الضلال السياسيّ والقضائيّ يُلغي الحريّة والعدالة والسلام والمساواة

إذ يراودني بما يشبه اليقين الشعور المُقلق، أن تعداد أيام الحرب التي تتواصل في غزة، وتبلغ من عمره، أو مدّتها 147 يومًا، مقتربة من شهرها الخامس، وبعده سيأتي سادس، حتى لو تم وقف إطلاق النار لشهر، أو أقلّ أو أكثر في شهر رمضان، نتيجة لاتفاق لتبادل المختطفين والمحتجزين الإسرائيليّين الذين تحتجزهم حركة "حماس"

02.03.2024 מאת: المحامي زكي كمال
الضلال السياسيّ والقضائيّ يُلغي الحريّة والعدالة والسلام والمساواة

بمئات من السجناء الأمنيّين الفلسطينيّين القابعين في السجون الإسرائيليّة، سيخرج إلى العلن قريبًا، كما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، أو أنه سيكون بعيدًا، كما تلمّح مصادر إسرائيليّة مقرّبة من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من جهة، وقيادات حركة "حماس" في الداخل والخارج، أي في غزة المحاصرة والمهدومة والجائعة وقطر برفاهيّتها وفنادقها ونعَمِها من جهة أخرى، أن هذا التعداد قد تحوّل إلى طقس يوميّ عاديّ وتلقائيّ، بل ربما طقس مبتذل، يخشاه البعض أو الأغلبيّة، ويريده البعض ربما أن يتواصل ويستمر، بمعنى  العيش في الماضي، وتكريس الحاضر والقائم وما هو كائن، ودون أن يتم اتخاذ خطوات عمليّة وحقيقيّة إقليميّة ومحليّة وعالميّة لتغيير الحال،  أو لصياغة الغد وتحديد معالمه، وكأننا نتناسى، أو ننسى أن الحياة تتواصل، وأن الأيام تستمر.

 

ومن ثمّ تحضرني هنا كتابات الفيلسوف والخطيب والكاتب المسرحيّ الرومانيّ ، لوكيوس أنايوس سينيكا، المولود في قرطبة الإسبانيّة في العام الرابع قبل الميلاد، وخاصّة تلك التي وردت في مؤلّفه:" "في قصر الحياة" والتي جاء فيها قوله إن أكبر عائق في الحياة هو انتظار الغد وفقدان اليوم. وهو قول يحذِّر فيه من الركود والجمود، وعدم استغلال الوقت بشكل صحيح ومفيد. استغلال سمته الإبداع والإنتاج والفكر السليم، سواء كان ذلك بدافع الكسل، أو الشلل، أو القنوط، أو الاعتماد على قوى إلاهيّة وغيبيّة، وربما معجزات وفق القول الساخر الذي يصف حياة الكسالى من حيث "لماذا نؤجّل عمل اليوم إلى الغد إذا كان بالإمكان تأجيله إلى بعد الغد"،  مشيرًا بذلك إلى أمرين  تعانيهما المنطقة العربيّة والشرق الأوسط، وحاليًّا إسرائيل أيضًا، يتعلّقان باستغلال الوقت، أي أهميّة عامل الزمن، أو تلك المراحل منه التي يمكن استغلالها وهي الحاضر،

أوّلهما أننا، سواء كنا ناسًا عاديّين ومواطنين، أو قادة سياسيّين وعسكرييّن في دولة ما، هي إسرائيل في حالتنا هذه، لم نُعطَ حياة قصيرة، بل نحن من يجعلها كذلك باعتقادنا الخاطئ أن لدينا الكثير من الوقت لكنّنا نضيّعه، وثانيها قوله في الحياة العاديّة والسياسيّة والعسكريّة والثقافيّة والعمليّة، أنها تنقسم إلى ثلاث مراحل هي الحاضر والماضي والمستقبل، وأن مرحلة الحاضر هي الأقلّ طولًا ومدّةً، أي إنها موجزة ستنتهي قريبًا جدًا. أما المستقبل فهو غامض ومشكوك فيه والأسوأ من ذلك أنه رهن بقرارات الحاضر، بينما الماضي هو الوحيد الأكيد والواضح، بمعنى أن الماضي صحيح وقد حدث بالفعل ، بينما المستقبل يمكن أن يختلف بشكل كبير، والحاضر هو وقت قصير سيقودنا إلى مستقبل كهذا أو آخر.

 


أقول ما سبق على ضوء ما تشهده البلاد في الأسابيع الأخيرة ، وعلى الساحات المحليّة والإقليميّة والعالميّة، من جمود وسكون وشلل سياسيّ وإداري  وقضائيّ من حيث عدم اتّخاذ القرارات اللازمة والصحيحة والشجاعة. وكأن الناس هنا يملكون من الوقت كميّات غير محدودة، وكأن الحاضر سيدوم إلى الأبد، أما الماضي فهو الأهم، بينما المستقبل أو "ما بعد الحرب" ينحصر في حياة الآخرين، وتحديدًا المصير الذي سينتظر المواطنين في قطاع غزة، أو ما تبقى منه ومن بقي منهم، ومستقبل  قادة حركة "حماس" عامّة ويحيى السنوار خاصّة،  ومستقبل السلطة الفلسطينيّة ودورها في غزة وهوية رئيسها القادم  والسلام المنتظر مع السعوديّة، ونتائج انتخابات الرئاسة الأميركيّة القادمة، وغيرها وغيرها من القضايا، دون أدنى تفكير،

أو دون أن يملك أيّ من القياديين في البلاد الشجاعة الذاتيّة والنزاهة المهنيّة، ليقول لنفسه أولًا وللشعب ثانيًا، أو ربما بالعكس، إن "ما بعد الحرب" يتطرّق أيضًا إلى الأمور الداخليّة والحياتيّة اليوميّة لكافّة المواطنين، وأوّلها أو منها خطورة مجريات الأمور في البلاد وخاصّة القرارات التي تمّ اتخاذها حول قضايا داخليّة منها الميزانيّة وعلاقة دولة إسرائيل بمواطنيها العرب على ضوء التوجّهات الهادفة، إذا ما تمّت في نهاية المطاف استجابة لطلبات، أو توجّهات، أو ربما نزوات من يقف خلفها، ويصرّ على تنفيذها وهو وزير الأمن الداخليّ إيتمار بن غفير،

حول التقييدات أو القيود الصارمة وربما الحاسمة، التي يريد فرضها عامّة على دخول المسلمين إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان الذي ينطلق بعد أقل من أسبوعين من اليوم، وخاصّة على  وصول مواطني إسرائيل العرب إلى المسجد الأقصى، ضاربًا بذلك عرض الحائط بكافّة الشعارات والتصريحات حول المساواة في الحقوق المدنيّة، وحرية الحركة والتنقّل، وفوق كلّ ذلك، بل قبل كلّ ذلك، حريّة العبادة خاّصة في هذا الموعد الهامّ، وذلك خلافًا لتوصيات كافّة أجهزة الأمن والاستخبارات التي تُحذّر من أن ذلك سيكون بمثابة صبّ الزيت على نار الضفة الغربيّة، أو على جمرها الذي يكفي القليل من الزيت لإشعاله، وتحويله إلى نار تأكل كلّ ما حولها من الأخضر  واليابس، إو إذكاء شعلة الخلافات وربما الصدامات مع المواطنين العرب، وهي شعلة حاول الوزير ذاته منذ السابع من أكتوبر إشعالها ، بعد أن خابت توقّعاته التي أطلقها بعد أيّام من هجوم مسلّحي "حماس" على البلدات الإسرائيليّة الجنوبيّة،

وما ارتكبوه من فظائع حين صرَّح بينما هو يقف أمام مقر الشرطة في بلدة "سديروت" الحدوديّة الجنوبيّة التي تم إخلاؤها، بأن نسخة ثانية من المواجهات بين الشرطة والمواطنين اليهود من جهة والعرب من جهة أخرى، أصبحت مؤكّدة وقريبة وستكون أخطر من سابقتها من أيّار عام 2021،وإلى ذلك تضاف قرارات إقليميّة ودوليّة التأثير ، منها ما اتفق على تسميته خطة نتنياهو لما بعد الحرب في قطاع غزة، والتي تم عرضها بشكل يسوده الغموض وعدم الوضوح خلال جلسة المجلس الوزاريّ المصغّر للشؤون الأمنيّة والسياسيّة الأسبوع الماضي،

والتي كان أفضل وصف لها، أنها تحاول إرضاء الولايات المتحدة من جهة، وإرضاء الشركاء اليمينيّين في الائتلاف وخاصّة اليمين الاستيطانيّ المتديّن، برئاسة بتسلئيل سموتريتش  وإيتمار بن غفير. وهي غاية مستحيلة التحقيق ، خاصّة وأنها لا توضح مستقبل القطاع من النواحي السياسيّة والإنسانيّة، بل إنها تكتفي بالجوانب الأمنيّة والعسكريّة فقط، متجاهلة أبعادها الأخرى حول العلاقات مع مصر وإمكانيّة إيجاد حلّ للصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ،

وليس فقط  إدارته، أو مواصلة إدارته دون حلّ، ما يعني جولات متواصلة من الصدامات وتوتّرات  إقليميّة ودوليّة لا تنتهي، ناهيك عن أن قرارات الحكومة الحاليّة، ومنها تقليص الميزانيات للمواطنين العرب ثلاثة أضعاف تقليصها في المجتمع اليهوديّ، وتجاهل تفاقم العنف والفقر والبطالة ومشاعر الإقصاء والتحريض، ومشاريع القوانين التي تحاول فرض مزيد من القيود عل نشاطات مدنية للمواطنين العرب، وغيرها من التصرّفات التي تشتم منها محاولات للتضييق على خطوات المعارضين لمواقف الحكومة حول التغييرات الدستوريّة ، تؤكّد أن هذه الحكومة وهذه القيادات لم تدرك بعد أن الحاضر سينتهي، وأن المستقبل آت لا محالة، وأنه لا يمكنها منعه ، وأن عدم اتخاذها أيّ خطوات لصياغة مستقبل أفضل، أو مواصلة اتخاذها خطوات تؤدّي إلى تكريس الحاضر واستغلاله لأهداف آنيّة وضيّقة، تعني أنها تراهن على هذا المستقبل، أو بكلمات أقسى تجعله رهينة لمحاولتها ضمان الحاضر والمكوث في الماضي.
بكلمات صريحة ومختصرة وربما قاسية، أقول إن القيادات الإسرائيليّة والحمساويّة، على حدّ سواء تتجاهل عمدًا، كون " اليوم ما بعد الحرب" يتطرّق إلى طرفي الحرب الحاليّة،

أي أن الحديث الحمساويّ عنه بعبارات تتطرّق فقط إلى استمرار تواجد إسرائيل عسكريًّا على الأقلّ في القطاع عبر شريط أمنيّ أو حدوديّ، من عدمه، أو تواجدها مدنيًّا أيضًا، وعبارات تتطرّق إلى استمرار وجود "حماس" كسلطة حاكمة من عدمه ومحاولة عرقلة أيّ إمكانيّات، أو احتمالات، أو مقترحات أخرى، إنما هو تفويت لفرصة هامّة قد تكون تاريخيّة وربما لمرّة واحدة، لمحاولة إيجاد حلّ ما، أو بداية لمحاولة إيجاد حلّ يمنع تكرار الحالة الراهنة في القطاع، بمعنى خلق حالة تسود القطاع فيها أوضاع تجعله قابلًا للحياة، وتجعل الحياة فيه ممكنة، من حيث الظروف الاقتصاديّة والحياتيّة والتشغيليّة والتعليميّة والإنسانيّة عامّة، ومنح المواطنين هناك حقهم الإنسانيّ الأساسيّ في الحياة بدلًا من ابقائهم رهائن لقيادات قرّرت خوض حروب ومواجهات عسكرية لا تنتهي مع إسرائيل ،

رغم أنها تدرك أصلًا أن النصر لن يكون حليفها وليس ذلك فقط، بل إنها وبحكم ميزان القوى  العسكريّ والسياسيّ الإقليميّ والعالميّ، وحالة الصمت والعجز التامّة في تلك الأطر التي تغنى كثيرون طيلة عقود بتسميتها "العالمين العربيّ والإسلاميّ"، وقبلها دول عدم الانحياز والمعسكر الشرقيّ، وواقع القطب الدوليّ الواحد وكون أميركا الدولة العظمى الوحيدة ،

ستكون دائمًا الطرف الخاسر، وأن مواطنيها سيكونون أول وأكثر من يدفع الثمن جسديًّا واقتصاديًّا وحياتيًّا وعلى كافّة الصعد. كما أن الحديث إسرائيليًّا عن " اليوم الذي يلي الحرب" واقتصاره على الجوانب العسكريّة، أي الإصرار على شريط أمنيّ حدوديّ  وحريّة العمل العسكريّ، وقبل ذلك الإصرار على عمليّة عسكريّة في منطقة رفح، رغم المعارضة المصريّة والعربيّة وحتى تلك الأوروبيّة والأميركيّة،

 دون أي حديث عن الجوانب المستقبليّة للحلّ، أي دون وضع أيّ مقترحات، حتى لو كانت أوليّة وقابلة للنقاش، حول ما سيكون الحال عليه مستقبلًا ، دون اقتصار ذلك على المدى القريب، يعني أن إسرائيل تشهد حالة غريبة، من الطبيعيّ أن تسودها، أو تطغى عليها الأسئلة والتساؤلات، حول ما إذا كانت دوافع ومنطلقات رئيس الحكومة الذي يدير الحرب، كلها منطلقات قياديّة صافية وخالصة ونزيهة من أيّ تأثير حزبيّ، أو مصلحة شخصيّة سياسيّة، أو حزبيّة أو غيرها، أو أن بعض القرارات التي يتّخذها رئيس الوزراء، أو تلك التي يمتنع عن اتخاذها، إنما تجيء من منطلقات حزبيّة تتعلّق مثلًا وربما برغبته في الحفاظ على ائتلافه وحكومته وإطالة فترة وجوده في سدّة الحكم بكل ما يعنيه ذلك من حماية له من تبعات محاكماته ولوائح اتهامه، أو درءًا لأخطار لجنة تحقيق رسميّة قد يتم تشكيلها لفحص إخفاقات السابع من أكتوبر ، وحمايته من مغبّة دفع ثمنها بصفته من يقف في رأس الهرم القياديّ، منذ اكثر من عقد ونصف من الزمن.

 


نظرة سريعة إلى قضيّتين سبق ذكرهما، وهما خطة نتنياهو حول غزة ما بعد الحرب، والضبابيّة التي تسودها من جهة، ومطالب إيتمار بن غفير حول المسجد الأقصى والتي يتذرّع فيها عمدًا، بل خلافًا للحقيقة والحاجة والمنطق، بالحجج الأمنيّة مدّعيًا أنها تجيء لمنع اعمال عنف وتحريض محتملة، بينما هي مطالب ومقترحات ستؤدي حتمًا ووفق تقييمات استخباريّة وأمنية من الشاباك والاستخبارات العسكريّة والشرطة وغيرها، إلى عنف ومواجهات واشتعال الأوضاع في الضفة الغربيّة  وشرقي القدس على الأقلّ، تشير إلى أمر يمكن الجزم حوله اليوم، ودون حاجة لانتظار النتائج التي ستتمخّض عنها الحرب، أو ما سيكون عليه الحال في العلاقة بين غزة وإسرائيل بعدها، وقبل انتظار نتائج ونهايات مطالب بن غفير، ملخصه أن إسرائيل تفوت اليوم فرصة، ربما هي رمية من غير رامٍ، وضعتها أمامها الحرب الحاليّة في القطاع،

وما يرافقها من أوضاع اقتصاديّة، أو ما يرافقها تحديدًا من تدهور اقتصادي وتأجيل، بل ربما إجهاض لأيّ فرصة قريبة، قد تقود إلى تطبيع مع السعوديّة، أو حلّ ينهي الصراع الدامي مع الفلسطينيّين، ويمنع تأزم للعلاقات الداخليّة والصراعات الحزبيّة والطائفيّة الداخليّة ،وأنها أي إسرائيل،  تقف اليوم على مفترق طرق عليها فيه تحديد وجهتها، فإما اتّخاذ قرارات شجاعة والقبول بالفرصة الذهبيّة التي توفرها المقترحات الأميركيّة والعربيّة والأوروبيّة، حول ما بعد نهاية الحرب في غزة، والتي يمكن تلخيصها بأنها بداية لحلّ سياسيّ يمتد على سنوات، يكفل إقامة قيادة فلسطينيّة في القطاع ، تعتبر رفاهية شعبها واستقراره وتطوره الهدف الأول والأهمّ، وتعتبر السلام أو عدم الحرب مع إسرائيل غاية سياسيّة حقيقيّة ودائمة، بمعنى أنها استراتيجيّة، وليست مجرد تكتيك قصير المدى،

وبداية لتوسيع نطاق اتفاقيات السلام، أو التطبيع مع الدول العربية الجارة وتلك البعيدة. لكن نظرة خاطفة إلى ما اقترح رئيس الوزراء  بنيامين نتنياهو حول ما بعد الحرب، خاصّة ما يتعلّق منها بإقامة منطقة أمنيّة في قطاع غزة في المنطقة المتاخمة للمستوطنات الإسرائيليّة، واستمرار الحفاظ على هذا الشريط طالما استوجبت الحاجة (وفق مفهوم إسرائيل) ذلك، ومواصلة إغلاق القطاع من الجنوب، أي في منطقة رفح وعلى الحدود بين غزة ومصر، واستمرار معارضة ورفض الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة، والادعاء أن الاعتراف بها بعد أحداث السابع من أكتوبر، من شأنه أن يعرقل  أيّ تسوية سلمية في المستقبل، تشير إلى أن نتنياهو يعمل على  سحب البساط من تحت أيّ خطة أميركيّة، أو عربيّة محتملة بشأن مستقبل القطاع،

وفي الوقت نفسه يريد استرضاء اليمين المتطرّف الذي تتوافق الخطة المطروحة مع تطلعاته، وأن إسرائيل ربما تفوّت الفرصة لذلك، وترفض التوجّه نحو المقترحات الأميركيّة التي صاغها الرئيس الأميركي جو بايدن، والسعي نحو السلام وتعزيز التوجهات المعتدلة، وفتح آفاق المستقبل على مصراعيه أمام المنطقة كلّها بما فيها، بل في مقدّمتها إسرائيل والفلسطينيّون، وبعدهما دول أخرى، أي انها ترفض قبول المقترحات المعتدلة والعقلانيّة والتي تحمل تفاؤلًا مستقبليًّا، وإذا كان ذلك لا يكفي فإن تفاصيل ما عرضه نتنياهو  يعني أن إسرائيل اختارت "تسليم" نفسها للتوجّهات المتطرّفة والعنصريّة. وأن حكومتها ورئيسها  يفضلان الانسياق خلف التوجّهات الإقصائيّة، وتلك المتطرّفة التي تحول دون الديمقراطيّة والمساواة،

وتكريس التوتّر الداخليّ، بل الصراعات والخلافات الداخليّة والتوجّهات الفئويّة، وإلغاء سلطة القضاء  واستخدام "البعبع الأمني" مبررًا لتقييدات على الحريات وجعله سببًا للمزيد من الصدام الداخليّ، والتمييز ضد الأقليّات السياسيّة والقوميّة والطائفيّة وغيرها، وقمع أي محاولة للاعتراض على سياسات الحكومة، وتحويل الشرطة إلى جهاز ينفذ أوامر الحكومة والحاكم، أي الوزير بدلًا من إنفاذ القانون.

 


وبما أن الشيء بالشيء يذكر، جاء قرار محكمة العدل العليا هذا الأسبوع حول الالتماسات التي قدمت لمنع إيتمار بن غفير من تولي منصب وزير الأمن الداخليّ، ليؤكّد قضاة محكمة العدل العليا بقرارهم  شرعنة تعيينه وزيرًا رغم سجلّه الجنائيّ والأمنيّ الحافل، ورغم إدانته بدعم تنظيم إرهابيّ ودعم الإرهاب، وإدانته بعشرات الملفّات الجنائيّة، بحجّة أن ذلك يندرج ضمن نطاق المعقوليّة، أو الأرجحيّة. وأن معظم هذه الإدانات جاءت قبل انتخابه عضوًا في البرلمان، وكذلك قبل انتخابه، أو تعيينه وزيرًا.

 

والدليل أنهم شركاء في تفويت الفر ص التاريخيّة، وأنهم يهدرون فرصة تاريخيّة، تؤكد  كون إسرائيل دولة ديمقراطيّة حقيقية يملك الجهاز القضائيّ فيها وعلى رأسه محكمة العدل العليا، الشجاعة والمقوّمات الأساسيّة والمهنيّة، لاتخاذ قرارات هامّة تضع إسرائيل في مصاف الدول النزيهة، والتي يتم اتخاذ القرارات القضائيّة فيها، وكذلك قبلها السياسيّة، وفق اعتبارات صريحة وواضحة ونزيهة ، وقول الحقيقة بشجاعة، دون خوف أو وجل، واتباع الطريق الصحيح والرأي الصارم والصريح، دون الحاجة إلى الاختباء وراء صياغات ضبابيّة وفذلكات قضائيّة، تتجاهل الجوهر وتتمسّك بالمظهر، أو تتناسى المضمون والتبعات، وتتعامل مع التقنيات والمبررات ،

وبالتالي فوّتت المحكمة العليا هنا فرصة تاريخيّة، في خطوة تقول وتعترف فيها أنها لا تملك الشجاعة الكافية لمواصلة  النهج الذي خطته برفضها لحجة الأرجحيّة والمعقوليّة وإلغائها قبل نحو شهرين، إذ توقّع الجميع  بعد ذلك الرفض  أن تمارس المحكمة، بشجاعة وبشكل دائم، رقابتها القضائيّة على قرارات الحكومة والبرلمان، حتى لو كانت تتعلّق بتعيينات بارزة وفي مناصب مرموقة، باعتبار ذلك جزءًا لا يتجزّأ من مهامّها. لكنها تراجعت عن ذلك، لتضع قرارها السابق حول رفض حجة الأرجحيّة، في زاوية ضيّقة متذرّعة بحجج واهية إجرائيّة وليست جوهريّة، فهي بقرارها إبقاء بن غفير في منصبه، تنازلت عن دورها، بل امكانيتها في رفع شأن الجهاز السياسيّ وكذلك القضائيّ وزيادة ثقة الناس بهما،

إذ أن قرارًا بمنع بن غفير من مواصلة مهامّ منصبه بصفته كان أدين بدعم الإرهاب وبمخالفات جنائيّة خطيرة، كان سيشكل رسالة مفادها أن الجهاز السياسيّ يشكّل موقعًا لا يمكن لكلّ من هبّ ودبّ، ولكل طارئ وفاسد ومحرض، أن يكون عضوًا فيه ، وكم بالحري أن يحظى بحماية الجهاز القضائيّ، علمًا أنها المرة الثانية على التوالي التي يفشل الجهاز القضائيّ في اتخاذ قرار شجاع ،معناه تنقية الجهاز السياسيّ، ومنع مظاهر الفساد من التغلغل فيه، خاصّة وأن نفس المحكمة كانت ردت بالإجماع التماسًا طالب مقدّموه بمنع بنيامين نتنياهو من تشكيل الحكومة الجديدة،

بسبب لوائح الاتهام الثلاث التي تتم محاكمته فيها، ناهيك عن أن اتخاذ القرار حول بن غفير تزامن مع تحذيرات من خطورته وخطورة توجّهاته، تضاف إلى إعلانه علنًا رفض سلطة الجهاز القضائيّ بكافّة جوانبه، بما فيها قرارات وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة التابعة لوزارة القضاء، ورفضه للحق القانونيّ لمعارضي الحكومة عامّة  ومعارضي الحرب خاصّة بالتظاهر، وبالتالي يمكن الجزم أن الجهاز القضائيّ اليوم، وخلافًا لمهامّه ودوره والمتوقع منه، إنما يشرعن استمرار،

 وربما شرعنة الفساد السلطويّ عبر السماح  لمدان بالإرهاب بإشغال منصب وزير، وقبله السماح لرئيس وزراء يواجه ثلاث لوائح اتهام خطيرة بممارسة منصبه كالمعتاد، ومواصلة إدارة شؤون الدولة في زمن الحرب، متجاهلين إمكانيّة كون قراراته تجيء لمنع إدانته ومنع استمرار محاكمته، بمعنى أن هذا الجهاز المكلّف برقابة قضائيّة تضمن نقاء السلطة ونقاء اليدين، يشرعن تعيين مدان بدعم الإرهاب وزيرًا للأمن الداخلي، خلافًا بل نقيضًا لما هو قائم في الدول الديمقراطيّة والليبراليّة. ونقول هذا دون أن نعدّد القرارات التي تُشرعن مصادرة الأرض للعرب في هذه البلاد، وهدر حقوق الفلسطنيّين في الضفة الغربيّة على يد المستوطنين والسلطة الأمنيّة.

 


الخلاصة: الحال اليوم وعلى ضوء القرارات السياسية التي اتخذتها الحكومة والقضائيّة من قرارات محكمة العدل العليا، يعني استمرار ما كان، واستغلال الوقت لتكريس الحاضر دون التفكير في المستقبل، في تأكيد آخر على أن إسرائيل اندمجت بشكل تام في الشرق الأوسط، فهي تتغنّى بالماضي وتريد البقاء فيه، وتحاول تكريس الحاضر دون محاولة حتى أوليّة لصياغة المستقبل، بل تستخدم الماضي وخاصّة السابع من أكتوبر واتفاقيّات أوسلو والانسحاب من طرف واحد من غزة عام 2005،

 مبرّرًا لتجاهل وإهمال المستقبل والادّعاء بأن ما كان في الماضي هو سبب الحاضر. وهو ادعاء كان في حالة الحكومات والدول الطبيعيّة الراغبة في الحياة وتحسين المستقبل، يجب أن يشكل الدافع لخطط تجعل من المستقبل مختلفًا، بل أفضل وأكثر إشراقًا، أما الجهاز القضائيّ بتكريسه للحاضر من وزير للأمن الداخليّ مدان بدعم الإرهاب، وتكرار قرارات الماضي حول السماح لمتهم بتهم جنائيّة خطيرة من تشكيل الحكومة،

ربما تكريسًا للقرارات المتعلّقة بالوزيرين السابقين أرييه درعي ورفائيل بنحاسي من حيث منعهما من تولي مناصب حكوميّة فقط، بعد إدانتهما التامّة ومكوثهما في السجن، فإنه يرسم خطوطًا للمستقبل تنذر بأن القادم سياسيًّا وقضائيًّا هو أكثر خطورة وغرابة، وأن تفويت الفرص بدافع الخوف والتردّد والنظرة إلى المدى القصير والتخوّف من ردود الفعل الغوغائيّة، أصبح حالة إسرائيليّة مزمنة سياسيّة وقضائيّة، فما تبقى لنا ،كما يبدو، سوى انتظار القادم. ويقينًا أن القادم ، إذا ما استمرّ الحال على ما هو عليه، سيكون أسوأ، ولعلي أختم بأنه يصح اليوم بإسرائيل وحكومتها وقضائها، القول الذي كان ملازمًا للدول العربيّة والفلسطينيّين، وهو أنها لا تفوت فرصة لتفويت الفرصة!!!!! 

 

תגובות

מומלצים