السياسة الفاشلة تُشرعن الفساد في أجهزة الحكم على اختلافها

وسط استمرار الحرب في غزة لليوم الحادي والستّين بعد المئة، بوتيرة بطيئة ونسق أقلّ حدّة ممّا كان الأمر عليه في الأسابيع، وربما الأشهر الثلاثة الأولى منها، ما جعلها تتحوّل، ولمزيد الأسف والهول، إلى أمر شبه روتينيّ، يبدو للوهلة الأولى أنه يجري في بلاد بعيدة

16.03.2024 מאת: المحامي زكي كمال
السياسة الفاشلة تُشرعن الفساد في أجهزة الحكم على اختلافها

فهو بعيد عن العين بفعل انكشاف المواطنين في إسرائيل فقط إلى ما تنقله قنوات التلفزة المحليّة، وما يقرّه لها الناطق بلسان الجيش الذي يرافق الصحافيّين خلال كلّ تواجد لهم في القطاع، دون الانكشاف على تقارير التلفزات الأجنبيّة، التي يتواجد مراسلوها في غزة ورفح وخان يونس وغيرها، وبالتالي ربما بعيد عن القلب، وهي حالة يغذّيها استمرار سيل المقابلات التلفزيونيّة، وموجات البثّ المفتوحة وجحافل المحلّلين والمراقبين، الذين يواصلون قول الشيء ذاته بصياغات مختلفة ومتنوّعة. يبدو أن الحياة تعود إلى مسارها الطبيعيّ،

على الأقلّ بالنسبة للحكومة الحاليّة، أو لأجزاء منها وخاصّة تلك اليمينية الأكثر تطرّفًا، وخاصّة حزبي الصهيونيّة الدينيّة برئاسة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتيتش، ومعهما عدد من أعضاء البرلمان الليكوديّين، وفي مقدمتهم النائب عميت هليفي الذي يسعى إلى سن قانون،  أو سلسلة قوانين تعيد  سيطرة جهاز الأمن العام "الشاباك" على جهاز التعليم في المجتمع العربيّ، وتحديدًا قضيّة تعيين المعلّمين وذلك بحجج أمنيّة تصل حدّ معاقبتهم بفصلهم من عملهم من قبل وزير التربية،

دون إجراءات قضائيّة تأديبيّة كانت أم جنائيّة، (أي دون تحقيق، أو اتهام، أو محاكمة، أو إدانة)  حتى على كتابة منشور في وسائل التواصل الاجتماعيّ، يمكن للمستشرقين تفسيره حقًّا، أو عن سوء نيّة على أنه دعم لأعداء إسرائيل،  ووزراء من الليكود منهم وزير القضاء ياريف ليفين الذي يؤكّد أنه يعيش في عالمه الخاصّ، وأن الانقلاب الدستوريّ ما زال دينه وديدنه، وأوّل ما يحتل سلم أولوياته ،

وأن الحرب لم تجعله يتنازل عنه، وإن كانت قد أجلّت ذلك قليلًا. والدليل على ذلك ما يجري وما جرى ، خلال جلسات لجنة تعيين القضاة، أو اختيار القضاة بتسميتها الأكثر ديمقراطيّة ، والتي أصرّ ليفين خلالها ومعه عضوا اللجنة من الصهيونيّة الدينيّة أوريت ستروك من حزب سموتريتش، ويتسحاك كرويزر من حزب إيتمار بن غفير، على عدم تعيين، أو اختيار قضاة يهود "لا يتمتّعون بالقدر الكافي من الصهيونيّة والانتماء القوميّ اليهوديّ" حسب رأيهم، ناهيك عن محاولتهم، أو مطالبتهم بتنحية القاضي العربيّ في المحكمة العليا القاضي خالد كبوب، والذي أعرفه شخصيًّا منذ بداية عهده كقاضٍ في محكمة الصلح في مدينة نتانيا، والمحكمة المركزيّة في تل أبيب والآن المحكمة العليا،

لمجرد أن ابنه وابنته وهما  محاميان أيضًا وضعا صورته الشخصيّة داخل مكتبهما، والتقطا صورًا لهما قربها أو أمامها، إذ ادّعى العضوان اليمينيّان في اللجنة أنه بذلك خالف القواعد والتعليمات، وأن ابنيه استغلا اسمه لتسويق مكتبهما، وهو ادّعاء سخيف، إذ يكفي ذكر اسمهما، واسم عائلتهما ليعرف الجميع أنهما نجلا القاضي كبوب، ما يؤكّد أنهما  اختارا التحريض عليه لأنه عربيّ، أو بكلمات أخرى ، جهَّزا لائحة الاتهام بحقّ القاضي كبُّوب، ثمّ أضافا اسمه اليها، وفوق كلّ ما سبق، بل قبله وأخطر منه، ردود الفعل حول قرارات وتوصيات لجنة التحقيق الرسميّة التي قرّرت الحكومة السابقة برئاسة نفتالي بينيت ويائير لبيد تشكيلها،

وترأستها رئيسة المحكمة العليا السابقة مريم ناؤور حتى وفاتها ومن اختارت أعضاءها، وكانت مهمتها التحقيق في مجريات الأحداث التي سبقت حادثة التدافع في الموقع الدينيّ في جبل ميرون ( الجرمق) والذي أسفر عام 2021عن مقتل 45 مواطنًا يهوديًّا. وهي ردود برز فيها ردّ الليكود الذي اعتبر قرارات اللجنة قرارات سياسيّة غير نزيهة هدفها المسّ برئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، دون أيّ اعتبار، أو اكتراث لكونه رئيس الحكومة إبان مصرع القتلى المذكورين، وبالتالي المسؤول الأوّل عمّا حدث بحكم كونه الأوّل في حكومته، وإلى كلّ ما سبق يجب أن نضيف حالة العنف المستشرية في المجتمع العربيّ على ضوء المعطيات القاتمة بل القاتلة، حول الجريمة التي تستفحل بشكل غير مسبوق، وأسفرت حتى كتابة هذه السطور عن أكثر من 40 ضحية،

بعد أن سّجلت العام الماضي 2023، رقمًا قياسيًّا غير مسبوق، إذ بلغ عدد ضحايا العنف والإجرام، في المجتمع العربيّ 24 قتيلًا، دون أن تحرك الوزارات المختصّة، وفي مقدّمتها وزارة الأمن الداخليّ ووزيرها ايتمار بن غفير، ساكنًا لتغيير الحال، أو لمكافحتها، بل إنها ألغت هيئات شرطيّة كانت الحكومة السابقة قد شكّلتها لوضع حدّ لتفاقم العنف، بل دون أن يتطرّق الوزير إلى هذه الآفة حتى بتصريح واحد، أو ردّ ما، ودون أن تفعل الشرطة ما يلزم، أو ما يُنقذ ماء وجهها، وكأن الأمر لا يعنيها، ونسبة الجرائم التي يتم حلّ لغزها، وهي نسبة لا تتجاوز الصفر هذا العام، خير دليل على ذلك.

 

 


القضايا سابقة الذكر،  وإليها تُضاف قضايا تتعلّق بسير  الحرب، وتحديدًا قضية المختطفين والأسرى، تثير أسئلة كثيرة، كانت وتيرة الحرب وحدّتها وشدّتها، قد خفّفت من حدّتها ووتيرتها، تتعلّق بتوجّهات الحكومة الحالية بتركيبتها اليمينيّة المتطرّفة وتوجّهاتها الخلاصيّة سياسيًّا والمتزمّتة قضائيًّا واقتصاديًّا. وهي استمرار لحكومات بنيامين نتنياهو السابقة، وإن كانت الأكثر تطرّفًا وجموحًا وربما خطورةً، وأوّل هذه الأسئلة وأهمّها ما إذا كان كلّ شيء في هذه الدولة قد أصبح سياسيًّا، بمعنى هل تطغى الاعتبارات السياسيّة، بل الحزبيّة على كلّ شيء في هذه البلاد، وهل أصبح أمرًا عاديًّا ومقبولًا، وصم أجهزة الدولة بما فيها لجان التحقيق الرسميّة والنيابة العامة والجيش والمخابرات والمحاكم والجهاز القضائيّ بالكامل،

ووسائل الإعلام بصبغة سياسيّة ما، واتهامها من قبل الحكومة الحاليّة بأنها معادية لها، وبالتالي يجب العمل على إضعافها والحدّ من تحرّكاتها، أو إلقاء توصياتها ومواقفها في جوارير وأدراج النسيان، واعتبارها دون أيّ فحص، أو بحث أو تدقيق، قرارات وتوصيات سياسيّة معادية للحكومة، بغية عدم استخلاص العبر من جهة وتحمّل المسؤوليّة من جهة ثانية، والاعتراف بالخطأ من جهة أخرى، وبالتالي عدم إصلاح الحال، بل إبقاء الباب مفتوحًا في حقيقة الأمر أمام تكرار هذه الحالات،  وهو ما كان في حالة لجنة التحقيق الرسميّة الحاليّة،

التي حمَّلت نتنياهو  مسؤوليّة الحادث لكنها امتنعت لكونه شخصيّة منتخبة(ليست تعيينًا)، عن إصدار توصيات شخصيّة تضمن خطوات عقابيّة بحقه بعكس وزير الأمن الداخليّ في حينه أمير أوحانا الذي أوصت اللجنة بعدم تعيينه وزيرًا للأمن الداخليّ في المستقبل، والمفتش العام للشرطة يعقوب شبتاي، الذي قالت إنها لولا الحرب الحاليّة لأوصت بإقالته، فالنقاش حول التوصيات تحول إلى نقاش حول المنطلقات والتوجّهات، ونسي كثيرون عمدًا ،مقتل 45 مواطنًا أرادوا تأدية الصلوات فلاقوا حتفهم بسبب قصورات كانت واضحة ومعروفة، كشفها تقرير مراقب الدولة من العام 2008، لكنّ السياسة طغت على الاعتبارات المهنيّة، وتغلّبت الرغبة في إرضاء الشركاء في الائتلاف على ضرورة اتّباع وتنفيذ التعليمات. وانتهت التوصيات إلى إبعاد المسؤولين من الدرجة الثانية عن مناصبهم،

دون المسّ برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ودون أن يتحمّل هو المسؤولية ويقدّم استقالته، وهو ربما ما تقتضيه الحالة، أو التصرّف الذي كان آخرون سيفعلونه، ولكن ليس نتنياهو، وحريق الكرمل ومصرع 44 من مستخدمي مصلحة السجون حرقًا، أفضل دليل فمن دفع الثمن كان وزير الداخليّة في حينها إيلي يشاي، الذي انتهت حياته السياسيّة، أما نتنياهو فواصل منصبه وحياته السياسيّة كالمعتاد، وليس ذلك فحسب، بل تباهى في مراسم إحياء الذكرى السنويّة لحريق الكرمل عام 2011، أي بعد عام واحد من المأساة ذاتها، أنه" أوّل من أدرك الخطر، وأوّل من تحرك لمنعه، وأوّل من اتّخذ خطوات لإخماد النيران، وأوّل من طلب المساعدة من الدول الأوروبيّة وغيرها"، ممّا حوَّل مسؤوليّته عن الحريق إلى وسيلة لتحقيق الربح السياسيّ.

 

 

وهذا ما حصل هذه المرّة فالردود على توصيات اللجنة من جانب الليكود، الحزب الأكبر في الحكومة والائتلاف ، أكّدت ان الكلّ سياسيّ، وأن السياسة والحزبيّة هي الأهم، وبالتالي اعتبر الوزير دافيد أمسالم، أن تشكيل اللجنة  كان خطوة سياسيّة، خاصّة وأن حكومة نتنياهو كانت رفضت تشكيل لجنة تحقيق رسميّة ربما خشية توصياتها باعتبارها ملزمة. واعترف أن حكومة الليكود برئاسة نتنياهو امتنعت مثلًا، عن المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق رسميّة، وأورد مثالا على ذلك أنها لم تشكل لجنة تحقيق رسمية لمصرع الشبان جراء تدافع في مهرجان للموسيقى عام 1995في مدينة عراد،(خلال رئاسة إسحاق رابين للحكومة، وقبل عدّة أشهر من اغتياله) وتناسى ربما حريق الكرمل،

ولا غرابة في أن يحدث ذلك، فالليكود في عهد نتنياهو لا يريد بأيّ حالٍ من الأحوال أن تتحوّل "موضة" لجان التحقيق الرسميّة إلى حالة تتكرّر في إسرائيل، خاصّة في ظلّ الحديث الدائر منذ السابع من أكتوبر 2023، حول لجنة تحقيق رسميّة في أحداث ومجريات اقتحام مسلّحي "حماس" البلدات الجنوبيّة الحدوديّة في إسرائيل، ومطالبة رئيس الوزراء بالاستقالة باعتباره المسؤول الأوّل والشخص الذي كرَّس دعم "حماس" بعشرات ملايين الدولارات من قطر شهريًّا، ضمن معادلة طرفها الثاني إضعاف السلطة الفلسطينيّة.

 

 

وهي مطالبات يرفضها نتنياهو وأعوانه، ويبدو أنهم يريدون لجنة تحقيق حكوميّة، أو برلمانيّة لا سلطة لها ولا صلاحيّات، ناهيك عن أن هناك من يعتقد أن سعي مراقب الدولة متنياهو أنغلمان، وهو الذي عيَّنَهُ  نتنياهو، إلى التحقيق في مجريات السابع من أكتوبر قبل أن تنتهي الحرب، هو محاولة مقصودة من نتنياهو ومقرّبيه لإجهاض أيّ محاولة لتشكيل لجنة تحقيق رسميّة، ومنع إقامتها منعًا لمطالبة نتنياهو بتحمّل المسؤولية، وذلك على ضوء النهج الجديد الذي خطّه مراقب الدولة أنغلمان، ويقضي بنشر تقارير دون أن تشمل أسماء الأشخاص ذات الصلة، ودون تحديد المسؤولين متذرّعا بأن "الهدف من تقاريره هو إصلاح القصورات وليس محاسبة المسؤولين عنها " ، وبالتالي تحوّل مصرع 45 مصلّيًا جرّاء إخفاقات وقصورات وتجاهل للقوانين والتعليمات، إلى قضيّة سياسيّة وتحول الحديث عن المسؤولية عن مصرعهم وتحميل رئيس الحكومة مسؤولية ما حدث، الى ملاحقة سياسية. ويقينًا أن هذه الردود وعلى هذه الشاكلة تشكّل مقدّمة لما سيحدث في قضيّة لجنة التحقيق الرسميّة في أحداث السابع من أكتوبر عام 2022.

 


هنا تقتضي النزاهة أن أقول إن الأمر لم يكن كذلك في عهد حكومات الليكود الأولى، فلجنة التحقيق الرسميّة في مذبحة صبرا وشاتيلا عام  1982إبان عهد حكومة مناحيم بيغن، التي ترأسها رئيس المحكمة العليا في حينه القاضي يتسحاك كاهن ، والتي رافقتها تحرّكات واحتجاجات شعبية وجماهيرية وصلت ذروتها بمظاهرة شارك فيها نحو 400 الف متظاهر في ساحة ملوك إسرائيل في تل ابيب، انتهت في توصياتها عام 1983، إلى تحميل مناحيم بيغن مسؤوليّة شخصيّة، ومنع أريئيل شارون وزير الأمن من تولّي منصب مماثل في المستقبل، وكذلك رئيس هيئة الأركان العامّة للجيش رفائيل إيتان، وعندها استقال أريئيل شارون،

أو تحديدًا تم إجباره على الاستقالة من منصب وزير الأمن، وانتقل لإشغال منصب وزير بلا حقيبة، بعد أن أبلغه رئيس الوزراء مناحيم بيغن أنه سيضطرّ لإقالته تنفيذًا لتوصيات اللجنة،  إذا لم يستقلّ بمحضّ إرادته. لكنّ هذه الإقالة لم تنه حياة شارون السياسيّة، بل إنه حصل على منصب وزاريّ عام 1984 في حكومة الوحدة الوطنيّة برئاسة يتسحاك شمير(الذي عارض توصيات اللجنة وقال جملته المشهورة: عربٌ يقتلون عربًا واليهود يدفعون الثمن)، وشمعون بيرس، ليعود بعدها إلى رئاسة الحكومة، دون أن يذكر أحد توصيات اللجنة والمسؤوليّة التي حملته اللجنة إيّاها، وهي مسؤوليّة مقتل نحو 700 مواطن فلسطيني في هذين المخيمين على أيدي القوّات المسيحيّة( الكتائب اللبنانيّة)، وهو ما سيحدث هذه المرّة أيضًا في تقرير لجنة التحقيق الرسميّة في حادثة ميرون، فالذين وردت أسماؤهم لن يتضرّروا ونقصد السياسيّين،

فأمير أوحانا يمكنه اشغال أيّ منصب وزاريّ رفيع كان، كوزير للقضاء، أو حتى الأمن وهو الآن رئيس البرلمان، وتم منعه من منصب محدّد، مع العلم أن المناخ السياسيّ الحاليّ في إسرائيل، يجعل من ورود اسم سياسيّ ما في لجنة  تحقيق ما "شهادة شرف" ووسيلة، أو مبرّر للتقدم والمزيد من التأييد، فالمناخ السياسيّ الحاليّ والذي يكرّسه الائتلاف الحاليّ، يشرعن كلّ شيء بدوافع سياسيّة وحزبيّة، فهو الذي حاول شرعنة منح أرييه درعي منصب وزير الماليّة رغم إدانته بتهم خطيرة تتعلّق بالفساد الماليّ والإداريّ وسجنه لسبع سنوات، وهو الائتلاف الذي شرعن بقرار لاحق من محكمة العدل العليا ، تعيين ايتمار بن غفير وهو المدان بدعم الإرهاب، وزيرًا للأمن الداخليّ،

وغيره وغيره.. فالكلّ سياسيّ، وبالتالي فإن إسرائيل الحاليّة والتي تحوّلت فيها السياسة الحزبيّة والشخصيّة إلى السمة الطاغية، لا تعتبر  توصيات لجان التحقيق الرسميّة ملزمة، أو ذات قيمة، خاصّة إذا كانت موجّهة لشخصيّات من اليمين منهم، وفي مقدّمتهم بنيامين نتنياهو، بل تعتبرها محاولة سياسيّة للمسّ به، فالقضاة كلّهم في نظر الحكومة الحاليّة والائتلاف الحاليّ جزء من معسكر اليسار ، وبالتالي فكلّ خطواتهم وقراراتهم مرفوضة، خاصّة إذا كان الطرف المقابل هو وزير يمينيّ، أو حاخام من المستوطنين يجيز قتل الفلسطينيّين جميعًا كالحاخام  يتسحاك غينزبورغ الذي ألّف كتاب" توراة الملك" الذي يجيز قتل أطفال الأغيار باعتبارهم سيكبرون ويتحوّلون في نظره إلى قتلة،

أو الحاخام دوف ليئور، العرَّاب الفكريّ والدينيّ لإيتمار بن غفير، والذي يؤيّد ترحيل الفلسطينيّين وقتلهم، وكان الأب الروحيّ ليغئال عمير الذي اغتال رئيس الوزراء إسحق رابين في نوفمبر عام 1995، كما ورد في كتاب" حمار المسيح اليهوديّ" للمؤلّف سيفي رخليفسكي، الذي قال أن يغئال عمير اعتاد زيارة الحاخام دوف ليئور وأخذ برأيه، ورغم ذلك لم يتمّ التحقيق معه، أو تقديم لائحة اتهام بحقّه، وذلك وفق أوامر عليا، وباختصار فإن السياسة في إسرائيل تشوبها اليوم حالة من عدم المبالاة في أوساط المصوتين حين يتعلّق الأمر بالمسؤوليّة أو الإخفاقات ، رغم قول ألبرت أينشتاين أن العالم لن يتعرّض للإبادة على أيدي من يفعلون الشر، بل بسّبب أولئك الذين يقفون جانبًا، دون مبالاة، أو اهتمام ، فأولئك هم الذين لا يريدون تغيير الوضع إلى الأحسن.

 


قضية القاضي خالد كبوب ولجنة تعيين القضاة، تؤكّد أن الكلّ سياسيّ، وأن السياسة والمصالح الحزبيّة تطغى، وإلا كيف يمكن تفسير رفض وزير القضاء ياريف ليفين عقد جلساتها، أو تغيير جدول أعمالها وإلغاء عمليّة التصويت على ترقية قاضيّتين من المجتمع اليهوديّ، لم ترق توجهاتهما ومواقفهما للوزير ليفين وعضوي اللجنة أوريت ستروك ويتسحاك كرويزر من اليمين المتطرّف، وهما القاضيتان جويا سكيبا  شابيرا من محكمة الصلح في القدس والمرشّحة للترقية إلى المحكمة المركزيّة،

والقاضية طال تدمور زمير نائب رئيس محكمة الصلح في حيفا، والمرشحة للترقية للمحكمة المركزيّة في المدينة، وذلك لأن الأخيرة في نظر اليمين في اللجنة فرضت على مواطنين عربًا  أدينوا بمخالفات عنف خلال مواجهات أيّارعام 2021،أحكامًا مخفّفة، فأيديولوجيّتهم المبنيّة على الفوقيّة العرقيّة اليهوديّة تطلب من القضاة التخفيف خلال إصدار الأحكام على اليهود بغض النظر عن خطورة إدانتهم،

والتشديد مع العرب بغض النظر عن ماهيّة التهم الموجّهة إليهم، وهي نفس الأيديولوجيّة التي توجّه موقفهم من قضية محاولة تنحية، أو إقالة القاضي العربيّ في المحكمة العليا خالد كبُّوب، لالتقاطه صورة خلال حفل تدشين احتفاليّ لمكتب المحاماة التابع لنجليه، وكلّ ذلك بمبادرة ودعم من جمعيّات يمينيّة متطرّفة تلاحق العرب وتتبع أخبارهم، وتنقلها إلى إعلاميّين يتصرّفون كالسياسيّين، وخاصّة جمعيّة" لافي" اليمينيّة وجمعيّة " رغافيم" وبتسلئيل سموتريتش كان أحد أقطابها، حوَّلت صورة عائليّة إلى مادّة تحريض دسمة على القاضي كبوب لمواقفه القضائيّة وانتمائه العرقيّ والدينيّ وتوجّهاته الداعية إلى منع تسييس الجهاز القضائيّ، وربما لأن تنحيته ستفسح المجال أمام تعيين قاضٍ يمينيّ، أو محافظ كما يحلو لهم وصفه، فالحكومة الحاليّة تريد أن يتم انتخاب القضاة وترقيتهم استنادًا إلى الانتماء السياسيّ والقوميّ اليهوديّ فقط، وليس وفق أيّ اعتبارات مهنيّة، وبالتالي السيطرة على الجهاز القضائيّ، فالكلّ سياسة بالنسبة لهم.

 

 


وهو الأمر ذاته بالنسبة للعنف في المجتمع العربيّ، فالكلّ سياسة، وإلغاء الهيئة الشرطيّة الخاصّة بمكافحة العنف في المجتمع العربيّ سياسة وكذلك اللجنة الوزاريّة الخاصّة بذلك، وتفكيك الوحدة الشرطيّة "وحدة سيف" التي ترأسها الجنرال جمال حكروش، وتقليص الميزانيّات الخاصّة بالسلطات المحليّة العربيّة وغير ذلك، فالحقيقة أن مكافحة العنف هي قرار سياسيّ قبل كونه قرارًا عملياتيًّا شرطيًّا وأمنيًّا، بمعنى وجوب وجود قرار حكوميّ،  أو نية حكوميّة رسميّة حقيقيّة لمواجهته، تفنّد القول إنه لا مجال لمكافحته، أو إنه حالة أساسها حضاريّ ثقافيّ وغيره، وتجربة السلفادور في أمريكا الجنوبيّة أفضل برهان، فقد بلغ عدد القتلى فيها عام 2015 نحو 100 قتيل من بين كلّ مئة ألف مواطن، جرّاء الحرب بين العصابات وأعمال العنف (3340 قتيل عام 2018)،

بينما انخفضت عام 2023 إلى ثمانية قتلى من كلّ 100 ألف مواطن، أيّ بنسبة 92%، وذلك بقرار سياسيّ اتّخذه رئيسها نجيب بوكيلة (فلسطينيّ الأصل هاجرت عائلته من القدس إلى السلفادور)، والذي أعلن في خطاب تسلّمه منصبه عام 2019،أنه يريد فتح صفحة جديدة لبلاده التي خرجت عام 1992 من حرب أهليّة دامت منذ 1979 وأنه مصمّم على أن يعطي  الأمل لشعب السلفادور بإنهاء الفساد الذي تعاني منه الدولة منذ  انتهاء الحرب الأهليّة عام 1992كما ذكرنا، وبالتالي  تعهّد بوكيلة بمحاربة الفساد في بلاده بالإضافة لدعمه التعليم، وتوفير الأمان والأمن وتطوير البنية التحتيّة والمواصلات والبنى التحتيّة، وشنّ حربًا شعواء ضد العصابات القويّة التي تتمتّع بسمعة شديدة السوء،

امتهن أفرادها ارتكاب جرائم قتل وحشية وعمليّات اختطاف وابتزاز  ومتاجرة بالمخدرات وحتى البشر، وجنَّد لذلك عشرات آلاف الجنود وأفراد الشرطة، حاصروا الأحياء التي تنشط فيها هذه العصابات والتي حوّلتها إلى مرتع لتجار المخدرات وغسيل الأموال، وسنَّ القوانين الخاصّة باعتبار الحرب ضدّ العصابات الإجراميّة، حالة طوارئ حيث أصدر البرلمان  بناءً على طلب من الرئيس مرسومًا باعتماد نظام الطوارئ لمكافحة تصاعد العنف الذي تسبّبه العصابات، وأقام سجنًا خاصًّا ظروفه قاسية، واستعان بسلطات الجهاز الضريبيّ والعقارات وغيرها مؤكّدًا، بل متعهدًا أن رجال العصابات سيندمون على القتل وسفك الدماء والمتاجرة بالمخدرات،

وأن رجال العصابات المسجونين في السجن الخاصّ الذي أقامه لهم لن ينعموا برؤية ما هو خارج جدران السجن، وواصل شنّ حملات مكثّفة ضدّهم وتجفيف منابع المخدرات وترميم الأحياء الفقيرة ورفع المستوى الاقتصاديّ للسكان، إضافة إلى تشريعات هامّة منها زيادة الحدّ الأقصى لعقوبة العضويّة في العصابات الإجراميّة من  9 سنوات إلى 45 سنة، وهو يواصل اليوم الحرب على العصابات في السلفادور، والتي اشتهرت بكونها  الأعنف في منطقة أميركا الوسطى، مع اعتقال المزيد من أعضاء العصابات، ليس قبل أن تعرفها الحكومة والسلطات الرسميّة على أنها تهديد  للأمن القوميّ،  أي اعتبار الإجرام بقرار رسميّ  وليس حالة، أو قضيّة ومشكلة جنائيّة، ومن هنا يبدأ الحل،  بينما يواصل الساسة في الحكومة الحاليّة هنا لدينا، اعتباره حالة خاصّة بالأقليّة العربيّة ونتيجة لثقافة وتربية عنيفة، وبالتالي يمكن تجاهلها،

أو اتهام العرب بالمسؤوليّة عنها والامتناع عن علاجها، ومن هنا تنبع أهمية القرار السياسيّ وسرعة اتخاذه ووجود الأشخاص المؤهّلين لذلك، فاتخاذ القرار السياسيّ السريع والفعال هو أمرٌ بالغ الأهميّة خاصّة خلال ومقابل الأزمات، ليس فقط بسبب ضيق الوقت لاتّخاذ القرارات، بل لأن من طبيعة الأزمات أنه لا  يمكن التنبّؤ بمدى اتّساعها ووقع تأثيرها على المواطنين والسكان، وهو تأثير يزداد خطورة إذا لم تكن عمليّة صنع القرار السياسيّ سريعة ومنظّمة، وإذا لم يكن هناك من يملك المؤهّلات والرغبة في اتخاذها، فكم بالحريّ إذا لم يتمّ اتّخاذ القرارات  الصحيحة والحاسمة لدوافع مختلفة، منها السياسيّة. 

 

 


خلاصة القول: ردود الفعل في إسرائيل بعد توصيات لجنة التحقيق الرسميّة في أحداث جبل ميرون. وهي دون شكّ مقدّمة للادّعاءات التي سترافق لجنة التحقيق الرسميّة في أحداث السابع من أكتوبر، إذا ما تمّ تشكيلها، والنقاش الدائر اليوم حول كون رئيس الوزراء مسؤولًا، لكنّه ليس متّهمًا، ولا يجب اتّخاذ إجراءات وتوصيات بحقّه، وحول كون المسؤوليّة وهي الجانب الأخلاقيّ من السلطة، لا تعني تحمّل النتائج، تؤكّد أن السياسيّين المعاصرين والحاليّين هنا يرفضون أيّ التزام بأيّ معيار أخلاقيّ، بل إنهم ومؤيّدوهم يعتبرون المعيار الأخلاقيّ عيب من عيوب السياسة المعاصرة، وبالتالي من يهتمّ به إنما يعتبر سياسيًّا فاشلًا، وبالتالي هو التأكيد على أن  منطق الربح والخسارة فقط،  هو الذي يحكم عمل معظم محترفي السياسة المعاصرين، دون أيّ اكتراث، أو اهتمام  حقيقيّ للمبادئ والأخلاق .

תגובות

מומלצים