إسرائيل و"حماس

إسرائيل و"حماس" حرب بينهما، وحرب مشتركة لهما ضدّ السلطة الفلسطينيّة, لم تكن تصريحات زعيم الأغلبيّة الديمقراطيّة في مجلس الشيوخ الأميركي تشارلز (تشاك) شومير يوم الخميس الماضي، حول استمرار الحرب في غزة، والانتقادات اللاذعة التي وجّهها لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خاصّة تلك التي اتّهمه فيها بأنه يطيل أمد الحرب لأهداف سياسيّة شخصيّة، مجرّد تصريحات أراد عبرها

23.03.2024 מאת: المحامي زكي كمال
إسرائيل و"حماس

إيقاظ حكومة إسرائيل الحاليّة وتنبيهها من مغبّة وأخطار وربما ويلات تصرّفاتها ونهجها في الحرب الحاليّة في غزة، وعدم طرح خطّة سياسيّة ترفد تلك العسكريّة، وتدعمها وتقودها واضعةً تصوّرًا واضحًا لنهايتها ونتائجها الختاميّة، كما لم تكن مجرّد عبارات صادرة من القلب من يهوديّ أميركيّ  يؤيّد إسرائيل ويدعمها منذ عقود، ويعتبر  المدافع الأكبر عنها حتى في وجه حكومته وحزبه الديمقراطيّ.

 

 

ويكفي أن نذكر هنا أن شومير كان واحدًا من اثنين من أعضاء الحزب الديمقراطيّ اللذين عارضا الاتفاق النوويّ مع إيران، خلال عهد أدارة الرئيس الأميركيّ الأسبق الديمقراطيّ باراك أوباما،  حين صوَّت إلى جانب  العضو في مجلس النواب إليوت إنغيل، ضدّ الاتفاق النوويّ مع إيران، في خطوة شكلَّت تحدّيًا واضحًا وصريحًا في حينه للرئيس باراك أوباما الذي مارس حينها الضغط على الكونغرس لدعم الاتفاق، ولم تكن كما اعتبرها البعض، محاولة أميركيّة للتدخّل في الشؤون الإسرائيليّة الداخلية ولم تكن ايضًا محاولة انتقامية او ردًا بالمثل على عدم انصياع رئيس الوزراء نتنياهو الى مطالب الرئيس الأميركي جو بايدن، حول وقف الحرب، أو زيادة حجم المساعدات الإنسانيّة المقدّمة لقطاع غزة والذي يعيش،

وبشهادة القاصي والداني والمسؤولين السياسييّن في أميركا وأوروبا ومنهم جوزيب بوريل وزير خارجيّة الاتحاد الأوروبي، الذي قال إن القطاع تجاوز مرحلة "حافّة الجوع"، وأنه وصل إلى قلب حالة الجوع، أو التجويع الذي قال إن إسرائيل تستخدمه كسياسة ضدّ قطاع غزة، ويقينًا ورغم أنها أثارت غضب وحنق السياسيّين في إسرائيل خاصّة من الجناح اليمينيّ، إلا أن هذا لم يكن القصد منها،

بل إنها كانت التعبير الواضح عن صدق القول، ما نراه من هنا لا نراه من هناك، وفي حالتنا هذه ما يراه تشاك شومير من واشنطن لا يراه كثيرون في إسرائيل ، وذلك بحكم كونه يملك الرؤية الأوسع، وينكشف على معلومات استخباريّة وأمنيّة أكثر من غيره، إضافة إلى أنه وبحكم كونه غير غارق في مستنقع الحرب الحاليّة، وهي حلقة أخرى لن تكون الأخيرة، في مسلسل الصراع والنزاع  الدائر في الشرق الأوسط منذ أكثر من قرن، يمكنه رؤية الواقع بعيدًا عن العواطف، أو المشاعر ومنها مشاعر الخوف الوجوديّ التي أصابت الإسرائيليّين هنا منذ السابع من أكتوبر، ووضعتهم كلّهم تقريبًا في بوتقة واحدة تؤمن بشكل تامّ أن ما لا يمكن،

أو ما لم يتحقق حتى اليوم خلال الحرب، بالقدر الذي تم استخدامه من القوة، يمكن أن يتحقّق بمزيد من القوة، وأن الحلّ العسكريّ والعقاب الجماعيّ واعتبار الغزيّين جميعًا دون استثناء مسؤولين عمّا حدث من اقتحام للمستوطنات والبلدات الحدوديّة الجنوبيّة في إسرائيل، وبالتالي أهداف معقولة ومبرّرة للعمليّات العسكريّة الإسرائيليّة، أو في مجموعة واحدة لا ترى مكانًا للحديث اليوم عن حلّ سياسيّ، أو حلّ للدولتين، بل يجب أولًا  كسر عظام "حماس" وليّ عنقها، وأن السلطة الفلسطينية ليست أهلًا ولا طرفًا للحوار، كما أنها ليست طرفًا في اليوم التالي، أو فترة ما بعد الحرب، وإذا كان الأمر كذلك فإن أفضل من يمكنه التعامل مع هذا الوضع وهذا الحال، وتلقين الفلسطينيّين درسًا لن ينساه، وترهيب غيرهم من الجيران والخصوم والأعداء، هي حكومة اليمين التامّ، أو اليمين يمين كما يحلو للإسرائيليّين تسميتها وبضمنها وزراء الصهيونيّة الدينيّة المتزمّتة وفي مقدمتهم بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، بل  إن تصريحات شوميرالهامّة في نظري،

وأكثر من تلك التي تحدثت عن ضرورة إجراء  انتخابات قريبة في إسرائيل، فهذا ما سيحدث وبشائره بدأت تتضح حتى في الليكود عبر معارضة متزايدة لتجاهل نتنياهو المطالب بلجنة تحقيق رسميّة في أحداث السابع من أكتوبر، وكذلك الرفض التامّ لواحد من تشريعات الانقلاب الدستوريّ الذي حاولت بعض أحزاب المعارضة، وخاصّة المتديّنة منها تمريره ويتعلق بانتخاب الحاخامين اليهود، كانت تلك التي قال فيها إن العالم تغيّر جذريًا في السنوات والعقود الأخيرة،

لكنّ الشعب الإسرائيليّ  ما زال يُخنَق الآن برؤية حكم عالقة في الماضي، والقصد واضح، فحكومة نتنياهو الحاليّة بسياساتها المتعلّقة بالحرب في غزة خاصّة، والعلاقة مع الفلسطينيّين والعالم العربيّ عامّة، كما في علاقتها بمواطنيها العرب، ما زالت عالقة في الماضي، أو تحديدًا عالقة في مطلع التسعينيّات من القرن الماضي، عبر رفضها لأيّ تسوية سياسيّة أيّ كانت، وإصرارها على مواصلة السيطرة على الضفة الغربيّة وكأن إسرائيل لم توقّع أيّ اتفاق مع السلطة الفلسطينيّة، بل أخطر من ذلك، وكأن السلطة الفلسطينيّة غير قائمة، بل وهذا إمعان في الغرق في الماضي، كأنها لم تقم أصلًا، وكأن قرار إسرائيل الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة،

في ظلّ حكومة بقيادة ليكوديّة يمينيّة برئاسة أريئيل شارون وتأييد لثلاث قراءات في البرلمان، من قبل رئيس الوزراء الحاليّ نتنياهو، وهو غرق في الماضي يريد استعادة السيطرة  والسيادة الإسرائيليّة، وفق قاموس المصطلحات الإسرائيليّ، واستمرار، أو تكريس الاحتلال الإسرائيليّ وفق قاموس مصطلحات باقي دول العالم، على كامل الضفة الغربيّة وقطاع غزة وإعادة بناء المستوطنات، والسيطرة التامّة على شرقي القدس بكافّة معانيه السياسيّة والدينيّة، وهو ما قال عنه شومير أن نتنياهو خضع في كثير من الأحيان لمطالب المتطرفين في حكومته، وأضيف أنا أنه سيواصل ذلك فهو، أو بقاؤه السياسيّ أسير دعمهم، ما يجعله عمليًّا خطرًا على إسرائيل، أو يشكّل ضررًا لاحتمالات السلام. 
حال الحكومة الحاليّة كما وصفه، بل أجاد وصفه تشاك شومير،

يذكّرني بالمثل الصينيّ الشهير القائل، إنك لن تستطيع أن تمنع طيور الهمّ أن تحلّق فوق رأسك، ولكنّك تستطيع أن تمنعها من أن تعشعش في رأسك، وبنقلة إلى الحاضر والسياسات التي اعتبرها شومير مكوثًا في الماضي، يمكن القول إن نتنياهو لم يكن بإمكانه أن يمنع وجود هذه المواقف السياسية ضمن ائتلافه بحكم نتائج الانتخابات، وهي انتخابات ديمقراطيّة وفق كافّة المقاييس، كما لا يمكنه منع وجود،

أو شيوع الأفكار والمواقف التي يتبناها الوزيران بن غفير وسموتريتش، ولا يمكنه منع وجودها في الفضاء السياسيّ والاجتماعيّ والشعبيّ في إسرائيل، تمامًا كالذين لا يستطيعون منع طيور الهم أو الهموم من التحليق فوق رؤوسهم، لكنّه أمكنه منع مواقف هذه الأحزاب من التغلغل داخل حيز صنع القرار، وعدم منح ممثّليها مناصب ذات تأثير كوزير الأمن القوميّ والوزير في وزارة الأمن ووزير الماليّة، بل أكثر من ذلك فقد كان بإمكانه منع تحوُّلهما، أو تحويلهما إلى بيضة القبان في حكومته، حتى أن البعض يصف إيتمار بن غفير بتهديداته المتواصلة بالانسحاب من الائتلاف، بأنه رئيس الوزراء الحقيقيّ، كمن يمنع الهمّ من أن يعشعش في رأسه، والهمّ هنا ليس الأشخاص، بل المواقف التي يتبناها هذان الوزيران والتي هي اليوم، تمامًا كما كانت قبل ثلاثة عقود، من حيث رفض وجود شعب فلسطينيّ، أو مناطق اسمها الضفة الغربيّة.

 

 

ويكفي أن نذكّر بالخريطة التي عرضها الوزير سموتريتش خلال كلمته أمام الجالية اليهوديّة في فرنسا، والتي تظهر المملكة الأردنيّة الهاشميّة وكأنها جزء من "أرض إسرائيل"، أو مواقف بن غفير التي تؤيّد التهجير والترحيل. وهي أفكار ازدادت تطرفًا هذه الأيام وأكثر ممّا كان الحال عليه سابقًا، اإمعانًا في البقاء، أو التقوقع في الماضي، وهو ما يؤكّده رفض حكومة نتنياهو، ورئيسها أولًا، الخوض في أيّ حديث حول اليوم التالي، ورفض أيّ تطرّق للسلطة الفلسطينيّة فهي في نظرهم موازية لحركة "حماس" ما يثبت أن الفلسطينيّين يريدون إبادة إسرائيل وليس السلام معها، وبالتالي فإن أيّ دور يتم منحه، كما تريد إدارة جو بايدن،

للسلطة في مرحلة ما بعد الحرب، إنما يشكّل جائزة للإرهاب، أو أنه دعم لمن يريد إبادة إسرائيل وإقامة دولة إرهاب. ومن هنا فإن التقوقع في الماضي هو ما يحرّك الحكومة الحاليّة، خاصّة الحديث الذي يرشح عن مقرّبي نتنياهو أنه يريد أن تحتفظ إسرائيل بالسيطرة الأمنيّة والإداريّة على القطاع لعشر سنوات على الأقلّ، بمعنى العودة إلى احتلال غزة أيّ إلى العام 1994، ثلاثة عقود إلى الخلف،

وهو تقوقع في الماضي، يصبح خطيرًا إذا ما أضيفت إليه رغبة إسرائيل في خلق نظام حكم جديد في غزة ما بعد الحرب يستند إلى حكم القبائل والعشائر،  أي أن تتولى عشائرغزة وقبائلها السيطرة المدنيّة والاقتصاديّة، بينما تبقى السيطرة الأمنيّة في ايدي إسرائيل  في نظام يشبه ما كان متّبعًا في ليبيا معمر القذافي من قبائل تتمتّع كلّ منها بحكم مدنيّ في كانتون معيّن،

وتحصل على ميزانيات لتطبيق السيطرة المدنيّة، وهو"حلم إبليس في الجنة"،  أو مولود ولد ميتًا، خاصّة بعد أن أُعلن قبل أيام أن حركة "حماس"  عمدت إلى تصفية مختار، أو زعيم عشيرة دُغْمُشْ، أو عشيرة الكفارنة في منطقة بيت حانون، ما يثبت أن هذه الفكرة، وهي فكرة انبثق عنها فكر بعض المستشرقين اليمينيّين المؤيّدين لليكود والذين يؤكّدون أن لا وجود لشعب فلسطينيّ، بل إن كل ما هناك هو مجموعة من القبائل والعشائر يمكن تفكيك وحدتها بمال وجاه، يطرحون أشخاصًا يعرفون حقّ المعرفة أنها غير قابلة للتنفيذ خاصّة في غزة، كما ثبت فشلها سابقًا في الضفة الغربيّة، حين حاولت إسرائيل خلق جسم بديل لمنظمة التحرير الفلسطينيّة ورؤساء البلديّات المنتخبين، اسمتها روابط القرى، والتي فشلت فشلًا ذريعًا، ولم تثبت قيد أُنمُلة قدرتها على السيطرة، بينما يؤكّد كثيرون أنها كانت الأرضيّة التي نمت عليها "حماس"، وبالتالي فإن طرحها لا يتعدّى كونه بالون اختبار، أو فقاعة هواء ساخنة، هدفها منع أي نقاش حقيقيّ وعقلانيّ لمرحلة ما بعد الحرب، أو محاولة "لتربيع الدائرة"، ومحاولة لخلق جسم مصطنع، بل وهميّ تعتقد إسرائيل أنه يمكن أن يسيطر على القطاع بعد "حماس" وبدلًا من السلطة الفلسطينيّة، وهي الحلّ الوحيد، أو  الهيئة الوحيدة التي سوف تسيطر على القطاع بعد الحرب الحاليّة، إن عاجلًا،  وهذا أسوأ الشرين أو  آجلًا، وهذا أفضل للجميع.
وإذا كان ما سبق لا يكفي لشرح التقوقع في الماضي،

جاءت السياسة الإسرائيليّة، أو تحديدًا سياسة نتنياهو وقوامها مواصلة الحرب حتى دون تحديد أهدافها النهائيّة، ورسم جدول زمنيّ لنهايتها، أو شرح الأهداف التي يمكن اعتبار تحقيقها انتصارًا، أو سببًا ومبرّرًا لإنهاء الحرب، ودون خطّة سياسية لليوم التالي، واستمرار المناورة والمماطلة في قضية إطلاق سراح المخطوفين والمحتجزين الإسرائيليّين من مدنيّين وجنود ، الذين تحتجزهم "حماس"، أو غيرها من المنظمات والعشائر، وهي مماطلة يجزم القاصي والداني، علنًا، أو في قرارة النفس، أنها تجيء لأهداف سياسيّة شخصيّة وضمن صراع البقاء السياسيّ الذي يخوضه نتنياهو، ما يعني إطالة زمن الحرب وعمرها الى ما لا نهاية، وبالتالي تأجيل، أو إجهاض أيّ محاولة، أو مطالَبَة محليّة، أو إقليميّة أو دوليّة، لتحديد معالم اليوم التالي.

 

 

وفي غضون ذلك ومع انخفاض وتيرة الحرب والحديث عن عودة، ولو بطيئة للغاية للغزيين إلى شمال القطاع وازدياد تدفق المساعدات الإنسانيّة إلى القطاع ، عبر الميناء المؤقّت والارتجاليّ الذي تقيمه الولايات المتحدة، بمبادرة شخصيّة من نتنياهو  ولغاية في نفس يعقوب، كما كشفت مصادر سياسيّة وصحفيّة مطلعة ووثيقة، وهو ما يعني استعادة حركة "حماس" قوّتها والتقاط أنفاسها مجدّدًا، وتخفيف الضغوط عنها بحكم تخفيف حدّة المجاعة، أو النقص في الموادّ الغذائيّة الأساسيّة في القطاع، ما سيمكنُّها من مواصلة الحرب ، والنتيجة استمرار في تقوقع الماضي، من حيث الرغبة الخفيّة، لكنها الحقيقيّة لنتنياهو ربما، بمواصلة الحفاظ على حركة " حماس" عدوًّا على نار هادئة، حتى لو كان ذلك يعني استمرار وجودها في القطاع ضعيفة وجريحة، أو "عصفور نُتِّف ريشُه" كما وصف أريئيل شارون لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينيّة عام 2011 وكما أراد لها أن تكون في الضفة، وهو استمرار يشبه بشكل أو بآخر الوضع الذي كان منذ عام 2009 وحتى السابع من أكتوبر عام 2023، وهي الفترة التي اعتبر فيها نتنياهو "حماس" ذخرًا وسمح بمنحه ملايين أو عشرات ملايين الدولارات شهريًّا، مقابل إضعاف السلطة الفلسطينيّة، واعتبارها غير شريكة في أيّ مسار، أو مسيرة تفاوضيّة أو سلميّة أو غيرها، في حالة يمكن وصفها بأنه صحيح أن "حماس" وإسرائيل تخوضان حربًا في ما بينهما، وهي حرب يريد كلّ منهما لها أن تطول خاصّة بوتيرتها الحاليّة، ودون وضع أهداف قابلة للقياس، أو التحقيق لوقفها، لكنهما تخوضان في نفس الوقت حربًا مشتركة ضد السلطة الفلسطينيّة، ويريدان لها البقاء ضعيفة، دون أن تسيطر على القطاع، وهو ما يثير السؤال حول ما إذا كان نتنياهو يعرف ما يريد، أم أنه سيكتفي بالقول إنه لا يريد السلطة الفلسطينيّة الحاليّة ، ولا تلك المحَّسَّنة كما تصفها الولايات المتحدة،  ولا يريد "حماس" ولا يريد ولا يريد...دون أي جديد.

 


البقاء في الماضي، لا يتوقف عند هذا الحدّ، أي محاولة تكرار نفس العمل مرّتين وتوقّع نتيجة مغايرة تمامًا، فإضافة إلى تكرار الماضي، في قضية إيجاد بديل، أو خلق، أو اختراع بديل، سواء كان الحمائل هذه المرّة، أو روابط القرى والمخاتير سابقًا، تحاول إسرائيل تكرار خطة تحويل غزة إلى سنغافورة، وهي خطّة كان شمعون بيرس الرئيس الإسرائيليّ الأسبق قد طرحها ضمن رؤيته" الشرق الأوسط الجديد"، بمعنى تحويل قطاع غزة إلى كيان، أو منطقة منفصلة عن السلطة الفلسطينيّة،  تكون بمنزلة مدينة- دولة على نمط سنغافورة، لكن مجرّدة من السلاح ، تربطه بالعالم ممرّات مائيّة إلى قبرص، وبريّة نحو مصر،

تسمح للغزيين بالتحرّك ولكن ليس باتجاه إسرائيل، أو الضفة الغربيّة، وإقامة علاقات تجاريّة واقتصاديّة مع الدول الأجنبيّة، يتولّى المواطنون فيها( مواطنون؟؟؟) المسؤوليّة المدنيّة وتنفيذ القانون وجباية الضرائب، مع إقامة هيئة تتولّى قضايا الأمن وفق قرار دوليّ، من مجلس الأمن الدوليّ، أو هيئة دوليّة أخرى، تقبلها إسرائيل، وتكون الولايات المتحدة والإمارات ومصر والأمم المتحدة وربما البحرين (استضافت ورشة المنامة ذات التوجّهات المشابهة والتي تحدثت عن سلام اقتصاديّ يسبق السياسيّ)، ويطمح إلى مشاركة السعوديّة، لكن ذلك يبدو الآن غير ممكن، على ضوء اشتراط السعوديّة تطبيعها وصلحها مع إسرائيل،

بإقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة، على أن تلعب الإمارات دورًا فعالًا في مستقبل إعمار غزة واستثمار ملياراتها ، كما تفعل اليوم في مصر، في مشاريع سياحيّة وتقنيات عالية لا شكّ أنها ستعود عليها بفائدة ماليّة واقتصاديّة أكبر، نظرًا لمعطيات موضوعيّة، لأن قطاع غزة يشمل مئات آلاف الشبان من ذوي المؤهّلات والقدرات المهنيّة العالية بعكس مصر، والمناطق البعيدة عن القاهرة كالعريش ورفح، ويبدو إن إقامة الرصيف العائم على شاطئ غزة هذه الأيام هو جزء من مبادرة لرئيس بنيامين نتنياهو  تخدم حلم سنغافورة الذي يراوده، خاصّة  وأن هناك مؤشّرات واضحة على أن نتنياهو لن يواجه معارضة لهذه الخطة إذا كانت بدايتها مساعدات إنسانيّة، وفي هذا نوع من تجاهل الماضي، بل تجاهل مقصود، فكلها حلول تحاول إسرائيل وأمريكا تجنيد الدول الخليجيّة لتنفيذها، من فوق رؤوس الفلسطينيّين، بمعنى محاولة فرض حلّ، دون استشارة الفلسطينيّين والتنسيق معهم، متناسين الماضي القريب، وهو ورشة المنامة الاقتصاديّة في البحرين التي بدأت بتوقّعات تمسّ عنان السماء ، ما لبثت أن تحطمت على أرض الواقع، لتبقى منها اتفاقيات صلح مع الإمارات والبحرين، دون أيّ تقدم في موضوع السلام مع الفلسطينيّين، ويبدو أن فشل الماضي، لم يمنع إسرائيل وأميركا من محاولة التكرار , وتجدر الإشارة بأن خطة سنغافورة تحدثت عنها صحيفة يديعوت أحرونوت بالتفصيل .

 


التقوقع في الماضي، هو ما يصيب "حماس"  أيضًا فهي تواصل تكرار نفس الشعارات وتريد نفس الحلول التي أثبت التاريخ والحاضر فشلها، وهي عدم توقيع اتفاقيّة سلام مع إسرائيل، ورفض المصالحة مع السلطة الفلسطينيّة وتوحيد الضفة وغزة في كيان فلسطينيّ واحد، والإصرار على اعتبار النضال المسلّح الوسيلة الوحيدة لحلّ النزاع، دون أيّ اعتبار لأيّ طريقة أخرى، ودون اعتبار لمصالح المواطنين في غزة وحقّهم في الحياة الكريمة، والتقدّم والتطوّر والتعليم الأكاديميّ، وكيان مستقل ومستقبل واضح المعالم، يخرجهم من بوتقة الظلمات إلى النور، فالفكرة العليا وهي دولة الشريعة، هي غاية تبرّر كافّة الوسائل، حتى لو كان الثمن عشرات آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى، كما هو الحال اليوم.

 


خلاصة القول: ما كان خلال الأشهر الستة من حياة الحرب الحاليّة، من حيث النشاطات السياسيّة والعسكريّة في آنٍ واحد، وعلى جانبي الحدود، يشير إلى أن الطرفين ينظران إلى المدى القصير جدًّا فقط، فنتنياهو يحركه صراع البقاء السياسيّ، وكذلك "حماس"، أما عبر الماضي فما زالت بعيدة عن التذويت والتبني، وأن علّة تكرار أخطاء الماضي وانتظار نتائج مختلفة ما زال ماثلًا، ما ينذر بمستقبل قريب على الأقلّ لا يبشر بالخير , ولعلّ ما قاله الفيلسوف جان بول سارتر هو في محلّه في أيامنا هذه "إن الناس الأذكياء جدًّا لا يمكن أن يكونوا أشرارًا، لأن الشرّ يتطلّب غباءً ومحدوديّة في التفكير ". 

תגובות

מומלצים