الضلال السياسيّ يسخّر الإرهاب لضمان سلطانه
لم يكن الشرق الأوسط بشقيه العربيّ والإسلاميّ، يومًا ما موضع هدوء واستقرار، خاصّة منذ العام 1948 وقبله بقليل، بل كان ساحة اتّسمت بالتغييرات المتواصلة والسريعة، والتي وصفها كثيرون بأنها حالة تترنّح فيها هذه المنطقة بدولها المتعدّدة، تحت وقع الاحتلالات والنزاعات والانقلابات، تتبدّل فيه التحالفات دون القيادات.
وتتغيّر الأحوال فيه في فترات الأزمات والانفراجات على حدّ سواء، فيكثر الحديث عندها عن شرق أوسط جديد، يعتمد في حالات الأزمات منطق القوة العسكرّية كحل وحيد وحصري، وضرورة فرض الردع والخوف في القلوب.
بينما يؤكّد المتفائلون في حالة الانفراج أنه سينعم بالهدوء والسلام، مع الأخذ بعين الاعتبار التأثيرات الخارجيّة والداخليّة المحتملة، وأحيانًا الأكيدة على الدول والشعوب في كلتا الحالتين، خاصّة وأن معالم هذه التغييرات كانت ترسم في الخارج كما حدث في حربي الخليج ضد العراق والحرب الأهليّة في سوريا والربيع العربيّ باستثناء دولة واحدة كانت خارج هذه المعادلة وهي إسرائيل التي اعتاد زعماؤها الحديث ، وفي مقدّمتهم شمعون بيرس، عن الشرق الأوسط الجديد الذي تحدّد إسرائيل معالمه عبر اتفاقيّات سياسيّة وأخرى، وليس ذلك فقط بل إنها تفعل ذلك بالتنسيق التامّ مع الولايات المتحدة، أو ربما تحدّد مواقف الولايات المتحدة منه قبل حدوثه، وذلك بفعل تأثيرها على السياسة الأميركيّة الداخليّة عبر اللوبي اليهوديّ وأعضاء الكونغرس المؤيّدين لها ، بما في ذلك كما حدث في اتفاقيات أبراهام مثلًا من حيث موافقة إسرائيل على منح الإمارات طائرات إف 35، كشرط لموافقة الولايات المتحدة عليها ، مقابل عدم ضم الضفة الغربيّة وغور الأردن، واعتبار إسرائيل في كل حال وظرف ورغم كافّة التغييرات الحليف الأول، أو الدولة الأولى من حيث الأهميّة، وضمان تفوّقها العسكريّ النوعيّ دون تردّد، واحترام السيادة وعدم التدخّل في الشؤون الداخليّة الحزبيّة والسياسيّة وغيرها.
والدليل هو تصريح الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب عشيّة توقيع الاتفاقيّات الإبراهيميّة أنه لن يفرض على إسرائيل أيّ حلّ سياسيّ، وأنه لا يهمّه إذا اتفقت إسرائيل والفلسطينيّون على حلّ يشمل دولة، أو دولتين أو أيّ حلّ آخر، وكل ذلك وسط المحافظة على الاستقرار الداخليّ في إسرائيل وضمان الهدوء وسيادة القانون بما في ذلك في الضفة الغربيّة التي تحتلّها إسرائيل... بمعنى شرق أوسط جديد ترسم إسرائيل معالمه وتقبلها الولايات المتحدة دون نقاش، وكل ذلك دون أي تأثير على إسرائيل داخليًّا، فكل الخطوات في مصلحتها..
ولكن يبدو أن الأمور تتغيّر، أو في طريقها إلى ذلك. وهذا ما تنبئ به التطوّرات في النصف الثاني من العام الحالي 2025 وتحديدًا منذ شهر نيسان. وبدأت معالمها الأوليّة قبلها وفي العامين الأخيرين من ولاية جو بايدن والمتعلقة بموقف واشنطن من الانقلاب القضائيّ كما نذكر، وصولًا إلى حالة تبدّلت فيها المراتب والأحوال، ليتأكّد ما قلته منذ أشهر وسنوات، من أن إسرائيل أصبحت دولة شرق أوسطيّة بامتياز، وقصدت حينها تدهور أوضاع ساحتها السياسيّة والعلاقات الداخليّة والسعي إلى حكم الرجل الواحد واستشراء الفساد وموت الأيديولوجيّات وإضعاف الديمقراطيّة والفصل بين السلطات، لتندمج إسرائيل اليوم في الشرق الأوسط بشكل كامل أيضًا من حيث كون القرارات المصيريّة المتعلقة بها يتم اتخاذها من الخارج، وتحديدًا من قبل الولايات المتحدة، وليس ذلك فقط، بل أيضًا بعض السياسات الداخليّة، وبعضها يتعلّق بالقيادات والسياسيّين. والأسبوع الحالي حافل بالأدلّة، ومنها ثلاثة تؤكّد أن ما كان يختلف عما سيكون، وأن إسرائيل لم تعد الأولى بامتياز بالنسبة لدونالد ترامب، بل ربما تشاركها في ذلك أخريات وتسبقنها أحيانًا، فترامب هو رجل الصفقات الكبيرة اقتصاديًّا وماليًّا دون اهتمام "بالصغائر السياسيّة ".
وتكفي الإشارة هنا إلى ثلاثة أمور تزامنت هذا الأسبوع أولها إعلان ترامب موافقة بلاده على منح المملكة العربيّة السعوديّة طائرات إف 35 ( دون أن تحصل إسرائيل على أيّ مقابل هذه المرة، بعكس ما حدث مع الإمارات)، وثانيها إقرار مجلس الأمن اتفاقيّة وقف إطلاق النار في غزة وفق صيغتها الأميركيّة والتي ترسم في أحد بنودها الطريق نحو دولة فلسطينيّة، ربما كما أرادت المملكة العربيّة السعوديّة ومعها فرنسا، وثالثها ما كشفت عنه شبكة سي .إن. إن من سعي إدارة ترامب إلى القفز عن المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار والتي تتعلق بنزع أسلحة حركة حماس وجعل قطاع غزة منطقة منزوعة السلاح، والتوجّه بالاتفاق مع السعوديّة إلى المرحلة الثالثة، وهي إعادة إعمار غزة دون اشتراط ذلك بموافقة إسرائيل. وهي قرارات تشكّل للمرة الأولى منذ نحو ثلاثة عقود سحب البساط من تحت أقدام إسرائيل، والتي اعتبرت خاصّة بعد اتفاقيات أوسلو، حلّ النزاع بينها وبين الفلسطينيّين أمرًا خاصًّا ترفض أن يتم تدويله معتمدة في ذلك على إفشال الولايات المتحدة أيّ قرار ملزم لإسرائيل بهذا الخصوص من قبل مجلس الأمن.
وهي خطوات تشير كثافتها وتوقيتها إلى تغيير واضح وجوهريّ بدت معالمه الأولى منذ أشهر وقبل ذلك بإعلان ترامب التفاوض مع إيران دون موافقة إسرائيل، وإعلان وقف إطلاق النار بعد المواجهة العسكريّة بين إسرائيل وإيران أوائل حزيران الماضي، وإعلان اتفاقية الدفاع المشتركة مع قطر خلافًا لمواقف إسرائيل، وتزويد تركيا وهي الخصم العسكريّ الأول لإسرائيل خاصّة بعد الضربات التي تلقّتها ايران وبعد سقوط نظام بشار الأسد، وكل هذا ليس بمعزل عن الأوضاع الداخليّة في إسرائيل، بل إنه يؤثّر عليها سلبًا ويشكّل بالنسبة للحركات حافزًا لحدّ أمرين، فإما الدعوة إلى مراجعة حسابات الحكومة الحاليّة، أو التوجّه إلى مزيد من التعنت ومردّه عدم فهم طبيعة المرحلة، وأقصد ما يحدث في الضفة الغربيّة من تعزيز للاستيطان واعتداءات للمستوطنين، دون أن تفهم الحكومة أن الغطاء الأميركيّ قد تمّ رفعه جزئيًّا وكذلك الغطاء الأوروبيّ، وأن الشرق الأوسط الجديد وفق تصرفات إدارة ترامب الأخيرة ومواقف الدول الأوروبيّة يعني الاقتراب من الدولة الفلسطينيّة تصريحيًّا على الأقل، وتخفيف حدّة، أو مساحة " الكارت بلانش " الأمريكيّ لإسرائيل .
تأثيرات التغيير في السياسة الأمريكيّة والأوروبيّة ينعكس داخليًّا على إسرائيل، عبر نقاش داخليّ وواسع وعميق يقول من جهة إن انشغال الائتلاف الحاليّ بالقضايا الداخليّة، وتحديدًا ضمان بقائه والتنصّل من مسؤوليّته عن أحداث السابع من أكتوبر 2023، والنظر منذ ذلك اليوم إلى انتخابات عام 2026 ، وعدم ترجمة إنجازات الحرب في غزة إلى إنجازات سياسيّة، بل تغييب الأفق السياسيّ ، أزاح أنظار الحكومة عن التطورات الأخيرة والتي تشير إلى تبلور نظام إقليميّ جديد برعاية أميركيّة، دون أن تشكّل إسرائيل فيه محورًا أساسيًّا فيه ولا أولويّة لدول المنطقة حتى الصديقة منها، لكنّ الأهم من ذلك والأكثر إثارة للقلق هو أن الولايات المتحدة تقبل هذا النظام، بل تبادر إليه باعتباره يخدم مصالحها الخاصّة عبر صفقات اقتصاديّة قيمتها تريليونات الدولارات من جهة، ومصالحها العامّة وتحديدًا الخارجيّة وهي سدّ الطريق أمام نظام إقليمي آخر تلعب فيه روسيا والصين وربما إيران دورًا هامًّا، وكل هذا وسط تلكّؤ إسرائيليّ خارجيّ دوافعه سياسيّة داخليّة، أفقدها المبادرة دون أن يمنع ترامب من قطف ثمار وقف إطلاق النار عبر مبادرته ذات النقاط ال21، بل منحته ومقابل إطلاق سراح الرهائن فرصة ترجمة الجهد العسكريّ إلى إنجازات سياسيّة عبر اتصالات هادئة مع دول الإقليم مقابل "أفعال علنيّة" مع إسرائيل منها إقامة قاعدة عسكريّة للرقابة في الجنوب ( كريات غات)، تمامًا كالقاعدة العسكريّة الأمريكيّة قرب دمشق عاصمة سوريا إضافة لما لها من قواعد عسكريّة في قطر والعراق، والحديث عن إقامة معسكر أميركيّ قرب الحدود مع غزة، وليس ذلك فقط، بل أضافت إلى ذلك تدخل في صلب السياسة الإسرائيليّة الداخليّة وحتى الحزبيّة والقضائيّة، بواسطة رسالة وجهها ترامب إلى رئيس الدولة( الرئيس الإسرائيليّ) يتسحاك هرتسوغ، يطلب فيها العفو عن رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو الذي يحاكم بتهم فساد قال فيها إنه يجب وقف المحاكمة، وأن محاكمة نتنياهو-وهو كما وصفه ناضل إلى جانبي طويلًا بما في ذلك ضد عدو إسرائيل اللدود إيران- هي محاكمة سياسيّة غير مبّررة".
متناسيًا أن صلاحية العفو تستند إلى قانون أساس: رئيس الدولة، الذي يمنح الرئيس صلاحية العفو عن المدانين، أو تخفيف العقوبات، أو استبدالها، بل وحتى إلغاء فترات التقادم ومحْو السجلات الجنائيّة.
تمتدّ هذه الصلاحية لتشمل أيضًا محو مخالفات جسيمة، بما فيها جرائم يُعاقَب عليها بالسجن المؤبّد، بشروط منها الاعتراف بارتكاب الجريمة، أو المخالفة وإعلان الأسف، مع الإشارة إلى حالة خاصّة تم فيها من قبل رئيس الدولة حينها حاييم هرتسوغ، والد رئيس الدولة الحالي يتسحاك هرتسوغ ، العفو عن المتورّطين قبل محاكمتهم وتحديدًا العفو عن أفراد جهاز الشاباك الذين اتضح أنهم قتلوا اثنين من مختطفي الحافلة رقم 300، وهما صبحي ومجدي أبو جامع من قطاع غزة. وجاء العفو بدافع بدعوى حماية "المصلحة العامّة"، وكلها خطوات تجعل إسرائيل أكثر اعتمادًا على الإدارة الأمريكيّة وتبعية لها ضمن مسعاها لتخليصها من العزلة الدوليّة غير المسبوقة، ومن تراجع مكانتها الإقليميّة والعالميّة، بينما يواصل نتنياهو ومؤيّدوه اعتبار ذلك أمرًا ليس ذي أهمية، دون الاعتراف بأنهم تنازلوا عن التأثير على إدارة ترامب. وهناك من يقول إنهم أدركوا أنه ليس بإمكانهم التأثير، خاصّة على ضوء الضرر الذي ألحقه نتنياهو بالعلاقة مع الحزب الديمقراطيّ من جهة، وإدراك ترامب أن نتنياهو لا يريد وقف الحرب بل توسيعها، ولا يريد أي أفق سياسيّ وذلك لأسباب سياسيّة داخليّة، رغم أن ذلك يضرّ بمصالح الولايات المتحدة واحتمال تعزيز شراكات وصفقات ترامب مع دول الخليج وأهمّها السعوديّة التي استضاف هذا الأسبوع ، ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان الأسبوع، ليتضح أن مسألة التطبيع مع إسرائيل مشروطة باتفاق يفتح المجال لدولة فلسطينيّة، أو بكلمات سعوديّة، ضمن مسار لا رجعة فيه نحو قيام دولة فلسطينيّة في حدود 1967.
قضية الانشغال الحكوميّ والإسرائيليّ بالأمور الداخليّة، وعدم فهم معانيها على الصعيد الإقليميّ والعالميّ، تتعلّق باستمرار هجمات المستوطنين في الضفة الغربيّة على القرى والبلدات الفلسطينيّة وآخرها حاليًّا، هجوم نحو مئة منهم من مستوطنة بات عاين على بلدة الجبعة جنوبي بيت لحم وإضرام النار في منازل وسيارات، وسط مؤشّرات تؤكّد أن شهر تشرين الأول الفائت شهد 264 حالة اعتداء من قبل المستوطنين، في حين بلغت هذه الاعتداءات منذ بداية العام الجاري أكثر من 1500 اعتداء، هذا في حين أسفرت هذه الاعتداءات عن ترك3200 فلسطيني لبيوتهم عنوةً، خاصّة في المناطق المصنفة "ج" وخاصّة في منطقة الأغوار، تزايد الهجمات مؤخّرًا، لا سيّما مع موسم قطف الزيتون، واعتداءات على مقدّسات في الضفة الغربيّة، في حالة تعني أمورًا عديدة، ومنها أنه ينعدم في إسرائيل الحالية الوعي لخطورة وجود حكومة متطرّفة دينيًّا وسياسيًّا، تحلم بأرض إسرائيل التوراتيّة، بكل ما يعنيه ذلك من تأثيرات على المواقف الدوليّة من إسرائيل، وما يسببه من ازدياد مظاهر العداء والمعارضة لإسرائيل، خاصّة وأن هذه الاعتداءات لا تلقى أيّ ردود فعل إسرائيليّة، بل تحظى بالتسامح والدعم السياسيّ والبرلمانيّ، الذي يعتبر منفذي الاعتداءات مجموعة من الفتية الجامحين والمنفلتين، دون أن يحرّك الشاباك ساكنًا مؤكّدًا عجزه، أو ربما عدم رغبته لأسباب سياسيّة، بينما الشرطة التي يتولّى مسؤوليتها السياسيّة والوزاريّة إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي فتغضّ الطرف عنهم لأسباب سياسيّة وهكذا الجيش عبر سيطرة الوزير في وزارة الأمن بتسلئيل سموتريتش، ومنعه أيّ اعتقالات، أو إخلاء لبؤر استيطانيّة غير قانونيّة، إضافة إلى قرار وزير الأمن يسرائيل كاتس وقف استخدام الاعتقالات الإداريّة ضد مستوطنين متطرّفين، وباختصار: سياسة أساسها عدم تطبيق القانون ومنع الاعتداءات لأسباب سياسيّة واضحة تأثيراتها الداخليّة سلبيّة ومخيفة ومنها احتمال انتقال هذه لاعتداءات إلى الداخل الإسرائيليّ، وضد خصوم سياسيّين، أو خلافات بين أطر سياسيّة وبين مؤيّدي نتنياهو ومعارضيه، وهو خطر تنبّه له وزير الخارجية جدعون ساعر، ودفع نتنياهو إلى إعلان شجبه الخجول متعهدًا بأن يعالج القضيّة شخصيًّا!!!!
هذه الاعتداءات والتي هي إرهابيّة بالكامل، وتأثيراتها السلبيّة خارجيًّا، ليست جديدة وليست حالة منفردة، أو نتيجة لحدث ما ويقينًا ليس السابع من أكتوبر 2023 وحده، بل إنها جزء من انشغال إسرائيليّ وتنافس على من الأكثر تطرّفًا وإلغاء لكافّة السوابق والخطوط الحمراء، التي منعت الحكومات، أو امتنعت الحكومات المتعاقبة بسببها، عن شرعنة اليمين المتطرّف وخاصة اتباع حركة كاخ العنصريّة والتي اعلنت عام 1994 حركة إرهابيّة. وهي التي قاطعها الجميع بمن فيهم الليكود الحاكم اليوم، ولكن في عهد إسحق شمير ومناحيم بيغن، حيث اعتاد نوّابه في البرلمان مغادرة القاعة إبان حديث ممثّلها في البرلمان في حينه الحاخام مئير كهانا، لكن ذلك تغيّر وأصبحت هذه الحركة جزءًا من الحياة السياسيّة والائتلافيّة ضمن حكومة اليمين الحاليّة، بل إن هناك من يقول إن الأيديولوجيّة التي تتبناها حركة كاخ العنصريّة هي التي توجّه بوصلة السياسة الإسرائيليّة منذ كانون الأول ديسمبر 2022، وبضمنها عرقلة صفقات لإعادة المختطفين ووقف إطلاق النار وتشريعات إضافيّة، منها قانون إعدام الفلسطينيّين منفّذي الاعتداءات العسكريّة، في الوقت الذي تبتعد كافة الحكومات والدول عن فرض عقوبة الإعدام، ودون أن يسري التشريع المذكور على كافّة المدانين، بل يميز بينهم على خلفيّة قوميّة، فيطبق على العرب والفلسطينيّين وليس على اليهود، حتى لو أدين أحدهم مثلًا بجريمة إحراق عائلة دوابشة. وآخر الأدلّة إضافة إلى التسامح مع اعتداءات المستوطنين، تصريحات نائب رئيس البرلمان ، النائب نيسيم فاتوري من الليكود، والتي اعتبر فيها نهج كاهانا الفاشي والعنصريّ صائبًا مضيفًا أنه كان سيحصل على جائزة إسرائيل لو كان على قيد الحياة، والتي قوبلت بصمت أهل القبور من قبل رئيس الوزراء، ما يعني أنها ليست جملة عابرة أو زلة لسان، بل للتعبير عن سمة التطرّف والكراهية المطبقة التي تميِّز السياسة والمجتمع في إسرائيل بعد السابع من أكتوبر والحرب في غزّة، ومن هنا قول فاتوري إن كهانا أصاب في العديد من المواقع والمواقف، بينما أخطأ الليكود عندما قام بعزل كهانا وإقصائه ونبذه، والواقع أن الليكود اعترف فعليًّا "بالخطأ"، ولذلك أقام ائتلافه الحكوميّ مع سموتريتش وبن غفير، ومنحهما وزنًا كبيرًا واعتبرهما بيضة القبان، في تكرار لمواقف حكوميّة سابقة تساهلت مع هذا النهج الذي تمثّله حركة كهانا ومنها مثلًا امتناع حكومة إسحق رابين عن اتخاذ خطوات عمليّة ضدها بعد مجزرة الحرم الإبراهيميّ عام 1994، ومنها استغلال الفرصة المواتية لإخلاء المستوطنين اليهود من الخليل، دون أن يفعل ذلك في خطوة يمكن اعتبارها أكبر خطأ في فترة توليه رئاسة الحكومة، بل اعتباره منفذها باروخ غولدشتاين مختلًّا عقليًّا قبل أن يتراجع عن ذلك، وصولًا إلى حالتنا اليوم، من مشاركة أنصار كهانا ومؤيّدي باروخ غولشتاين في الحكومة، رغم إدراك نتنياهو أنها تضر بمصلحة إسرائيل على ضوء مواقفهم ولذلك تم منع بعض وزراء الائتلاف من زيارة دول أوروبيّة، وصدرت بحقّ بعضهم أوامر اعتقال دوليّة.
خلاصة القول، لأسباب سياسيّة وائتلافيّة لم تتعلّم حكومة اليمين الحاليّة العبر التاريخيّة، من أحداث السابع من أكتوبر التي كانت مفاجأة تكتيكيّة كبرى، رغم أن الإشارات كانت واضحة والتهديدات معروفة ومعها التحذيرات والتنبيهات، مثلها مثل بيرل هاربر عام 1941، بخلاف واحد أساسيّ، وهو أن الولايات المتحدة وبسبب بنيتها السياسيّة نجحت في الاستيقاظ من الصدمة والردّ بشكل مناسب، لكن إسرائيل لم تتعلّم من درس تاريخيّ سبق السابع من أكتوبر 2023 وهو السادس من أكتوبر 1973، بل واصلت التصرّف اليوم كما عام 1973، ووفق نفس المعتقدات والمفاهيم التي تتجاهل الخطر، وتعتقد أن العدو يشعر بالخوف ولن يجرؤ على شنّ هجوم، وهذه المرّة أكثر بكثير وتحديدًا اعتبار حماس شريكًا، بل ذخرًا وأن ضخّ الأموال يضمن شراء الهدوء، وأن الجدران الحديدة كالسياج الحدوديّ الذي بلغت تكلفته 3.5 مليار دولار يمكنه حلّ كافّة التهديدات، كما قال وزير الأمن حينه بيني غانتس إن إسرائيل أغلقت كافّة الأنفاق وأقامت جدارًا، وحلّت المشكلة وحتى لو أرادت حماس مهاجمة إسرائيل، فلن تتمكّن.. فجاء الواقع مخالفًا، والصدمة تكتيكيّة واستراتيجيّة تغير كافّة قواعد اللعبة، وتقود إلى ما إسرائيل فيه اليوم، من تطرّف وشرعنة للاعتداءات وإرهاب مستوطنين يهود لأهل البلاد، وصمت عليها وعن هذا قال رجل الدولة والسياسيّ والفيلسوف ماركوس كيكرو، المعروف باسم شيشرون:" وسط الأسلحة تصمت القوانين".
في هذا السياق، لا بدّ من التطرّق إلى زيارة ولي العهد السعوديّ والحاكم الفعليّ الأمير محمد بن سلمان، إلى واشنطن والتي استُقبل فيها بأبهى ترحاب وأكبر تبجيل من الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، والتي تمخّضت عن صفقات أسلحة عملاقة تشتريها السعوديّة من اميركا، أي استثمار سعوديّ واضح في الاقتصاد الأميركيّ تساعده في تخفيف حدّة العجز المالي البالغ آلاف مليارات الدولارات، أو آلاف التريليونات.
والسؤال الذي يحيِّر العقول هو ماذا لو كانت السعوديّة تستثمرهذه التريليونات في بلادها ولمصلحة شعبها، وماذا لو استثمرت ومن أجل المجاملة عربيًّا وإسلاميًّا على سبيل المثال، نصف تريليون دولار أي خمسمئة مليار دولار، في السودان، وعملت على إنعاشه ومنع الاقتتال الداخليّ، ورفع مستوى المعيشة في الشرق الأوسط إلى المستوى المعقول، بدل شراء الأسلحة التي ستصبح ركامًا إذا لم يتمّ استخدامها خلال فترة زمنيّة قصيرة!!!!.
والسؤال الآخر، كيف يمكن لدونالد ترامب أن يرأس مجلس سلام عالميّ!! بيده اليمنى، بينما يبيع الأسلحة الفتّاكة والمتطورة لإسرائيل والسعوديّة وقطر والعديد من دول الشرق الأوسط تمامًا كما باعت أميركا الأسلحة للطرفين المتقاتلين في حرب العراق وإيران، وربما باعت إسرائيل الأسلحة لهذين الطرفين أيضًا، وأقول أن عالمنا يعيش حالة من الضلال والتضليل السياسيّ. والأنكى من ذلك أن القيادات تعرف الحقيقة لكنها تتجاهلها، ضاربة عرض الحائط بقيم حماية الإنسان والعدالة الاجتماعيّة، وتوق المواطنين إلى حياة هادئة وجيدة، لكن الدولة لا تحميه ليصبح ضعيفًا عاجزًا عن حماية نفسه وحتى المطالبة بحقوقه وهذا الخطر بعينه، وبالتالي حان الوقت ليفهم القادة أن الإرهاب بأشكاله السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، هو الأقسى، ولو اختلفت أشكاله وصوَرُه، ولنذكر أن في جسد كل إنسان ، لصًّا اسمه النفس الأمّارة بالسوء، وفي جسد كل إنسان عدوٌ اسمه الشيطان، علينا أن نحذر منهما، وأننا في أمسّ الحاجة إلى الأُلفة والتعايش مع من حولنا بدلًا من أن يحارب أحدنا الآخر.


















