بعد أكتوبر أصبحت القوّة العسكريّة ضعفًا والحرب الدينيّة كارثة

وإن كان الجميع قد اتفق حتى اليوم، على أنه من السابق لأوانه استخلاص العبر واستنتاج المواقف، من حرب لم تنته بعد، وليس من الواضح متى وكيف ستنتهي، جاءت الحرب الحاليّة في غزة، والتي دخلت هذا الأسبوع الشهر السابع من حياتها، وسط تصريحات متفاوتة بعضها يرجح أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة

13.04.2024 מאת: المحامي زكي كمال
بعد أكتوبر أصبحت القوّة العسكريّة ضعفًا والحرب الدينيّة كارثة

 

أو أنها انتقلت من مرحلة الحرب حامية الوطيس إلى مرحلة القتال العاديّ واليوميّ، أو "حرب الاستنزاف"، لتؤكّد أنها خاّصة ومميزة بكافّة المقاييس والملابسات والجوانب، ليس فقط من حيث كونها المرة الأولى  منذ العام 1948، التي تسيطر فيها قوة مسلّحة عربيّة على مواقع داخل إسرائيل ، وكونها الحرب  الأطول مدّة والأكثر إيقاعًا للضحايا من المدنيّين من الطرفين الإسرائيليّ والفلسطينيّ، بل من حيث كونها وللمرة الأولى أيضًا حربًا يمكن استنتاج العبر منها قبل أن تنتهي،

وتحديدًا تلك العبر المتعلقة بما سبقها، وبكلمات أخرى يمكن حتى في هذه المرحلة، وقبل انتهائها عسكريًّا وميدانيًّا الجزم بأنها حرب مميّزة وبامتياز، حطّمت مجرياتها كافّة القوالب، وأثبتت زيف وخطأ ما كان من معتقدات ومفاهيم سياسيّة إسرائيليًّا وفلسطينيًّا وإقليميًّا، بل وعالميًّا. وباختصار فهي حرب يمكن القول اليوم،

إنها  قلبت الأمور رأسًا على عقب، خاصّة بالنسبة لإسرائيل التي تغيّر كلّ شيء فيها بعد السابع من أكتوبر 2023، داخليًّا فجعلتها أقل ثقة بنفسها، وأكثر انقسامًا من الناحية  السياسيّة والحزبيّة والأيديلوجيّة، وعلى صعيد الخلاف بين مركّبات المجتمع الإسرائيليّ اليهوديّ، كما اتّضح من ردود الفعل حول قانون التجنيد، والذي يعتبره البعض محاولة لمنح الشبان اليهود المنتمين إلى الجماعات الدينيّة المتزمّتة إعفاءً تامًّا من الخدمة العسكريّة، وإبقاءهم خارج نطاق العمل والسوق والإنتاج والتعليم الراقي، وبالتالي الحكم عليهم بفقر دائم واستعانة مدمنة ودائمة بالتبرّعات والضمان الاجتماعيّ.

 

 

وإقليميًّا من حيث كسر لمعتقدات صاغتها إسرائيل ومعها ربما الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب حول الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ وعلاقات إسرائيل بالدول العربيّة.  وخارجيًّا فهي حرب جعلت إسرائيل وربما للمرة الأولى عرضة لانتقادات كبيرة لم تتوقّف عند الدول  الأوروبيّة والإسلاميّة والآسيويّة، بل تصل حدّ الولايات المتحدة وامتناعها عن فرض حقّ النقض الفيتو على قرار في مجلس الأمن، ودعوات أوروبيّة وتلميحات أميركيّة حول وقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، بمعنى أنها أصبحت ، كما قالت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركيّة معزولة أكثر من أيّ وقت مضى.

 


إسرائيليًّا، شكّلت الحرب، أو السابع من أكتوبر  صفعة قاسية ومؤلمة ، ولا نقصد هنا فقط الجوانب العسكريّة والأمنيّة والعملياتيّة، وأعداد القتلى والفظائع التي ارتكبها مسلّحو "حماس" والتي تكشّفت معالمها بعد ذلك، بل أقصد أنها حطّمت "أصنامًا كثيرة" بنتها إسرائيل لنفسها وتمسّكت بها، سياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا وداخليًّا، فهي حطّمت أولًا إيمان إسرائيل عامّة وحكوماتها المتعاقبة منذ العام 2009 وتلك برئاسة بنيامين نتنياهو بشكل أكثر تحديدًا، حول كون حركة "حماس" قويّة وصاحبة القول الفصل في غزة،

أمر يضمن تحقيق هدفين، أولهما ضمان الهدوء النسبيّ على الحدود الجنوبيّة بمعنى جعلها سيّد قطاع غزة الذي يريد استمرار الهدوء، واستمرار تدفق الأموال القطرية عليه، وضمان رقعة كافية من المياه تشكّل منطقة صيد وحركة سريعة وسهلة ودائمة من دخول البضائع إلى القطاع وخروجها منه سواء كان ذلك إلى إسرائيل أو دول العالم، ولذلك سيكون من مصلحتها هي أولًا ومصلحة قياداتها (قيادات حركة "حماس") ضمان الهدوء النسبيّ، ومنع الفصائل الفلسطينيّة الأخرى في القطاع، تلك التي يحلو لإسرائيل وصفها بعد كلّ عمليّة إطلاق صواريخ باتجاه الأراضي الإسرائيليّة، بأنها " فصائل مارقة" لا تخضع لإمرة "حماس" . وهو مصطلح يحمل في طيّاته شاءت إسرائيل أم أبت، منح حركة "حماس" شرعيّة، واعتبارها تلك التي تمتثل للتعليمات، بل المطيعة والمنضبطة، وكأن هناك قواعد متفق عليها بينها وبين إسرائيل، قواعد تمّ كسرها في السابع من أكتوبر وسنعود إليها. أما الهدف الثاني فهو إضعاف السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة،

واعتبارها ليست طرفًا في أيّ مفاوضات مستقبليّة( ليست شريكًا) ، بمعنى أن إسرائيل اعتبرت "حماس" ذخرًا لتحقيق أمرين الأوّل هدوء نسبيّ في الجنوب، مع جولات ومواجهات عسكريّة مرّة كلّ عام تنتهي إلى اتفاق يكرِّس ما كان، وثانيهما تكريس الانقسام الفلسطينيّ، بما يعنيه من إضعاف للسلطة الفلسطينيّة من جهة، والحيلولة دون وجود أيّ طرف يمكن أن يشكّل بديلًا عنها، دوليًّا وإقليميًّا انطلاقًا من معرفة إسرائيل، توتّر العلاقات بين الدول العربيّة عامّة والخليجيّة خاصّة، وحركة "حماس" باعتبارها البنت الشرعيّة لحركة الإخوان المسلمين السنيّة من جهة، وحليفة إيران الشيعيّة من جهة أخرى، ومدعومة من قطر فوق كلّ ذلك.

 


وإن لم يكن ذلك كافيًا، جاءت الحرب لتنسف معتقدًا آخر، اعتادت إسرائيل عامّة، ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو خاصّة ترديده، ملخّصه أن اتفاقيّات الصلح مع الدول العربيّة الخليجيّة، والتي وقّعتها حكومة نتنياهو مع الإمارات العربيّة المتحدة والبحرين والسودان، هي الدليل القاطع على أنه يمكن إحلال السلام مع الدول العربيّة والتوصّل إلى تطبيع اقتصاديّ وسياسيّ، يضاف إلى التطبيع الأمنيّ  السريّ الذي يتواصل وفق كافّة المعلومات منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي وربما قبلها، دون إيجاد حلّ للقضيّة الفلسطينيّة،

بل ربما أبعد من ذلك، أي اعتبار تلك الاتفاقيات الدليل على أن الدول العربيّة، تخلّت نهائيًّا عن أيّ مطالب تتعلّق بالفلسطينيّين، وبالتالي يمكن لإسرائيل أن تفعل في الضفة الغربيّة وشرقي القدس، بما في ذلك الضمّ التدريجيّ للمناطق وخلق الحقائق على أرض الواقع، بشكل يلغي، أو ربما يُجهِض حلّ الدولتين، أو كما قال دونالد ترامب، إنه لا يدعو إلى حلّ الدولتين، أو دولة واحدة، بل يقبل أيّ حلّ يقرّره الطرفان، ويجعل السلطة الفلسطينيّة المنبثقة عن أوسلو،

في عداد الماضي، ويقبل بفكرة أن الضفة الغربيّة هي جزء من دولة إسرائيل، كما قال ديفيد فريدمان سفير الولايات المتحدة في إسرائيل إبان عهد دونالد ترامب، فجاءت الحرب الحاليّة، لتثبت العكس تمامًا، فاتفاقيّات السلام مع الأردن ومصر والتي تطرّقت إلى الشأن الفلسطينيّ، واعتبرت حلّ الدولتين الحلّ الوحيد، أصبحت حقيقة واقعة بل ماضٍ بعيد، لم ينجح في جعل السلام بين القيادات سلامًا بين الشعوب. أما اتفاقيّات السلام مع الإمارات والبحرين، لم تفتح الباب أمام اتفاقيّات أخرى، أرادتها إسرائيل، وخاصّة اتفاقيّة السلام،

أو المصالحة، أو التطبيع من المملكة العربيّة السعوديّة، التي طالما لوَّح بها نتنياهو، والتي أمكن لها أن تؤكّد أن الصراع الممتدّ لـ 75 عاما مع الفلسطينيّين انتهى، أو أنه يتراجع. والدليل صفقة سلام مع السعوديّة، اتضح أنها بعيدة المنال، بل منوطة ومشروطة بحلّ النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، وإقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة، ورفض للضمّ وتكريس الاحتلال، وبالتالي يمكن القول إن السابع من أكتوبر وتأجيل التطبيع مع السعوديّة، يستوجب من إسرائيل تغيير الشعار الذي رفعته حول عدم كون النزاع مع الفلسطينيّين عائقًا  أمام السلام مع الدول العربيّة، واستبداله بشعار" لا سلام دون حلّ النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ"، أو تحديدًا :" لا سلام مع السعوديّة دون سلام مع الفلسطينيّ" ،

مهما اختلفت منطلقات ودوافع الموقف السعوديّ بهذا الشأن، وهنا أصبح التطبيع مع السعوديّة معلّقًا، كما  توتّرت العلاقات مع حلفاء عرب مثل مصر والأردن. وليس ذلك فقط، بل إن حلّ الدولتين الذي اعتبرته إسرائيل أثرًا بعد عين، عاد إلى الواجهة وتحديدًا مع تصريح أطلقه التاسع والعشرين من أكتوبر، أي بعد ثلاثة أسابيع من بداية الحرب، الرئيس الأمريكيّ جو بايدن، قال فيه:" يجب أن تكون هناك رؤية لما سيأتي بعد ذلك. ومن وجهة نظرنا، يجب أن يكون حلّ الدولتين"، وهو قول كرّره بايدن بعد ذلك بأسابيع قائلًا:" لا أعتقد أن الأمر (يقصد حالة الحرب والدمار والضحايا من الطرفين) سينتهي بشكل قاطع، حتى يكون هناك حلّ الدولتين"، ليتكرّر نفس التصريح على لسان وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن، مطلع العام وبعد ثلاثة أشهر بالضبط من بداية الحرب، حين قال مخاطبًا الحكومة الإسرائيليّة إن الحلّ الدائم لا يمكن أن يأتي إلا من خلال نهج إقليميّ يتضمّن مسارًا يؤدّي إلى دولة فلسطينيّة.

 


مفهوم آخر، حطّمته الحرب الحاليّة، يتطرّق إلى النهج الذي اتّبعه بنيامين نتنياهو، وهو أسلوب " إدارة الصراع" بدلًا من حلّه، وهو أسلوب اتبعته حكومات نتنياهو طيلة سنوات، دون السعي إلى أيّ حلّ كان، بغض ّالنظر عن مضمونه، بل ترك الزمن يفعل ما يشاء فإما أن يموت الراعي، أو تفنى الغنم، وفق المثل الشعبيّ،

لكن الحرب المستمرة على غزة، أوضحت أن الوضع الراهن، أي توجه إدارة الصراع وتأجيل نهايته، غير قابل للاستمرار، فأميركا ترى وبسبب الحرب أن هناك الآن فرصة لتحقيق تسوية، وبالتالي تريد واشنطن أن تدفع الإسرائيليّين والفلسطينيّين إلى الحلّ المتمثّل في وجود دولتين تتعايشان بسلام جنبًا إلى جنب، وفي نفس الوقت ضمان التطبيع بين إسرائيل والعالم العربيّ، وهو توجّه حاولت إسرائيل تجاهله هذه المرّة ايضًا، وتكرار توجّه إدارة الصراع وتكريسه على نار هادئة تخدم أهدافًا سياسيّة،  

من حيث عدم اتخاذ قرار يتعلّق باليوم التالي، أي ما بعد انتهاء الحرب، وتحديدًا قضية تحديد هويّة الجهة التي ستتولّى السيادة، أو السيطرة في قطاع غزة بعد نهاية الحرب، فحكومتها تؤكّد من جهة إنها لا تريد إعادة احتلال قطاع غزة، أو إعادة الاستيطان إليه، كما ترفض من جهة ثانية منح السلطة الفلسطينيّة، بصيغتها المحسَّنة، أو المتطوّرة وفق المصطلح الأميركيّ، وتريد لدولة قطر أن تواصل الوساطة مع "حماس" وفي نفس الوقت،

ورغم التناقض أن تخفّف من دعمها للحركة، وترفض قوّة عربيّة، دون أن تقترح أيّ إمكانيّة أخرى، فهي تكتفي بأن تقول لا، أو أن تشير إلى الإمكانيّة التي ترفضها، تمامًا كما كانت ترفض خلال سنوات اعتبار السلطة الوطنيّة شريكًا، دون أن تقترح أيّ حلّ، أو دون أيّ اتصال مع السلطة الفلسطينيّة، وهو تأجيل،  أو إدارة للصراع في حالة الحرب الحاليّة ، له ثمن من حيث عدم إمكانيّة تحديد الأهداف النهائيّة للحرب، ومنها استنباط طرق ووسائل القتال وكميّات الجنود، أو رسم صورة لما يمكنه أن يشكّل أساسًا للتفاوض لإنهاء الحرب، فهذه الحرب كغيرها ستنتهي باتفاق سياسيّ، مهما كانت مخرجاتها العسكريّة، لكن الخطير هنا في هذه الحالة، وخلافًا من حالات سابقة اعتمدت إسرائيل سياسة إدارة الصراعات لتحقيق أهداف بعيدة المدى ، منها مثلًا ضمّ الضفة الغربيّة وشرقي القدس،  إن عدم تحديد صيغة اليوم التالي يؤدّي فقط  إلى خدمة أهداف قصيرة المدى، بل شخصيّة ملخّصها ضمان ائتلاف اليمين وأعضائه ال64، انطلاقًا من إيمان تامّ يساور مركّباته، إن الانتخابات القريبة ستعني نهاية ائتلافهم وحكومتهم، ومعها انتهاء عهد بنيامين نتنياهو رئيسًا للحكومة، وما لذلك من تبعات على استئناف محاكمته، وربما إدانته وزجّه في السجن.

 


وما دمنا نتحدّث عن مواقف مقولبة، حطّمها السابع من أكتوبر، يبدو أن هذه المواقف، وتمسّك إسرائيل بها، خاصّة رواية صاغتها إسرائيل لنفسها وآمنت بها، دون تشكيك أو تردّد أو تساؤلات. وهي أن دعم "حماس" هو ذخر له نتائج إيجابيّة فقط، وأن كافة نشاطاتها لا تتعدّى الإطار الفلسطينيّ الداخليّ، بمعنى أنها تريد اولًا منع عودة السلطة الفلسطينيّة، وحركة "فتح" إلى السلطة في غزة ومنع وجود سلطة علمانيّة واستبدالها بدولة أو كيان شريعة، ومن ثمّ المزيد من ترسيخ الأقدام في الضفّة الغربيّة، وربما بين مواطني إسرائيل العرب.

 

 

وبالتالي وانطلاقًا من "إمعان" في تبني هذه الرواية ذاتيّة الصنع، فشلت إسرائيل في تفسير أحداث أمكنها أن تنير الضوء الأحمر أمام صنّاع القرار، ولا أتحدّث هنا فقط عن تحرّكات مسلّحيها قبل السابع من أكتوبر، بل إلى مؤتمر" وعد الآخرة - فلسطين بعد التحرير " الذي شهده القطاع عام 2021، وتحدّث عن سياسات "حماس" ومخطّطاتها بعد هزيمتها إسرائيل وسبل معاملتها لليهود المتبقين هنا في فلسطين، والتي كلّها وقف إسلاميّ خالص، وهو مؤتمر علنيّ قاده كنعان عبيد، بصفته رئيس هيئة المؤتمر مؤكّدًا أنه يندرج في إطار السعي لتصوّرِ مرحلة ما بعد التحرير من جميع الجوانب الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة والاجتماعيّة،

وتحدث فيه يحيى السنوار، حول ميثاق حركة "حماس" ومنطلقاتها الدينيّة ،  لكن "إيمان إسرائيل بالشراكة مع حركة "حماس"، أو إمكانيّة العيش معها وفق شروط تضعها إسرائيل، جعلها تتجاهل إمكانيّة تحويل ميثاق الحركة إلى خطّة عمليّة تحاول تطبيقها وتنفيذها على أرض الواقع، تمامًا كما تجاهلت المعلومات المؤكّدة حول تزوير نتائج الانتخابات لرئاسة :حماس" والتي جرت تنافس فيها يحيى السنوار مع نزار  عوض الله، لتنتهي الجولة الأولى بالتعادل،

وفق مصادر "حماس"، بينما الحقيقة هي أن الفوز كان من نصيب نزار عوض الله، لكن تهديدات مؤيّدي السنوار عامّة ونائبه مروان عيسى(تصفه إسرائيل أنه رقم 2 في الحركة وقتل خلال الحرب الحاليّة) غيَّرت النتائج في الجولة الثانية، لصالح السنوار، ليغادر عوض الله القطاع بعد ذلك دون رجعة، وربما رفضت إسرائيل تغيير فكرتها عن "حماس" التي بدأت كمنظمة اجتماعيّة أرادتها إسرائيل منافسة لحركة "فتح"، لتتحوّل إلى منظّمة مسلّحة متديّنة تريد دولة شريعة، ولا يتورّع أفرادها لتحقيق ذلك عن ارتكاب الفظائع ، حتى لو كان الخصم فلسطينيًّا ومن أبناء جلدتهم، والدليل المصير الذي واجهه أعضاء حركة" فتح" عام 2007، وإلقاء بعضهم أحياء من بنايات شاهقة وقتلهم في الشوارع وأمام الملأ.

 


موقع إيران ومكانتها في الشرق الأوسط، هي مفهوم إضافيّ حطّمته الحرب الحاليّة، خاصّة مع إصرار الحكومة الحاليّة وإسرائيل عامّة، على تأكيد كون السابع من أكتوبر قد تم رسمه والتخطيط له في طهران، ومحاولة الربط بين الحرب في غزة والتوتّر على الحدود الشماليّة، وإقناع الولايات المتحدة بأن حزب الله، وبتحريك إيرانيّ سيدخل الحرب أيضًا، وبالتالي أرسلت الولايات المتحدة حاملتي الطائرات، إلى حوض المتوسط وحذَّر الرئيس بايدن "حزب الله" من مغبّة المشاركة في الحرب، ما يعني أن إسرائيل أدخلت إيران إلى الشرق الأوسط من أوسع الأبواب، وحوّلتها إلى لاعب مركزيّ في الشرق الأوسط من جهة، بينما هي تواصل التقدم بخطوات واثقة وسريعة نحو تخصيب اليورانيوم وصنع القنبلة النوويّة،

بل أكثر من ذلك، فقد تحوّلت إلى دولة تكفي جملة واحدة يقولها مسؤول فيها، خاصّة بعد اغتيال محمد رضا زادة، قائد فيلق القدس بقصف لمبنى بجانب القنصليّة الإيرانيّة في دمشق، لإعلان حالة التأهّب في المنطقة برمتّها، وإغلاق عشرات الممثليّات الدبلوماسيّة الإسرائيليّة وخطوات احترازيّة في العالم، الذي بات يقبل اليوم إيران النوويّة كحقيقة واقعة أنتجها قرار دونالد ترامب عام 2016، التخلّي عن الاتفاق النوويّ، وترك الأمور على غاربها، بمعنى قبول مبدأ "إدارة النزاع والصراع" وليس حلّه. أما إدارة جو بايدن، فكان موقفها من إيران منذ بداية عهدها، رسالة فوتتها الحكومة الحاليّة ولم تذوتها، وملخّصها أن الولايات المتحدة لم تعد تقبل أن تغلب مصالح إسرائيل على مصالحها هي، فهي تفهم أن  التأييد الأمريكيّ غير المشروط لسياسات إسرائيل في الشرق الأوسط، يُـقوِّض فُـرص نجاح واشنطن في حربها على الإرهاب، ويعرّض مصالحها القوميّة للخطر،

ممّا يستوجب إعادة النظر من طرفها، وهذا ما حصل هذه المرّة،  ليجعلها تتساءل ما إذا كان من مصلحتها أن تواصل انتهاج سياسات تجعل مصلحة إسرائيل فوق مصلحتها هي،  وهو السبب الذي جعلها تستعجل عرض خطة تتطرّق إلى اليوم التالي، دون انتظار موقف إسرائيل ودون التنسيق معها، ناهيك عن ممارسة الضغوط المتواصلة على إسرائيل والتلويح من قبل نائبة الرئيس الأمريكيّ كامالا هاريس بعقوبات تتعلّق بالأسلحة الأميركيّة، أو حتى إمكانيّة التوصّل إلى صفقة ثلاثية أمريكيّة إسرائيليّة سعوديّة تضمن الولايات المتحدة فيها قيام دولة فلسطينيّة، ووضع جدول زمنيّ واضح لذلك، والضغط الذي مارسه الرئيس جو بايدن على نتنياهو خلال المكالمة الهاتفيّة الأخيرة بينهما ، والتي تجلّت نتائجها في مضاعفة إسرائيل كميّة المعونات الإنسانيّة التي تقدّمها إسرائيل،

أو تسمح بإدخالها إلى القطاع، وسحب قوات الجيش الإسرائيليّ من خان يونس،  وارسال وفد المفاوضين الإسرائيليّين إلى القاهرة للتفاوض حول صفقة تبادل الأسرى والمختطفين، ووقف إطلاق النار ولو مؤقّتًا، إذ رشح عنها  أن  بايدن تحدّث مع نتنياهو بغضب، وقال له إن مستقبل الدعم الأميركيّ  لإسرائيل في الحرب بغزة يعتمد على اتّخاذ خطوات لحماية المدنييّن وعمّال الإغاثة، وذلك بعد مقتل سبعة من مستخدمي مؤسّسة "المطبخ المركزيّ العالميّ" الذي ينفّذ أعمال الإغاثة والتموين في القطاع، مضيفًا  إنه يجب تحسين الأوضاع الإنسانيّة بغزة فورًا، ما يعني أن الحرب الحاليّة كسرت وحطّمت المعتقد بأن إسرائيل هي ذخر استراتيجيّ للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولذلك على واشنطن أن تقبل بتفضيل مصالح إسرائيل على مصالحها، أو منح إسرائيل "شيكًا على بياض" ( كارت بلانش) لتفعل ما تريد وتوفير الدعم والتأييد بشكل أوتوماتيكي وتلقائيّ، فواشنطن اليوم وعلى ضوء انحسار النفوذ الروسيّ في الشرق الأوسط، تنظر بشكل مغاير إلى الأمور ، فالدول العربيّة كلّها في حظيرتها، وروسيا غير موجودة ولا تشكّل تهديدًا لها، أو لمصالحها.

 


ختامًا: هي حرب خلطت كافّة الأوراق وقلبت الموازين، حرب لن تعود المنطقة بعدها كما كانت قبلها، خاصّة وأنها " أحيت بعض العظام وهي رميم" ومنها حلّ الدولتين  وإقامة الكيان الفلسطينيّ  وأعادت السلطة الوطنيّة إلى الواجهة، وحوّلت إيران إلى لاعب مركزيّ مباشر، وأثبتت للولايات المتحدة وإسرائيل أن توافق المصالح بينهما لم يعد تلقائيًّا، وأن الدعم الأمريكيّ لم يعد مضمونًا، وهو الذي منح إسرائيل الشعور أنها "الحليف المدلّل" وأن أمريكا ستدعمها مهما كان ومهما فعلت، أما إسرائيليًّا فقد زادت من حدّة التناقضات والمناكفات والعداوات رغم حكومة الطوارئ، وتنذر بصدام واسع وخطير،

مؤشّره الأول قانون التجنيد، بمعنى أنها حرب حطّمت القوالب والمُسَلَّمات وغيرَّت المفاهيم، فهل سيكون الحال أفضل في المستقبل؟ أجيب بالنفي، ولكن لننتظر حكم الأيام القادمة، خاصّة وأن شرقنا تحكمه العواطف والغرائز، ولا يميزه التروي والعقل، وبالتالي أحواله سيئة وأوضاعه غير مستقرّة، ومستقبله غير واضح، وعن هذا قال وينستون تشرتشل:" إمبراطوريّات المستقبل هي إمبراطوريّات العقل". وما دامت تحرّك شرقنا أيديولوجيّات دينيّة وسياسيّة متزمّتة وغيبيّة، فالمستقبل غير مشرق، وخاصّة بأن المئة سنة الأخيرة تُؤكّد بأن "الساسة " أو "القادة" العرب لا يُتقنون اللعبة السياسيّة لا الإقليميّة ولا العربيّة ولا العالميّة، وإنما يجمعهم الإيمان بالغيبيّات فقط.

 

תגובות

מומלצים