هل انتهت الحرب العسكريّة فبدأت الحرب السياسيّة !!

وتأبى الحرب الأخيرة في غزة، والتي تلت هجمات السابع من أكتوبر عام 2023، والتي انتهت قبل أسبوعين تقريبًا، مرّة أخرى، والتي أكاد أجزم أن مخرجاتها غير واضحة، إلا أن تثبت للقاصي والداني، ولكل من ساورته الشكوك، صدق المقولة إن ما قبل حرب غزة ليس كما بعدها، والتي تردّدت على ألسن الكثيرين خلال الحرب.

25.10.2025 מאת: المحامي زكي كمال
هل انتهت الحرب العسكريّة فبدأت الحرب السياسيّة !!

 

وتطرّقت إلى الهجمات ذاتها ومداها العسكريّ والجغرافيّ، ودوافع ومنطلقات متّخذي القرار  من حركة حماس حولها، وكذلك الردّ الإسرائيليّ العسكريّ  ومقتل نحو 70 ألف فلسطينيّ، والدمار الشامل تقريبًا الذي لحق بقطاع غزة، وتدمير أكثر من ثمانين بالمئة من منازله وبناه التحتيّة، إضافة إلى تأثيراتها على إسرائيل داخليًّا وكذلك على الفلسطينيّين والمنطقة والعالم. وليس ذلك فقط فإن المقولة أعلاه تبدو صحيحة أيضًا لمرحلة ما بعد الحرب، وتحديدًا إنّ ما كان في إسرائيل قبل الحرب على غزة لن يعود كما كان، بل إنها بداية مرحلة جديدة سياسيًّا واقتصاديًّا وعلى الصعيدين المحليّ،  وهو ما تعكسه أحداث داخليّة إسرائيليّة منها ردود الفعل بعد إعادة حماس 20 رهينة على قيد الحياة بفعل اتّفاق وقف إطلاق النار، وكون ذلك لم يهدّئ من حدّة الخلافات الداخليّة والتنافر السياسيّ، بل العداء بين مؤيّدي الحكومة اليمينيّة ومعارضيها وخاصّة أولئك الذين طالبوا منذ أشهر بصفقة تبادل تحقّقت متأخّرة،  وبين مؤيّدي الانقلاب القضائيّ – الدستوريّ ومعارضيه باعتباره في رأيهم سببًا لإقدام حماس على هجومها.  

 

 

وكذلك مجريات الأيام الأخيرة، وقرار الحكومة تغيير اسم الحرب من السيوف الحديديّة إلى حرب النهضة والبعث أو الانبعاث.  وكذلك على الصعيد الإقليميّ  إذ دفعت خطّة الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب لوقف الحرب في قطاع غزة، ودفع القوى الإقليميّة المتنافسة  ومنها مصر وتركيا والدول الخليجيّة، إلى التعاون وتجاوز الخلافات، ما يعني إعادة  رسم المشهد الجيوسياسيّ، وخاصّة ما يتعلّق بإضعاف التأثير الإيرانيّ، وفتح فرصٍ  جديدة أمام دول مثل تركيا ومصر والعراق، وكذلك فيما يتعلّق بالمشهد العالميّ وسنفصّل لاحقًا.

 

 

ما أقوله هو أنه حتى لو انتهت الحرب كما أعلن الرئيس الأميركي والوسطاء من الدول العربيّة والإسلاميّة، أم لا كما تقول إسرائيل الرسميّة، فستبقى عناوينها المتعلّقة بحكم غزة والدولة الفلسطينيّة ومستقبل حماس دون إجابات واضحة،  وفي هذه الجزئية أقول بوضوح إن نهاية الحرب في غزة لا تنهي الصراع، بل تفتح  أمام طرفيها أي إسرائيل وحماس، فصلًا جديدًا على الصعيدين الداخليّ والخارجيّ، يستوجب من الطرفين، إسرائيل وحماس،  وفي هذه المرحلة الدقيقة، استيعاب الدروس واستخلاص العبر من الحرب، خصوصًا في ظلّ  حقيقتين أوّلهما أن ميزان القوى العسكريّ يميل اليوم أكثر من أيّ وقت مضى لصالح إسرائيل خاّصة بعد إضعاف إيران وحزب الله واعتلاء الجولاني الحكم، واختلال ميزان القوى السياسيّ ربما لصالح الفلسطينيّين هذه المرّة، وربما مؤقّتًا بفعل سيل الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة،  وازدياد الضغط الدوليّ والعربيّ المستمر لمنع عودة الحرب بصيغٍ أخرى، والتوافقات التي تحاول  إلزام إسرائيل بالاتفاق ومنعها من فرض رؤيتها كاملة  وأهدافها  كلّها في اليوم التالي للحرب.

 

 

ومن هنا يبدو أن ما بعد وقف إطلاق النار ليس نهاية للحرب، بل بداية لتغيّر أعمق في الشأن الفلسطينيّ الداخليّ والخارجيّ، وكذلك الشأن الإسرائيليّ خاصّة الداخليّ والذي كانت أحداث الأسبوعين الأخيرين، وتغيير اسم الحرب وجلسة الكنيست لافتتاح دورتها الشتويّة والصراع غير المسبوق والعلنيّ الذي شهدته بين السلطة التشريعيّة والسلطة القضائيّة وبين المعارضة والائتلاف. وفي هذا ورغم الفارق الكبير إلا أن المتوقّع حدوثه لدى طرفي الحرب، يختلف كثيرًا بل يناقض ربما كافّة النظريات المتعلّقة بما بعد الحروب وما يحدث في الدول التي انتهت حروبها، فبعد انتهاء الحرب أو الأزمات الشديدة، تركّز الدول على إعادة الإعمار وإعادة الاستقرار من خلال ترميم البنية التحتيّة، وتنشيط الاقتصاد، وإعادة بناء النسيج الاجتماعيّ، وتشكيل حكومة مستقرّة غالبًا ما كانت توافقّية تسمى في إسرائيل حكومة وحدة وطنيّة أو طوارئ أو ما شابه، وضمان القانون والنظام، وطلب المساعدة الدوليّة

 

 

تشمل هذه الجهود توفير الرعاية الصحيّة والتعليم، والمصالحة الاجتماعيّة، وإعادة تأهيل السكان، بالإضافة إلى تسوية قضايا السلام والمفاوضات السياسيّة لضمان استدامة الأمان، لكن الحال في طرفي الحرب هذه المرّة سيكون كما تشير، بل تؤكّد ملامحه الأوليّة، مغايرًا ومخالفًا للغاية، تتحكّم فيه رغبات البقاء في السلطة ورفض التنازل عنها، وتزيده حدّة الخلافات الداخليّة الحزبيّة والعقائديّة، رغم ما يحمله ذلك من أبعاد تجعل دوام الهدوء والسلام، أمرًا صعبًا، بل من المحال، فالمصالح الضيّقة أقوى بكثير.

 

 

ليس ذلك فقط، فمفهوم القيادة لدى الحكّام لدى طرفي الحرب، أولئك الحاليّين على الأقلّ، لا يبشّر خيرًا، والدليل أنهم بدل بذل الجهود لكي تتعافى البلاد، بلادهم،  وبدل استخلاص العبر من ويلات الحرب العسكريّة، وملخّصها من طرف  حماس خاصّة والفلسطينيّين عامّة، أن ما كان لا يمكن أن يكون مرّة أخرى. وأن الرغبة في التفرّد  بحكم قطاع غزة وجعلها كيانًا شبه مستقلّ ينافس السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة ويحاول العيش في عالم موازٍ وسط انقسام فلسطينيّ وتنافر وقطيعة، وانتظار الحلول من الخارج انتهت إلى غير رجعة، وأنه وكما  يقول الدكتور نيل كويليام، زميل معهد تشاتهام هاوس للدراسات الاستراتيجيّة في بريطانيا، إنه ما لم يوحّد زعماء الفصائل الفلسطينيّة مواقفهم السياسيّة تجاه مستقبل غزة بعد الحرب، ويظهروا أنهم يقفون معًا في جبهة واحدة فإن الولايات المتحدة ستعمل مع إسرائيل والحرس القديم الفلسطينيّ الذي يثقون فيه من أجل فرض وضع سياسيّ في غزة يلائمهم، خاصّةً وأن الولايات المتحدة وإسرائيل ودولًا عربيّة عديدة منها  مصر والبحرين  والإمارات والمغرب،  إضافة للسعوديّة تريد، بعكس إسرائيل،  أن  تتولّى السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة مسؤوليّة الحكم في قطاع غزة بعد الحرب إلى جانب مسؤوليّتها في الضفة الغربيّة.

 

 

رغم أن أميركا تشترط ذلك بشرطين هما إدخال إصلاحات  في السلطة وإعادة تأهيلها للحكم في كلّ من الضفّة وغزة ، دون أيّ تطرق للقدس، لها في القدس وكذلك أن يتم نقل مسؤوليّة الحكم إلى السلطة بعد فترة انتقاليّة تتأكّد فيها إسرائيل أن الوضع في قطاع غزة لن يعود أبدًا إلى ما كان عليه قبل عمليّة "طوفان الأقصى"، مع الإشارة هنا إلى أن الحديث عن إصلاح السلطة الفلسطينيّة يعني بكلمات أقل دبلوماسيّة،  تسليم مقاليد السيطرة إلى شخصيّات تثق فيها إسرائيل والولايات المتحدة، ذهبوا إلى تأجيج الصراع والخلاف الداخليّ، عبر صدامات مسلّحة بين حماس ومسلّحين معارضين وإعدامات ميدانيّة وتصرّفات هي أبعد ما تكون عن محاولات إشفاء الحالة الداخليّة وتخفيف التوتّرات ومنع التشرذم والانقسامات الداخليّة، وضمان أمن المواطن وسلامته وقوت يومه، إضافة إلى استمرار الحديث عن سلاحين او عدة أسلحة فلسطينية ورفض أي فصيل فلسطيني في غزة، خاصة حماس والجهاد الإسلامي، التنازل عن سلاحه، بل ما يرشح عن أن كوادر كلّ فصيل فلسطينيّ هناك، ترفض أيّ تعاون مع الفصائل الأخرى استمرارًا لما كان منذ العام 2007، متناسين  وجود تيارين متوازيين لا سيطرة لهما على أيّ منها، الأول هو تزايد الاعتراف الأوروبيّ بالدولة الفلسطينيّة ترافقه انتقادات ودعوات لمعاقبة إسرائيل ومقاطعتها هي بين الجماهير أكثر منها حدّة وشدّة بين القيادات تجاه إسرائيل

 

أما الثاني فهو موقف الولايات المتحدة عامة ورئيسها دونالد ترامب خاصّة، والذي انعكس في بنود اتفاقيّة، أو خطة وقف إطلاق النار، وتحديدًا  ربط وقف إطلاق النار وانتهاء، أو إنهاء الحرب في غزة، ليس بحلّ الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلّة إلى جانب دولة إسرائيل، بل ربط ذلك بالحديث عن السلام  في الشرق الأوسط  عامّة ما يؤكّد أن ترامب يريد التعامل لا يعتبر وقف الحرب في غزة غاية، بل وسيلة لتوسيع نطاق  الاتفاقيّات العسكريّة مع دول المنطقة، كما حدث مع قطر ستليها في ذلك السعوديّة، وتعزيز السلام  الاقتصاديّ والتطبيع والاتفاقيّات الأبراهيميّة بدلًا من الحلّ السياسيّ الجذريّ ، ما يعني احتمال أن لا يكون وقف الحرب بأمر من ترامب، كما يعتقد كثيرون فلسطينيّون وعربًا، مدخلًا إلى إقامة دولة فلسطينيّة رغم التأييد الأوروبيّ والعربيّ ما يعني أن ذلك ضربة لإسرائيل، بل أن تتحول  غزة بالنسبة لإسرائيل من قضيّة إستراتيجيّة إلى قضّية أمنيّة، ومدخلًا لما تسميه واشنطن السلام الإقليميّ  واتفاقيّات أبراهام وما يسميه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في خطاباته أمام مؤيّديه، الشرق الأوسط الجديد، وبضمنه حالة ربما تكرّس  فصل غزة عن الضفة  وتحوّل دون ما أراده حماس من إقامة دولة  غزة، كدولة للفلسطينيّين، مع سلطة لحماس أو لغيرها، وباختصار العودة إلى ما قبل اتفاقيات أوسلو  عام 1993.

 

إسرائيليًّا لا يختلف الأمر، فنتنياهو ورغم انتهاء الحرب قبل أوانها بالنسبة له، ورغم إدراكه هو قبل غيره وفي قرارة نفسه أن الحرب العسكريّة ضد غزة، أثبتت أن التفوّق العسكريّ على الأرض لم يعد وسيلة مضمونة لحسم الصراع وتحقيق النصر المطلق الذي أراده نتنياهو ولا حتى النصر العادي، وأن إسرائيل لم تنجح، بعكس بدايات الحرب، بضمان أو حتى احتكار دعم الرأي العام الدوليّ، أو السيطرة عليه كما اعتادت لعقود طويلة، خصوصًا في العالم الغربيّ، فرغم  أن المجتمع الدوليّ، بما في ذلك الأمم المتحدة، والمحكمة الجنائيّة الدوليّة، والمنظّمات الحقوقيّة العالميّة،  فشل في وقف الحرب والضغط على إسرائيل للحدّ من حجم الدمار والمعاناة الإنسانيّة في القطاع على مدى عامين من الحرب على غزة، إلا أن الشعوب كانت الفاعل الحقيقيّ الذي نجح في كسر صمت العالم، وبدلًا من محاولة تصحيح ما يلزم تصحيحه، وإعادة اللحمة الداخليّة الإسرائيليّة وتعزيز الوحدة وتخفيف التوتّرات السياسيّة والطائفيّة، اتّجه رئيس الوزراء الإسرائيليّ مباشرة إلى الحرب على الذاكرة، متسلّحًا بدعم ترامب الواضح له خلال زيارته إلى البرلمان الإسرائيليّ،  وهو مديح سخّره نتنياهو ومؤيّدوه، ليس لغرض استخلاص العبر من الحرب بل كبداية  لحملة نتنياهو الانتخابيّة المقبلة، فها هو ترامب رئيس الدولة الأعظم في العالم يدعم إسرائيل ونتنياهو سياسيًّا ومعنويًّا، ويتعهّد بالحفاظ على أمن إسرائيل.

 

ومن هنا عاد نتنياهو إلى عادته القديمة وحروبه الداخليّة السابقة ضد السلطة القضائيّة وأصحاب المناصب الرفيعة في الجيش والموساد والشاباك، وآخرها التسريب المقصود، أن رئيس الموساد دافيد برنياع كاد يفشل عمليّة البيجرات ضدّ حزب الله، على خلفيّة إرسال بعضها إلى إيران لفحصها،  واستمرار الانقلاب القضائيّ، وتعزيز التنافر المجتمعيّ والانقسام السياسيّ وسنّ القوانين التي تشرعن الفساد الحكوميّ، وتعزّز سيطرة الرجل الواحد، متناسيًا ما أكّده ترامب قولًا في البرلمان وفعلًا عبر فرض اتفاق وقف إطلاق النار والزام نتنياهو بالاعتذار لقطر عن مهاجمة الدوحة،  من أن مواقف نتنياهو وحكومته وإصراره على مواصلة الحرب بهدف البقاء السياسيّ، ألحق الضرر بإسرائيل، وأدخلها إلى منزلق العزلة السياسيّة الدوليّة، وبالتالي جعل أمن إسرائيل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بقدرات  ومواقف الولايات المتحدة الدولة العظمى، ما يعني أنه  دون الدعم الأميركيّ العسكريّ، وتزويد إسرائيل بالأسلحة المتطوّرة، والمساندة الاقتصاديّة والدبلوماسيّة، ما كانت إسرائيل لتتمكّن من مواجهة جبهات متعدّدة، ولا من الصمود أمام الضغوط الاقتصاديّة والعزلة الدولية المتزايدة،

 

وباختصار فقد أكّد ترامب مواصلة دعم إسرائيل سياسيًّا وعسكريًّا، لكنّه كشف حدود قوّتها وكامل اعتمادها على واشنطن، ملمّحًا إلى أن السلوك العدوانيّ للحكومة الإسرائيليّة  وقصفها مواقع عديدة في الشرق الأوسط كان مقصودًا ويهدف إلى ضمان بقائها، بمعنى تفضيل مصالحها الخاصّة على المصلحة العامّة، ومحاولة خلق سرديّة، أو رواية تحاول جعله القائد المنتصر، عبر محاولة حكومته  لتأثير على وعي الإسرائيليّين، ومحاولة صياغة واقع جديد يجعل الحرب المنتهية، حربًا وجوديّة تستحق التضحية، عبر تسمية رنّانة تعيد إلى الأذهان الوضع عشية قيام الدولة عام 1948،  وذلك لزيادة احتمالات البقاء في السلطة، ومنع أو تأجيل أي انهيار  محتمل للائتلاف الحاكم نتيجة خلافات داخليّة، ما سيعني انتخابات عامّة مبكرة، بمعنى تكريس اسمه وتعزيز سلطته وكبت مناوئيه ووصمهم بالخيانة، بدلًا من الإدراك لضرورة الإصلاح الداخليّ، وإعادة اللحمة وتعزيز الديمقراطيّة، وفوق ذلك استخلاص العبر من أن مواصلة الاعتماد على القوة العسكريّة فقط دون السعي إلى تعزيز الوسائل الدبلوماسيّة في مواجهة الفلسطينيّين ودول المنطقة، ومواصلة الانقسام الداخليّ بهدف البقاء في السلطة، هي أمور خطيرة على إسرائيل نفسها  ونتائجها لا تحمد عقباها.

 

يبدو أن، ما سبق فلسطينيًّا وإسرائيليًّا ، يؤكّد مشكلة كبيرة تعانيها المنطقة خاصّة والعالم عامّة، تتعلّق بمفهوم القيادة، رغم الحرب الأخيرة التي كانت صفعة مؤلمة للجميع، فالقيادة  الحقيقيّة لا تعني فقط قيادة مؤيّديك وجمهورك الواضح والمعروف، بل هي القدرة على إقناع قادة آخرين بالانضمام إليك عبر فهم صحيح لخريطة المصالح، واستغلال ذلك لمصلحة القائد أو طروحاته، عبر خلق علاقة تكامليّة بين القائد الفذ الذي يبحث دائمًا عن تأييد الجماهير ومحبّتها، بل إعجابها وتصفيقها، وبين جمهور يعتبر القائد الشخصيّة المثلى والجديرة بالتقليد ، وهو ما يسميه فرويد " الأنا المثالي"، أي الشخصيّة المثاليّة التي نصبو إليها ونتمنّى أن نتشبّه بها، وبالتالي يصل الحال إلى تماهٍ تامٍّ بين قائد فذّ يدرك قراءة ما يعتمل في نفوس مؤيّديه ومواطنيه، ورغبتهم الشديدة بل غير القابلة للسيطرة، في شخصيّة الأب الذي هو الوحيد القادر على حمايتهم والدفاع عنهم وقياداتهم إلى برّ الأمان،  وبالتالي  يؤيّدون هذا الزعيم مهما فعل، وأينما ذهب وبعد كل خطاب، وبعد كل فشل وفي كلّ الظروف، وهو حالة قد تكون خطيرة تمنع أي محاولة للحكم الموضوعيّ على تصرّفات القائد، وتفسّر كلّ محاولة لتصحيح مساره على أنها مؤامرة ضدّه، ودولة عميقة تريد المسّ بهم عبر المسّ بقائدهم، أو المسّ بكرامتهم الوطنيّة. وهو الحال تقريبًا في طرفي الحرب الأخيرة

 

فالدعوة إلى  الاعتراف بالمسؤوليّة وضرورة حساب ذات من حماس تعتبر تخاذلًا ومطالبة حماس بتفضيل المصلحة العامّة على مصلحتها الخاصّة هي تنازل عن الثوابت، ودعوتها إلى التنازل عن السلطة خيانة، والتلميح إلى إمكانية تسليم سلاحها هو ضعف وتعاون مع إسرائيل، ومؤامرة ضد حقوق الشعب الفلسطينيّ، أما الدعوة إلى سلام داخليّ،  ومحاولة  احتواء الخصوم  تنازل  وضعف ، وبالتالي كلّها أمور مرفوضة، دون أيّ اعتبار لمعاناة المواطنين ومأساتهم،  ورغم القول الشهير للمحلّل السياسيّ  الفرنسيّ جان بيير فيليو،  الذي زار غزة  نهاية العام الماضي 2024 وبداية العام الحالي 2025، من أن غزة التي نعرفها لم تعد قائمة، فالمواطن فيها ينتظر المساعدات، وينتظر الهدنة، ويترقّب وقف إطلاق النار، وينتظر الموت، وكذلك في إسرائيل فالحديث عن ضرورة فحص ما حدث والتحقيق في الإخفاقات  عبر لجنة تحقيق رسميّة هو في نظر" جمهور مشجعي نتنياهو" مؤامرة تهدف إلى الإطاحة بحكم اليمين،  والجهاز القضائيّ وحتى الاحتجاجات الشعبيّة وقضاة سابقون متقاعدون في المحكمة العليا متّهمون بمسؤولية الحرب وآلاف القتلى والجرحى من الإسرائيليّين وليس الحكومة ورئيسها منذ نحو 18 عامًا، ومظاهرات أهالي الرهائن خيانة ومسّ بالثوابت.

 

والدعوة إلى وقف الحرب ومنع المسّ بالمدنيّين الفلسطينيّين خيانة، والحديث عن ضرورة وقف الانقلاب الدستوريّ تصرّف يساريّ انهزاميّ وتعاطف مع الفلسطينيّين، وبين هذا وذاك دونالد ترامب المغرم بإشارات الإعجاب والتصفيق  حتى الثمالة ، وقد نال منها الكثير خلال الأسابيع الأخيرة، لثلاثة أسباب؛ أوّلها أن وقف  الحرب لم يكن ليحدث دونه هو، وثانيها أنه زعيم يحب التملّق والجمل التي تؤدّي إلى تضخيم الأنا الترامبيّ، وثالثها أن نجاحه في تحقيق الهدوء والسلام في غزة والمنطقة هو أمر يمكن للقادة في كلا أطراف الحرب الركوب فوقه واستغلاله لأهدافهم، سواء كان ذلك إسرائيل أو حماس، أو حتى الوسطاء ومنهم قطر وتركيا والسعوديّة ومصر، كما أن فشله يصب في مصلحتهم خاصّة وأن وقف اطلاق النار تم فرضه من فوق على إسرائيل وحماس.

 

وهذه حالة خطيرة ربما خاصّة في مرحلة ما بعد النزاع، ففرض الاتّفاق يعني من طرفي النزاع إعفاءهم من المحاسبة على المدى القصير، قد يُشجّع أما على المدى الطويل، فبإمكانه أن يقوّض ديمومة  وثبات التسوية، أيًّا كان مضمونها، فهل يصدق في هذا قول المؤرّخ الأمريكيّ الشهير ديفيد مكلا من أنه "لا يمكن لإنسان ضمان النجاح التامّ، ولكنه يمكنه فعل أكثر من ذلك وفقط أن يكسبه بنزاهة"، وهل يدرك الجميع ضرورة ضمان الأمن ومنع الحروب التي تشنها الحكومات فتحرق الأخضر واليابس وتفسد المواطنين كما قال تولستوي:" إن الحرب التي تشنّها الدولة تفسد الناس في عام واحد أكثر ممّا تفسدهم ملايين جرائم النهب والقتل التي يرتكبها الأفراد في ملايين السنين"، وبكلمات أدقّ هل يدرك القادة ذلك أم أنهم في نظر أنفسهم الأهمّ وبقاء سلطتهم وسطوتهم هو الغاية الوحيدة، وهل انتهت في غزة حرب عسكريّة لتبدأ أخرى داخليّة، بوسائل سياسيّة وحزبيّة تقصي الخصوم؟؟ وهي لا تقلّ خطورة عن تلك العسكريّة، وباختصار: هل هي نهاية الحرب والصراع أم بداية التحضير للمواجهة القادمة وتحيُّن الفرصة لذلك؟؟

 

ولنتذكر قول الكاتب فيكتور هوغو: "يُغيّر الإنسان ملابسه مرّة بعد مرة ليحافظ على نظافته،  بينما يحتفظ بأفكار هي أشدّ اتّساخًا من ملابسه وأغرب من ذلك أنه يدافع عنها !!!

 

أجل، نحن نعيش في منطقة قادتها يعرفون الحقيقة بأن الحرب لا نصر فيها، لكنّه الدمار والهدم للبنيان والإنسان على حدٍّ سواء، دون فرق في الدين والقوميّة أو الأرض.

 

תגובות

מומלצים