انتخاب زهران ممداني هل هو قمّة الديمقراطيّة أم حدث عابر أم عِبرة؟
مرّة أخرى كان الرابع من نوفمبر تشرين الثاني من هذا العام 2025، يوم الناخب في ولاية نيويورك التي يعتبرها الكثيرون الأهمّ في أميركا، وربما تضمّ أكبر تجمّع لليهود، يومًا وحدثًا أميركيًّا بامتياز، بل محط أنظار العالم عامّة وإسرائيل وواشنطن دونالد ترامب خاصّة
متزامنًا مع مرورعام كامل منذ الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة الأخيرة والتي انتصر فيها ترامب الجمهوريّ على كامالا هاريس الديمقراطيّة،
فاعتبرت إسرائيل ذلك نصرًا لها وهزيمة لخصومها، وبداية عهد جديد، وجاءت خصوصيّة الرابع من نوفمبر هذا العام، بفعل أمرين أوّلهما النتيجة النهائيّة للانتخابات لمنصب عمدة نيويورك.
وهي فوز المرشح الاشتراكيّ والمسلم المهاجر إلى أميركا الحائز على ترشيح الحزب الديمقراطيّ الأمريكيّ، الشاب زهران ممداني على منافسيه من الحزبين الجمهوريّ المدعوم من ترامب، والديمقراطيّ الذي تخلّى عن مرشحه وعاد لدعم حاكم الولاية السابق أندرو كوومو،
في حالة تثير أسئلة كثيرة وكبيرة أثبتت في جوهرها خطأ أولئك الذين استغربوا حجم ومدى الاهتمام العالميّ بهذه الانتخابات، واعتقدوا كما في السابق أن العالم لن يتأثّر بهذه الانتخابات فهي حدث داخليّ في الولايات المتحدة، تقلّ أهميّته في نظر الأميركيّين عامّة عن أهمية انتخابات نصف الولاية وحتمًا الانتخابات الرئاسيّة، وصولًا إلى قناعة تامّة أن نتيجة الانتخابات وفوز ممداني، تحمل في طيّاتها أبعادًا هامّة وكثيرة للغاية، يجب الاعتراف هنا وبحقّ.
إنها كانت واضحة وجليّة أمام إدارة ترامب من جهة وإسرائيل واللوبي الصهيونيّ ومؤيّدي إسرائيل من كبار رجال الأعمال والمؤثّرين والسياسيّين، وأنها كانت السبب في محاربتها ممداني ومحاولاتها منفردة ومجتمعة منع انتخابه، متيقّنة من أنها لن تكون حدثًا لمرّة واحدة وأنها ليست نزوة نيويوركيّة مؤقّتة، بل إنها وتحديدًا زهران ممداني صاحب القناعات الديمقراطيّة الاشتراكيّة تشكّل رمزًا ومقدّمة لتحوّلات عميقة يشهدها المجتمع الأميركيّ ربما منذ بداية القرن الحادي والعشرين وأحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001 ، والتي تمثّلت باتباع الإدارات الأميركيّة المتعاقبة في واشنطن منذئذ سياسة خارجيّة تتّسم بالعسكرة والتوسّع واجتياح دول عربيّة وإسلاميّة منها أفغانستان والعراق،
وسياسة داخليّة متشدّدة تتسم في بعض ملامحها بالتطرّف العرقيّ ضدّ فئات معيّنة دون غيرها، وهي نزعات كانت قائمة وماثلة لكنها لم تحظَ بما تستحقّ من اهتمام إعلاميّ، بل اختفت في العناوين والصفحات الداخليّة تاركة الساحة للأصوات المرتفعة المعبّرة عن التطرّف والتعصّب العرقيّ والسياسيّ الداخليّ والخارجيّ نتيجة لتبعات الحادي عشر من سبتمبر وحالة وصفها البعض بالبارانويا والشعور بالخطر الوجوديّ،
وبضمن ذلك التوجّهات القوميّة المتزمّتة التي نمَّاها دونالد ترامب ومؤيّدوه في الولايات المتحدة وخارجها، متناسين ما كان متوقّعًا بل كان موجودًا وملخّصه تنامي جماعات ومجموعات وفئات عمريّة، ترفض التطرف من جهة والإقصاء من جهة أخرى، كما ترفض أن تكون السياسة الداخليّة الأميركيّة وانتخابات محليّة، مرهونة بمواقف سياسية خارجيّة أوّلها بل أهمّها مدى الولاء لإسرائيل، وليس لمواطني الولايات المتحدة.
انطلاقًا ممّا سبق، فإن فوز ممداني في الانتخابات لمنصب عمدة نيويورك رغم حملات معارضة من الجمهوريّين عمومًا ومناصري ترامب خصوصًا، وكذلك بعض الديمقراطيّين، يحمل رغم كونه حدثًا داخليًّا، معانٍ ودلالات هامّة، من المرجح أن تنعكس لاحقًا على السياسات الأميركيّة داخليًّا وخارجيًّا، وتعبّرعن صراع يشتدّ في المجتمع الأميركيّ، خاصّة وأنه حدث شهدته مدينة هامّة يسمّيها كثيرون عاصمة المال في العالم،
ومدينة هي الرأسماليّة بكامل تفاصيلها وجوانبها، فهي تجمع فئات متناقضةً اقتصاديًّا. وتتراوح أحوال مواطنيها الاقتصاديّة بين الغنى الفاحش، فدونالد ترامب أحد مواطنيها وغيره من أصحاب رؤوس الأموال، وبين الفقر المدقع، فهي كما قال عنها عمدتها الجديد ممداني، مدينة المهاجرات والمهاجرين، وتشمل أصولًا عرقيّة واجتماعيّة ومرجعيّات دينيّة متنوّعة، منهم نحو مليون يهوديّ( من أصل 8 مليون نسمة)، من العلمانيّين والمتديّنين المتزمّتين خاصّة في الحيين الشهيرين مانهاتن وكوينز، ورغم ذلك فإن تأثير اللوبيات المؤيّدة لإسرائيل ومجموعات الضغط اليهوديّة قويّ للغاية تعزّزه القوة الاقتصاديّة التي يملكها اليهود، وتترجم إلى قوة سياسيّة، وتأثير على أصحاب القرار السياسيّ هناك، وفي واشنطن أيضًا.
أهميّة فوز ممداني، تزداد وضوحًا خاصّة وأنه لم ينافس مرشّحًا ديمقراطيًّا أو جمهوريًّا فحسب، بل إنها كانت ربما المرة الأولى التي تتدخّل فيها الرئاسة الأميركيّة بشكل واضح ومباشر في انتخابات محليّة، وبالتالي فإن هذا الفوز وتزامنًا مع أصوات أخرى لعمدة مدن وولايات أميركيّة أخرى تتعلّق بقرارات ترامب خاصّة حول الحرس الوطنيّ. ومن هنا فإنه سوف يشجّع سياسيّين آخرين على مواجهة سياسات ترامب ومحاولاته فرض سطوته على حكام الولايات وإجبارهم على تنفيذ رغباته، وسيفهم السياسيّون أن حشد الطاقات المحليّة والتأييد الجماهيريّ المحليّ من شأنه أن يساعد في مواجهة قرارات ترامب التي تتسم بالشعبويّة، والدليل المظاهرات التي شهدتها ولايات أميركيّة ترفض تدخّل الحكم المركزيّ في واشنطن في شؤونها الداخليّة،
وجاءت تحت شعار "لا للحكام المطلقين"، إضافة إلى كونها، وكما قال ممداني نفسه، بداية عهد جديد، يعني ربما عودة، أو استعادة قوة الطبقات العاملة والمتوسّطة في المجتمع الأميركيّ، ومطالبتها بالمساواة وتشريعات تضمن المساواة والعدل، ولا تصبّ في مصلحة الأثرياء، بل تأخذ بعين الاعتبار أيضًا أن قضايا داخليّة وخارجيّة تتشابك معًا ومنها قضيّة المهاجرين والضرائب والجمارك وغيرها، فممداني يرحّب بالمهاجرين ويعتبرهم جزءًا عضويًّا من نيويورك مقابل ترامب الذي يعتبرهم تجّار مخدرات وقطَّاع طرق،
ويطالب بترحيل المهاجرين غير الشرعيّين، أو في الاقتصاد بفرض تعريفات جمركيّة باهظة، وإضافة إلى ذلك، يؤكّد فوز ممداني الذي قدّم نفسه بديلًا نزيهًا لطبقة سياسية قال إنها فاسدة وفاشلة أوصلت نيويورك إلى الحضيض، دون أن تسمح بأيّ تغيير، ودون اعتبار لمواقف الشباب والطبقات الضعيفة، فجاء قرار سكان نيويورك ليقول إنهم بغالبيّتهم، خاصّة من الشباب واليساريّين، سئموا تكرار الوجوه السياسيّة والقيادات التقليديّة، ورفضوا التصويت لعمدة تقليديّ أو سياسيّ مخضرم، بل أرادوا زهران ممداني.
ومن هنا فانتخابه يشكّل تحوّلًا في الحياة السياسيّة للمدينة، ملخّصه مشاركة فئات كانت مهمّشة سابقًا في تحديد معالم المشهد السياسيّ، وتغيير المفاهيم السائدة حول التحالفات ومشاركة الناخبين، وهذا ما أثبتته أعداد المشاركين في التصويت حيث صوَّت هذه المرة أكثر من مليونَيْ شخص من بين 4.7 ملايين من أصحاب حقّ الاقتراع. وهي نسبة لم تحدث منذ عام 1969، والنتيجة انتخاب أول عمدة مسلم، ومن أصول جنوب آسيويّة في تاريخ نيويورك، بينما أميركا تتأرجح بين تصاعد القوميّة البيضاء والحاجة الملحّة إلى التغيير.
التصويت لممداني وبالتالي هو، كشف تيارات كانت خفيّة، لكن ملامحها بدأت تتّضح بعد أشهر من بداية الحرب في غزة، تتعلّق بمدى الدعم الذي يبديه عمدتها كغيره في أماكن أخرى من الولايات المتحدة، والمساعي المبذولة لمنع الجيل الشاب خاصّة من أنصار الحزب الديمقراطيّ من التعبيرعن مواقفهم التي تطالب بوضع حدّ لتقديم المساعدات السخي وغير المحدود من الولايات المتحدة إلى إسرائيل على حساب ميزانيّات أمكن توجيهها وتخصيصها لرفاهية المواطن الأمريكيّ وتخفيف العبء الضريبيّ عنه،
وتحسين الخدمات الصحيّة وتخفيف مديونيّة أميركا والتي تقدّر بعشرات تريليونات الدولارات (37 تريليون دولار أي 37000 مليار دولار)، والمطالبة بوضع القضايا المحليّة في مقدّمة سلم الأولويات ومنها الصحة والتعليم والاقتصاد وقضايا الفقر، أي عودة ما إلى الخطاب الاشتراكيّ وحتى اليساريّ الذي كان قد اختفى في الولايات المتحدة بسبب انشغال إداراتها المتعاقبة بقضايا خارجيّة منها الحرب في أوكرانيا وإيران والحرب في غزة وغيرها، مع تجاهل القضايا المحليّة،
وربما يعني الجماهير ربما أصبحت تتوق إلى خطاب آخر مختلف عن الخطاب اليمينيّ الذي صعد بقوة كبيرة في السنوات الأخيرة في الولايات المتحدة خاصّة، وفي الغرب عمومًا، خاصّة وأنه ركّز طوال حملته الانتخابيّة، على تحقيق وعود تعتبر بالغة الأهميّة، بالنسبة لحياة سكان نيويورك، الذين يعانون أوضاعًا اقتصاديّة صعبة وارتفاعًا كبيرًا في الأسعار، فأكّد مركزيّة برنامجه الاقتصاديّ والاجتماعيّ وملامحه تشمل تجميد الإيجارات، لنحو مليوني مواطن من ذوي الدخل المحدود، وتوفير خدمات نقل ورعاية أطفال مجانيّة، إلى جانب مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة في واحدة من أغلى مدن العالم.
فوز ممداني يحمل أبعادًا خارجيّة أيضًا، خاصّة فدعم إسرائيل كان يُعدّ أمرًا حتميًّا وضروريًّا لمَن يريد أن يكون سياسيًّا في نيويورك التي يتمتّع مؤيّدو إسرائيل فيها بتأثير بالغ، وبالتالي فإن هذا الفوز رغم مواقف ممداني المنتقدة لإسرائيل والداعمة لوقف الحرب في غزة وإعلانه أنه لن يزور إسرائيل فور انتخابه بعكس المرشحين الباقين،
بل إنه سوف يعتقل بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيليّ إذا وصل نيويورك، يثبت أن هناك تغيّرًا كبيرًا في مواقف وآراء الأميركيّين وخاصّة الشباب منهم تجاه إسرائيل، حتى وصل الأمرإلى توجيه انتقادات واسعة لبعض رجال الدين المسيحيّين جراء استمرار دعمهم لإسرائيل، فضلًا عن ازدياد أعداد الأميركيّين الذين يتساءلون دون خوف عن ماهية الأسباب الحقيقيّة لدعم الولايات المتحدة لدولة إسرائيل، وما الذي تجنيه الولايات المتحدة من تحالفها هذا،
وهذا ما أكّده فوز ممداني رغم الملايين من الدولارات التي أنفقها المليارديرات المؤيّدين لإسرائيل لمنع فوزه، ولذلك يرى كثيرون أن فوزه يعني شرخًا كبيرًا بين النخب والشارع في الولايات المتحدة وأوروبا أيضًا، وأن الجماهير في العالم الغربيّ باتت تحمل رؤى مختلفة بشدة عن النخبة فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينيّة وإسرائيل. ومن الواضح أن مواقف ممداني المؤيّدة للفلسطينيّين والمنتقدة لإسرائيل والتي كانت في السابق عقبة لا يمكن تجاوزها في طريق الفوز بمنصب عمدة نيويورك ، كانت هذه المرة من أهمّ أسباب نجاح ممداني في مدينة تُعدّ أكبر مركز لليهود في العالم خارج إسرائيل.
هنا يجب القول إن نجاح ممداني يشكّل ناقوس خطر على الجمهوريّين والديمقراطيّين على حدّ سواء فانتخابات نيويورك ونتائجها تشكّل أمام الحزبين صورة حقيقية للحال، ملخّصه أنهما بمواصلة تمسّكهما بالنخب القديمة والطروحات المتوارثة محليًّا وخارجيًّا، إنما يعمّقون من حجم الهوة التي تفصل بينهما وبين الناخبين خاصّة من جيل الشباب الذين يريدون حياة أفضل وفرص عمل أكثر وعمدة يهتمّ بمصالحهم، وليس بإرضاء مموّليه وداعميه المؤيّدين لإسرائيل، والدليل هو انتخاب عمدة مسلم واشتراكيّ معارض لإسرائيل في مدينة كانت صبغتها واضحة ومؤيّدة لإسرائيل بمسيرات سنوية تقليديّة داعمة لها.
وهو استمرار لتغييرات بطيئة لكنها متواصلة في الشارع الأمريكيّ تجاهلها الساسة حتى هذه الانتخابات، التي اتضح بعدها أنه لا يمكن بعد اليوم تجاهل تأثيراتها التي يمكن أن تنعكس، أو تصل حتى الانتخابات النصفيّة التي ستشهدها الولايات المتحدة في نوفمبر تشرين الثاني القادم وتزامنًا مع الانتخابات البرلمانيّة في إسرائيل، هذا إن جرت في موعدها، وذلك رغم أن ممداني لا يمكنه الترشح لرئاسة الولايات المتحدة الأميركيّة، إذ ينصّ دستورها على أنه لا يمكن لمن لم يولد في الولايات المتحدة أن يترّشح لرئاستها، بعكس باراك أوباما الذي ترشّح وفاز رغم محاولة الكثيرين منعه عبر التشكيك بوثائق تثبت أنه ولد في أميركا.
ولعل أفضل دليل على تأثيرات انتخاب ممداني، هو ما شهدته استوديوهات التلفزة ووسائل الإعلام المختلفة حول الانتخابات، حيث صوَّرت ممداني بأنه تهديد ليس فقط ليهود نيويورك والولايات المتحدة، بل لدول أوروبيّة وغيرهم في العالم، فضلًا عن مواقع التواصل الاجتماعيّ والتي سادتها حالة خوف بعد بثّ إعلان انتخابيّ لممداني يتحدث فيه باللغة العربيّة،
وبعد إعلان باراك أوباما الرئيس الأسبق تأييده له، وإصرارها على ذكر الاسم الثلاثي له وهو "باراك حسين أوباما" بدلًا من باراك أوباما، وردود الفعل السياسيّة الإسرائيليّة، بعد فوزه وربط هذا الفوز بمواقفه من الحرب في غزة ودعمه للفلسطينيّين، وغير ذلك من المواقف التي اعتبرتها وسائل الإعلام الإسرئيليّة مواقف معادية للسامية، رغم أن النتائج تؤكّد أن نحو 40% من يهود نيويورك أيّدوا ممداني،
مع فارق بسيط في هذا السياق، لكنه يثير قلق إسرائيل، وهو أن باراك أوباما وعندما اتهمه البعض أنه لا يؤيّد إسرائيل بالشكل الكافي، حاول عبر مستشاريه والناطقين بلسانه خلال حملته الانتخابيّة، تفنيد ذلك عبر زيارات متكرّرة لاوباما للكنس اليهوديّة وكلمات أمام المنظمات اليهوديّة، وإعلان تأييده لإسرائيل وعلاقته الخاصّة بها، وكل ذلك لإقناع اليهود بأن سياساته ومواقفه لن تحيد عن مسار الدعم التقليديّ والدائم لإسرائيل، وهو ما كان فعلًا فهو لم يقوّض الأسس التي بنيت عليها العلاقات بين أميركا وإسرائيل،
ولم يقلّص أو يوقف الدعم الماليّ السنويّ لإسرائيل والذي بلغ في فترته أرقامًا قياسيّة، رغم توقيعه الاتفاق النوويّ مع إيران، بعكس ممداني الذي لم يخف مواقفه المناوئة لسياسات إسرائيل، بل أكدها أمام الملأ وفوق ذلك فهي المرة الأولى التي يفوز فيها مرشح مسلم في الانتخابات التمهيديّة للحزب الديمقراطي، وكلنا نذكر هزيمة المرشح جمال باوفن ، والذي كانت مواقفه معارضة لإسرائيل حتى بعد السابع من أكتوبر تمامًا كمواقف النائبتين في الكونغرس إلهان عمر وداليا راميرز والنائب من تكساس آل غرين.
خلاصة القول، أن انتخاب ممدان يعني أن ناخبيه قبلوا أن يخوضوا معه مسيرة من استيضاح الحقائق وفحص الأمور والبحث عن بدائل للقيادة التقليديّة التي تعتقد أنها تفهم أكثر من غيرها، وأن لا بديل لها. وهذه قيادات تعترف بادعائها هذا أنها منفصلة عن ناخبيها وشعبها وبالتالي زائلة، حتى أنه قال إنه وفي هذه الفترة التي يخيّم فيها ظلام سياسيّ، ستكون نيويورك هي النور، وأنها ستظهر للأمة الأميركية التي خانتها قياداتها، وتحديدًا ترامب، كيف يمكن الانتصار عليه، وفي هذا رسالة هامّة يجب الاقتداء بها في الشرق الأوسط بما فيه إسرائيل والمجتمع العربيّ فيها الذي تزكم فيه الأنوف رائحة الفساد السياسيّ والتسلّط القياديّ التقليديّ، بل المتحجّر الذي يرفض التغيير رافضًا إمكانيّة نشوء قيادة تتطلّع إلى المستقبل وترنو نحو التغيير.
وختامًاـ ومن أجل الشفافية فإن نتائج الانتخابات النيويوركيّة وتبعاتها كانت موضوع حوار ونقاش فكريّ ومفتوح وأخوي مع صديق لي في دولة عربيّة صاحب الخبرة والتجربة السياسيّة والاقتصاديّة، ومناصب عديدة وزاريّة، تخلّله عصف أفكار حول القيادات وضرورة التغيير يلخّصها هذا المقال عبر دعوة للتغيير وإفساح المجال أمام الوجوه الجديدة والتوجّهات الجديدة وخوض النقاش الحضاريّ، وعدم الإقصاء وعدم صبغ الناس بصبغات ومواقف تشكّل مواقف مسبقة، بل السعي إلى الجديد وعدم الخوف من التغيير عملًا بالقول الشهير لأنطونيو دانجيلو: " لا تخف من التغيير بل اعتنقه". وهو أمر يبدأ من تغيير الذات عملًا بقول تولستوي:" الجميع يفكّر في تغيير العالم لكن لا أحد يفكر في تغيير نفسه" وباختصار فإن انتخاب ممداني يؤكّد أهميّة التغيير وكونه ممكنًا .. إذا بدأنا بتغيير الذات.. وهي رسالتي إليكم إزاء ما نعيشه في شرقنا ومجتمعنا.. فالإنسان يستطيع أن يغيِّر مستقبله عندما يغيِّر نفسه.
وإنني على ثقة بأن زهران ممداني لو جاء إلى أي دولة في الشرق الأوسط لما حصل حتى على الإقامة الدائمة، فكيف سيكون العامل البسيط، أو الموظف الذي يعيش تحت رحمة المسؤولين عنه. وفي هذا السياق أي انتخاب عمدة نيويورك يؤكّد بأن إرادة الإنسان هي أقوى وسيلة للوصول إلى القمة وأيضًا التغيير ولكنني أخشى أن يستغل هؤلاء المتزمّتين والمضلّلين والعابثين بحقوق من هو ليس منهم، ليدفعوا الذين أيّدوا التغيير في نيويورك بواسطة نشاطات ضدّ من يعتبرونهم كُفّارًا وخارجين، وهكذا يكون هذا الانتخاب حدثًا عابرًا بدلًا من أن يكون نهجًا ممكنًا، وكم بالحري بأن الديمقراطية يجب أن يحميها من يؤمنون بها، وليس من يصلون بواسطتها، وبعد أن يصلوا إلى سدّة الحكم وقمته يعملون على الاستبداد والحكم المطلق باسم الشعارات والدماغوغيّة .
أجل، من يريد أن يكسب المناصب بواسطة الديمقراطيّة عليه أن يحترم الرأي الآخر، وأن يقبله وليس أن يلغيه. الديمقراطيّة هي ثقافة تبدأ في البيت وتستمر في المدرسة وتمتدّ إلى كل حيّز وحيّز، لأنه لا بديل لحرية الكلمة وقيمة الإنسان واحترام حقوقه وصون أمنه وحياته.
ولنذكر ما قاله الكاتب مبخائيل نعيمة:"قبل أن تفكّروا بالتخلّص من حاكم مُستبد تخّلوا عمّا يستبد بكم من عادات سيّئة وتقاليد سوداء". والأحرى أن نفصل الدين عن السياسة، لأننا بحاجة إلى روحانيّات ومعاملة حسنة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وهذا صلب كلّ دين ودين .


















