ حيث الدعم المالي الذي وصل منذ السابع من أكتوبر إلى 23 مليار دولار بدلًا من ما يُعادل أربعة مليارات وفقًا للميزانيّة الأمريكيّة السنويّة والسياسيّ الدوليّ والذي تجلّى بأوضح صوره في استخدام الإدارات الأميركيّة المتعاقبة منذ السبعينيات من القرن العشرين حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي 45 مرّة ،
وذلك لإحباط مشاريع قرارات تدين السياسات الإسرائيليّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، أو تطالبها بالانسحاب من الأراضي التي احتلّتها عام 1967، فضلًا عن الدعم غير المحدود منذ بداية الحرب الأخيرة في غزة والتسونامي الدوليّ وسيل الاعترافات بالدولة الفلسطينيّة الذي شهدناه منذ أشهر وبلغ ذروته في مؤتمر نيويورك الذي بادرت إليه فرنسا والسعوديّة، وباختصار أسئلة حول مدى تبعيّة إسرائيل لواشنطن ، وليس ما إذا كانت تابعة أم لا، وصولًا إلى السؤال المطروح حول ما إذا كانت إسرائيل فعلًا دولة مستقلة أم ولاية أمريكيّة، وهو نقاش يشغل الإسرائيليّين منذ عودة الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وقيامه باتخاذ قرارات مهمّة نيابة عنها في كل القضايا سابقة الذكر.
أقول ما جاء سابقًا رغم إدراكي التامّ لطبيعة العلاقات المميزة بين إسرائيل منذ قيامها في ايار 1948 وبين الولايات المتحدة، والتي كانت أول دولة اعترفت بإسرائيل دولة مستقلّة، عندما أصدر الرئيس هاري ترومان آنذاك بيانا بذلك ، كان الأساس لعلاقات دبلوماسيّة متميّزة بين الطرفين قدَّم على إثرها جيمس غروفر ماكدونالد أوراق اعتماده في 28 آذار 1949 كسفير أمريكيّ لدى إسرائيل، التي أصبحت وما زالت أهمّ شريك لأمريكا في الشرق الأوسط ، تربطهما علاقات اقتصاديّة وسياسيّة وبالأساس المصالح المشتركة ، لكن التعامل كان مختلفًا وتخلّله دعم كامل وتامّ، ودون حدود واحترام لكافّة القرارات الإسرائيليّة حتى لو اختلفت مع المواقف الأمريكيّة،
رغم حوادث بسيطة اختلّ فيها ذلك، أولها كما قال بعض المحلّلين العسكريّين اتفاق وقف اطلاق النار بعد حرب أكتوبر من العام 1973، والذي صاغه وزير الخارجيّة الأمريكيّ المعروف هنري كيسنجر، وأدى إلى وقف الحرب رغم أنباء عن أن بعض القياديين في إسرائيل أرادوا مواصلتها خاصّة بعد اجتياز القوات الإسرائيليّة قناة السويس إلى جهتها الغربيّة ومحاصرة الجيش المصريّ الثالث، وهي نقطة تحوّل قرّرت الحكومة الإسرائيليّة حينها استخدامها سبيلًا لمفاوضات وقف إطلاق النار، بينما عارضها ضباط كبار أرادوا مواصلة الحرب وتحقيق إنجازات إضافيّة،
وثانيها ما فعله وزير الخارجيّة الأمريكي جيمس بيكر عشية مؤتمر مدريد من إلزام إسرائيل بالمشاركة فيه، رغم الرفض المسبق من قبل رئيس الحكومة آنذاك إسحق شمير.
ومن هنا يمكن القول إن تعامل الإدارة الأميركية مع إسرائيل في الحالتين السابقتين ومؤخرًا، لا يختلف كثيرا عن تعاملها في مختلف المجالات مع الولايات الأمريكية التابعة لها ، فهي مركز القرار ويمكنها اتخاذ قرارات لا تريدها الولايات الخمسون المنضوية تحت راية الولايات المتحدة، لكنها تبقى قرارات ملزمة ، كما أنها تمامًا كما الولايات الأُخرى تحظى إسرائيل بالمساعدة الماليّة والحماية السياسيّة والعسكريّة من طرف واشنطن ، حتى مرحلة معيّنة، وطالما كان ذلك يخدم المصالح العامّة للولايات المتحدة، اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وعسكريًّا وسياسيًّا في حالة إسرائيل،
إذ تؤكّد المراجعة التاريخيّة الواضحة أن الاهتمام الأميركيّ بمنطقة الشرق الأوسط والذي كان محصورًا في المصالح الاقتصاديّة والعلاقات التجاريّة حتى نهاية الحرب العالميّة الثانية ، تغيّر بعد ذلك وخاصّة بعد أن تيقّنت واشنطن أن أهميّة المنطقة تفوق ذلك بكثير، خاصّة بعد اكتشاف النفط واشتداد المنافسة بين الشركات الأميركيّة والسوفييتيّة على استخراج النفط. ومن هنا كما يعتقد البعض جاء دعم الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل في الشرق الأوسط واعتبارها شريكًا حيويًّا في المنطقة، تجمعها به أهداف إستراتيجيّة هامّة ومصالح مشتركة قد تفوق تلك التي تربط واشنطن ببقية الولايات الأمريكيّة الخمسين،
لكنه سيف ذو حدين فواشنطن لن تسمح بالمسّ بمصالحها التجاريّة والاقتصاديّة، بدليل قول ترامب أن الضمّ لن يحدث لأنه وعده الدول العربية بذلك، وأن بلاده تلقّت دعمًا هائلًا من العالم العربيّ، وإذا ما حدث الضمّ فسوف تفقد إسرائيل كلّ دعم الولايات المتحدة ، ولن تسمح بالمسّ بمصالحها العسكريّة وتحديدًا تواجدها العسكريّ على الأرض في قطر ودول الخليج، وهو تواجد تنضمّ إسرائيل فعليًّا إلى قائمته، بفعل تواجد القاعدة العسكريّة الأمريكيّة في بلدة كريات جات، علمًا أن لجنة الاتصال العسكريّة التي أنشأتها أميركا في إسرائيل بقصد متابعة الأوضاع في غزة، تعتمد على وسائلها الخاصّة لتكوين صورة الوضع وليس الاعتماد على التقارير الإسرائيليّة، بل وتم الإعلان عن تسيير هذه اللجنة لمسيّرات في سماء غزة لمراقبة وقف النار والتحركات على الأرض.
وما زال الحال على نفس المنوال، بل وأكثر، فواشنطن هي مركز القرار وتكفي الإشارة، وقبل الخوض في الأحداث الأخيرة إلى قرارات البيت الأبيض خاصّة في عهد الرئيس باراك أوباما والتي أدّت بحكومة إسرائيل حينها إلى تجميد الاستيطان، وتصريحات الرئيس الأميركيّ السابق جو بايدن التي أبدى فيها انتقادات لاذعة لخطة الحكومة ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إضعاف الجهاز القضائيّ، أو الانقلاب القضائيّ، لكنه يختلف هذه المرة من حيث الوضوح والعلنيّة والصراحة، فترامب لا يعترف بالأعراف الدبلوماسيّة التي تحكم العلاقات بين الدول، وهو بشخصه النرجسيّ، لا يتورّع عن كشف الحقائق سريعًا والتصريح المباشر دون صياغات ملتوية ودبلوماسيّة، وبالتالي فهو يكشف حقيقة اعتبار إسرائيل الولاية الحادية والخمسين وإضافتها نجمة أخرى على علم بلاده، مستخدمًا عبارات قلّما استعملها حتى تجاه حكام الولايات الخمسين، ومنها أن إسرائيل ستعاود قصف قطاع غزة ردًّا على خروقات حماس إذا سمح لها هو بذلك ، وأنها لن تضمّ الضفة الغربيّة، لأنه لن يسمح لها، وأن العودة إلى الحرب في القطاع غير واردة في الحسبان، وأنه إذا تعمد نتنياهو تعطيل الاتفاق فإنه سيرد عليه بالمثل، في إعلان رسميّ وواضح أن القرارات السياسيّة المتعلّقة بالشرق الأوسط كلّه من غزة حتى لبنان وإيران وقطر وغيرها تتّخذ في واشنطن وتنفّذ من قبل بنيامين نتنياهو ليس من باب التوافق والموافقة، بل من باب إيمان الإدارة الأميركيّة أن نتنياهو ربما فقد السيطرة على ردوده أو أنه يعمل مع سبق الإصرار والترصّد على إفشال كل محاولة لترتيب الأوضاع في المنطقة وضمان التهدئة،
وأنه يقصف موقعًا جديدًا في الشرق الأوسط كلّما لاحت في الأفق بشائر تهدئة ما ، وذلك لأغراضه السياسيّة الداخليّة، وهو ما قالت عنه جهات أميركية مقرّبة من ترامب أنه تصرّفات إسرائيليّة خارجة عن السيطرة، تتطلّب اتخاذ مواقف صريحة وواضحة تجاهها، وأنها تعتقد أن نتنياهو يحاول التملّص من تنفيذ خطة ترامب في غزة ويبحث عن ذرائع للعودة للحرب، وصولًا إلى حالة لا يضطر نتنياهو فيها إلى تنفيذ املاءات ترامب بحذافيرها فحسب بل تبريرها وتفسيرها على أنها انتصار وتوافق، كما حدث في حالة التصويت بالقراءة التمهيديّة على مشروع قانون ضمّ الضفة الغربيّة، ومن هنا ورغم إيمان الليكود وزعيمه بنيامين نتنياهو، بفكرة أرض إسرائيل الكبرى،
وضرورة ضمّ الأراضي في الضفة والقطاع، اضطّر للعمل على إسقاط المشروع لاعتبارات سياسيّة، وأمر رئيس الائتلاف الحكومي من الليكود، أوفير كاتس، بالتوجّه لكافّة أعضاء حزبه لعدم المشاركة في التصويت، وعدم إطلاق أي تصريحات حوله، مع التأكيد على أنه ليس الوقت المناسب لتمرير قانون كهذا، خاصة في وقت يتم، وفق قوله، العمل مع الأميركيّين على تحقيق أهداف الحرب، متناسيًا أن من يقف وراء مشروع القانون هو بالأساس ليس من المعارضة، بل إنه النائب آفي معوز، شريك في الائتلاف الحكوميّ، بل نائب وزير في مكتب نتنياهو نفسه، وأن أهداف الحرب لم تتحقّق خاصّة، وأنه اتضح ان نحو 60% من الأنفاق في قطاع غزة لم يتمّ تدميرها ، فضلًا عن المعلومات الاستخباريّة حول شروع حركة حماس في ترميم قدراتها العسكرية والمدنيّة، وإذا عادت واستعملت السلاح ضد دولة إسرائيل والجيش ستعود الحرب بأكثر ضراوة، وهذا قد يُدمّر ما بقي من غزة بعد السابع من أكتوبر دون أيّ محاسبة لقادة حماس الذين جميعهم ربما هم تحت الأرض.
من جهة أخرى، فإن شخصيّة ترامب كرجل أعمال، تفرض هيبتها وسيطرتها على قراراته السياسيّة الخارجيّة التي يقيسها وفق مبدأ الربح والخسارة، ومن هنا تصريحاته حول كون الدول العربيّة قد أعطت بلاده الكثير، وليس ذلك فقط بل عدًّا ونقدًا، وهي بالنسبة له ومن هذا المنظور الجانب الأهمّ، فتريليونات الدولارات من السعوديّة وقطر وغيرها والتي توفّر عشرات آلاف فرص العمل، هي عامل رئيسيّ في علاقات ترامب مع هذه الدول وقراراته المتعلّقة بها، خاصّة وأنه من شبه المؤكّد أن يوقّع مع السعودية، وخلال الزيارة المرتقبة لولي العهد محمد بن سلمان، أواسط تشرين الثاني الوشيك، اتفاقيّة تعاون أمني مشترك على شاكلة تلك التي وقعها مع قطر بعد الهجوم الإسرائيليّ على الدوحة، وهذه كلها، خاصّة إذا ما اخذنا بعين الاعتبار عدم وجود اتفاقية كهذه بين إسرائيل وأميركا،
أثمان باهظة تدفعها إسرائيل كما يعتقد البعض جرّاء سياسات حكومة نتنياهو الحاليّة، وهي بالتالي أمور دفعت أصحاب الرأي في الشؤون الاستخباراتيّة والعسكريّة والعلاقات الدوليّة إلى التأكيد على أن الوضع اليوم لا يقتصر على جعل إسرائيل تابعة لقرارات الإدارة الأميركيّة وربما ولاية جديدة تضاف إلى تلك الخمسين، بل التأكيد على أن الضرر الذي تلحقه الحكومة الحاليّة وسياساتها وتصريحات وزرائها المتعلّقة بالشرق الأوسط، بمستقبل العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة هو الخطر الأكبر لأمن إسرائيل القوميّ، خاصة على ضوء ما يتبلور من تيارات أميركيّة داخليّة بما في ذلك داخل الحزب الجمهوريّ وخاصّة في أوساط المصوتين الشباب، تعتبر سياسات إسرائيل مرفوضة، بل مضرة للولايات المتحدة، وبالتالي على الرغم حكومة إسرائيل ألا تزيد الأمور سوءًا على سوء.
هذا هو الحال اليوم، دولة كبرى تريد السلام ولو لمصلحتها، ولذلك تتخذ القرارات بدل إسرائيل، وتصرّ على إنهاء الحرب، ودولة تصرّ حكومتها وبعض وزرائها، على تأكيد قول جورج أورويل:" الهدف من وراء كل حرب أن تصبح الدولة في وضعيّة أفضل لشنّ حرب أخرى"، ولذلك يرحّب كثيرون بتحويل إسرائيل الى ولاية أميركيّة إضافيّة، فهل يعني الأمر أن تضطر إسرائيل إلى فقدان استقلاليّة قرارها كي تحافظ على وجودها واستقلالها واستقلاليتها!!!
ويبقى السؤال الأهمّ لماذا لا تقوم القيادات الإسرائيليّة والعربيّة والإسلاميّة بمبادرة سلام مثل التي قادها قبل 58 عامًا المرحومين الرئيس محمد أنور السادات ورئيس الوزراء مناحيم بيغن والتي حمت حتى الآن الشعبين المصريّ والإسرائيليّ من الحروب والدمار، ولو انضم إلى تلك المبادرة حافظ الأسد وياسر عرفات لربما تغير الشرق الأوسط الى هدوء لعشرات السنوات بدلًا من الحروب العديدة والتي لم تحلّ القضية ولا النزاع بل دمّرت الكثير من الدول وخاصّة بعد "الربيع العربيّ" الذي آجلًا أم عاجلًا سيتضح من كان وراء هذا التدمير مع سبق الإصرار والترصّد، وجعل العالم العربيّ في هذه الأوضاع القاسية، ولنذكر بأن أخطاءنا من إنسانيّتنا إذا كانت حقًا موجودة، والتزام البعض بمظهر المثالية ليس إلا تمثيل مُتقن، فالكمال ليس من طبيعة البشر.


















