حكومة إسرائيل مكتظّة بكلّ شيء إلا الحكمة
وإن كانت العمليّة العسكريّة متوقّعة ضد مدينة جنين ومخيمها في الضفة الغربيّة، والتي بدأتها إسرائيل صبيحة الإثنين من هذا الأسبوع، الثالث من يوليو تموز للعام 2023، اتّفق الجميع على حدوثها بعد أن هيّأ السياسيّون، من حكومة نتنياهو السادسة
ومن أحزابها الاستيطانيّة اليمينيّة المتطرّفة التي طالب قادتها بلسان قادة المستوطنين وشبيبة التلال الذين عاثوا فسادًا وحرقًا في الممتلكات والمنازل في قرى وبلدات فلسطينيّة منها: حوارة وترمسعيّا وأم صفا وغيرها، فقد طالبوا بقصف المباني والأحياء وتصفية المسلحين وتسوية المنازل بالأرض، واستعادة "هيبة إسرائيل وجيشها وقدرتهما على الردع وإخافة الفلسطينيّين،
واختلفوا حول توقيتها ليس رحمة وشفقة بالفلسطينيّين بل لأسباب سياسيّة لا سيّما الخارجيّة منها، خاصة ردود الفعل الغاضبة أميركيًّا ودوليًّا على انفلات المستوطنين وإحراقهم المنازل الفلسطينيّة وسط تشجيع بعض الوزراء والنواب الذين دعوا الى إقامة بؤر استيطانيّة في كل تلة وعلى كل جبل، أو الذين طالبوا بحرق قرية حوارة، ناهيك عن رغبة نتنياهو الملحة وربما المصيريّة سياسيًّا لتلقي دعوة من الرئيس الأميركيّ جو بايدن لزيارة البيت الأبيض، فإنها ونظرًا لعوامل عديدة، سياسيّة وائتلافيّة وحزبيّة،
تشبه غيرها من العمليّات التي سبقتها في الضفة الغربيّة وآخرها حملة "السور الواقي" قبل 20 عامًا ونيِّف (بدأت 29.3.2002) حيث كانت مدينة جنين ومخيمها مركزها ورمزها، أو تلك المتكررة ضد غزة منذ العام 2005، وهو عام الانسحاب الإسرائيليّ من طرف واحد من قطاع غزة، فمن حيث الحقيقة الواضحة الأولى، وهي أنّ هناك من يعتبرها عمليّة كسابقاتها وربما هناك ما ستليها، عملية أو حملة عسكريّة عبثيّة تُوقِع الضحايا والجرحى من الطرف الفلسطينيّ بمن فيهم المدنيّين والأبرياء، خاصة في منطقة كمخيم جنين مساحتها لا تزيد عن كيلومتر مربع واحد، ويشهد اكتظاظًا سكانيًّا خانقًا، فقد ألحقت أضرارًا لا حدود لها بالبنى التحتيّة العامة كما أكدت صور الجرافات العسكريّة الإسرائيليّة أثناء قيامها بتجريف إسفلت الشوارع بحجة البحث عن عبوات ناسفة، والمنازل الخاصة ووقف كافة الخدمات والحركة التجاريّة تمامًا كحركة خروج العمال الفلسطينيّين من جنين خاصة والضفة الغربية عامة للعمل في إسرائيل بكل ما يعنيه ذلك من أبعادٍ اقتصاديّة، دون أن تغيِّر من الواقع أيّ شيء باستثناء قيام كل من الطرفين المتحاربَيْن بإعلان نصرهما والتأكيد من الجانب الإسرائيليّ على أنّ قوّة الردع قد عادت، وهي الدليل على انعدام الاستراتيجيّة الإسرائيليّة طويلة المدى التي تؤكّد أنّ الحلّ للنزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ ليس عسكريًّا، بل إنّه مزيج من العمل السياسيّ والاقتصاديّ الدوليّ والإقليميّ والثنائيّ مع الطرف الفلسطينيّ، وأنّ لا هدوء ولا حياة لأيّ من طرفي المعادلة وشقّي النزاع دون أن يسود السلام العادل وقيام كيانين مستقلّين للطرفين، وإعلان الفلسطينيّين أنّ الفصائل المسلّحة ردت العدوان الإسرائيليّ، وهي تصريحات تتكرّر في نهاية كلّ حملة أو مواجهة عسكريّة، ناهيك عن تصريحات القيادة الفلسطينيّة الرسميّة بأنّه على الجالية الدوليّة وقف إسرائيل عند حدّها، بل اعتبار أنّها ترتكب جرائم حرب، وهي تصريحات لا تُسمن ولا تغني من جوع، بل إنّها تقع على آذان صمَّاء كما أثبت التاريخ،
وتؤكّد ما أصبح حقيقة يعرفها القاصي والداني وهي انعدام وجود أي إستراتيجيّة فلسطينيّة رسميّة ومدروسة لمواجهة الوضع القائم ومحاولة تحقيق الإنجازات للشعب الفلسطينيّ على الساحة الدوليّة والإقليميّة والمحلّيّة، فالقضيّة الفلسطينيّة تنحّت عن رأس سلّم اهتمامات العالم والدول العربيّة، والمواطن الفلسطينيّ يرزح تحت نير البطالة والفقر والفساد السلطويّ الماليّ والإداريّ، أمّا رجال السلطة فلا حول لهم ولا قوّة ولا حرّيّة تنقل لهم إلا بموافقة الجنديّ الإسرائيليّ، إضافة إلى انعدام استراتيجيّة لبناء دولة أو كيان، ومظاهر ذلك تعدد الفصائل المسلحة وعدم بسط سلطة وسيطرة السلطة الفلسطينيّة بل تخلّيها طوعًا عن شمال الضفّة الغربيّة وخلق "كانتون جنين" الذي يأتمر بأوامر مسلّحيه فقط، ليبقى الحال خاصّة في هذه المرّة كما هو، فالتوتّر الأمنيّ في شمال الضفّة الغربيّة خاصّة في ظل حكومة نتنياهو السادسة لن ينتهي بل ربّما بالعكس ومعه عدد العمليّات العسكريّة ضدّ الجيش والمستوطنين، فالأوضاع تظلّ على حالها، بمعنى أنّه يجوز تشبيه الطرفين المتحاربين بالمجانين الذين يكرّرون نفس التصرّف ويتوقّعون نتائج مختلفة، أو بمعنى أنّ نهاية مواجهة ما هي إلّا بداية التحضير للمواجهة القادمة التي لا بدّ من وقوعها ولو بعد حين.
ورغم أوجه الشبه فإن هذه الحملة، والتي تمتنع إسرائيل عمدًا عن وصفها بأنّها حملة عسكريّة لأسباب داخليّة اقتصاديّة وغيرها، تختلف عن سابقاتها، فهي تأتي في ظل حكومة يمينيّة غير مسبوقة من حيث تطرّفها وتهوّر وزرائها وتوجّهاتهم الدينيّة والقوميّة المتطرّفة، بل المسيحانيّة الخلاصيّة التي تعتمد في أساسها على أن إسرائيل هي صاحبة الحقّ في الضفّة الغربيّة وأنّ التوراة وهي كلام الله قد وعدت بني إسرائيل بها، وأنّ بناء المستوطنات ليس عملًا يناقض القانون الدوليّ والأعراف الدوليّة، بل إنّه عودة إلى أرض الآباء والأجداد،
أمّا الفلسطينيّون فإنّهم غرباء في وطنهم وقد استولوا على أرض توراتيّة يهوديّة، وبالتالي عليهم تركها إمّا عبر طردهم أو قتلهم أو ربّما قبولهم بأن يكونوا غرباء ولاجئين، كما إنّها تجيء في ظلّ رئيس حكومة بلغ من الضعف أشدّه بفعل ملفّاته القضائيّة التي يحاول الهرب منها والتخلّص من سيف السجن المسَّلَط على عنقه، بواسطة انقلاب قضائيّ يسانده فيه شركاؤه من اليمين لأهدافهم، ما يجعله رهينة لهوائهم بل نزواتهم والانجرار خلفهم، دون أن يكون صاحب القول الفصل ودون أن يتمكّن الليكود وهو الحزب الأكبر في الائتلاف من ممارسة سلطته وسيطرته على الائتلاف الحكوميّ (وهو ما عبَّر عنه القياديّ في الليكود والمعارض الهادئ لنتنياهو، النائب داني دانون)،
ناهيك عن أنه رئيس حكومة مؤلّفة من ائتلاف يمينيّ يملك أغلبية برلمانيّة راسخة ومصيرًا مشتركًا ملخّصه أنّها فرصة قد يكون الأخيرة لتحقيق مآربهم السياسيّة والدينيّة والحزبيّة- بل فرصة لن تتكرّر خاصّة إذا ما تنحّى نتنياهو عن الساحة السياسيّة- والتي تجلَّت في تشريعات برلمانيّة منها إعادة بناء المستوطنات في شمال الضفة الغربيّة وإلغاء قانون الانسحاب من المنطقة وإخلاء مستوطنتي "حومِش" و"سانور"،
ما جعل الأوضاع هناك خاصّة في الأشهر الأخيرة تتّجه نحو الاضطراب حاليًّا ونحو مزيد من الاضطراب مستقبلًا، خاصّة وأنّها منطقة "تسيطر" إسرائيل عليها عبر تعاون أمنيّ مع السلطة الفلسطينيّة، وتنفّذ سياسات قوامها توسيع الاستيطان في شمال الضفّة الغربيّة وغور الأردن تعني في نهايتها القضاء على حلّ الدولتين، وهي حالة قد تؤدّي في الوضع الحاليّ وهو الذي تعاني السلطة الفلسطينيّة فيها الضعف والهوان وتعيش، حتى وإن حاول البعض إخفاء ذلك، حرب وراثة أو صراعًا على السلطة في الفترة التي تلي فترة ولاية محمود عبّاس أبو مازن، وهو صراع قد يجعل تحقيق السيطرة الإسرائيليّة على شمال الضفّة الغربيّة وإضعاف الفصائل المسلّحة هناك أو الحفاظ على هدوء نسبيّ في الضفّة الغربيّة دون الوصول إلى انتفاضة ثالثة، أمرًا مستحيلًا وذلك بفعل هويّة عدد من الورثة المحتملين للرئيس الفلسطينيّ محمود عباس، وكونهم من قيادات الفصائل المسلّحة سابقًا وفي مقدمتهم مروان البرغوثيّ أو من الجيل الشابّ الذي شكَّل انهيار أحلام أوسلو صفعة مدوّية لأحلامه بحياة كريمة ومستقرّة ومستقلّة بعيدًا عن الاحتلال ومنغّصاته، وبالتالي لا يُلزمه "التعاون الأمنيّ مع إسرائيل" الذي تصرّ السلطة على التمسّك به لأنّها تخشى التبعات الأمنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وقفه في أحسن الأحوال والتعاون مع الفصائل المسلّحة في أسوأ الأحوال، فهذا التنسيق هو حبل الصرَّة الذي يضمن بقاءها من جهة ويضمن متّسعًا من المساحة للمسلّحين الفلسطينيّين وإسرائيل في آنٍ واحدٍ معًا، أي أنّه يضمن تكرار الاقتحامات والمواجهات وبقاء السلطة دون سلطة. أمّا الخيار الثالث فهو وريث يجيء بتوافق فلسطينيّ عربيّ خليجيّ أميركيّ وقبول إسرائيليّ، يعتبر أنّ حل الدولتين قد انتهى أجله وأنّه لم يعد ممكنًا.
وفي إسرائيل كما في إسرائيل، تختلط الاعتبارات السياسيّة والعسكريّة، وتؤكّد التجارب والمعطيات التاريخيّة واقع وجود علاقة بين أغلب العمليّات العسكريّة في العقود الأربعة الأخيرة، بدءًا من قصف المفاعل النوويّ العراقيّ في السابع من حزيران عام 1981عشيّة الانتخابات البرلمانيّة الإسرائيليّة مرورًا بالعمليّات العسكريّة ضدّ قطاع غزّة وغيرها، وبين السياسة الإسرائيليّة الداخليّة، أي أنّه ليس من الغريب أو المستهجن أن يحوّل الزعيم السياسيّ في إسرائيل الجيش الإسرائيليّ وجنوده إلى أوراق في لعبة انتخابيّة وحزبيّة وسياسيّة داخليّة، وهو ما يجب الحديث عن وجوده وبشكل يصل التأكيد، في هذه الحالة، فنتنياهو الذي ينجرّ سياسيًّا وتشريعيًّا خلف اليمين الاستيطانيّ المتطرّف عامّة وخلف وزير الأمن القومي إتمار بن غفير خاصّة، وهو الابن المشاكس في الائتلاف الحاليّ، الذي لم ينفكّ يهدّد بإسقاط الحكومة بل إنّه تغيّب عن جلسات البرلمان عدّة مرّات، وبالتالي لا مناصّ أمام نتنياهو الذي يريد تحسين وضعه في استطلاعات الرأي العامّ، من تحسين علاقته بوزير الأمن القوميّ إتمار بن غفير وإزالة تهديد سقوط الحكومة، وتوحيد مصوّتي اليمين والمستوطنين حول الوضع الأمنيّ وليس هذا الأهمّ، بل إنّ نتنياهو وبعد أن اضطرّته الاحتجاجات الجماهيريّة المتواصلة منذ أكثر من ستة أشهر، على التراجع حاليًّا عن انقلابه القضائيّ الكبير الذي أراد منه السيطرة على الجهاز القضائيّ والبرلمان ومنع أيّة محاولة للخروج عن طوعه وسيطرته كحاكم أوحد ووحيد، هو الآمر الناهي والمسيطر، يريد صرف الانتباه عن خطّة الانقلاب القضائيّ، خاصّة بعد أن أبلغ شركاءه في الائتلاف أنّه لن يسارع إلى تشريعات قاسية بل أقلّ دامغة، خاصّة في "فقرة المعقوليّة" ، وهي التي كان الطيارون المتطوّعون في الخدمة العسكريّة قد أعلنوا رسميًّا أنّهم سيوقفون تطوّعهم، ما يعني المسّ بالعمل العسكريّ اليوميّ لسلاح الجوّ الإسرائيليّ، وصرف الانتباه عن تشريعات أخرى تشرعن الفساد والتبرّعات للسياسيّين وتسمح لهم بتعيين من أرادوا من المقرّبين والموالين دون أيّ اعتبار لمقوّمات تتعلّق بالكفاءة والخبرة والتجربة، بل تعتمد الولاء السياسيّ والحزبيّ والشخصيّ والانتماء الطائفيّ معيارًا وحيدًا كما يحدث في الوزارات المختلفة والمؤسّسات الحكوميّة تحت سيطرة وزراء من اليهود الشرقيّين بها إضافة إلى تحويل الانتباه عن ارتفاع تكاليف المعيشة والأسعار في إسرائيل وارتفاع نسبة التضخّم الماليّ وسوء الأوضاع الاقتصاديّة العامّة، خاصّة على ضوء التقارير الاقتصاديّة التي نشرت مطلع هذا الأسبوع والتي أشارت إلى انخفاض نسبة وقيمة الاستثمارات العالميّة في قطاع الهايتك- التقنيّات المتقدّمة- الإسرائيليّ بنسبة 68% في نصف العام الأخير بفعل عدم الاستقرار الذي تخلّفه محاولات الانقلاب القضائيّ من قبل الحكومة، مقابل ارتفاعها في باقي دول العالم، زد على ذلك ما تشهده إسرائيل من انقسام داخليّ يصل حدّ التهديد بخطر حرب أهليّة أو تمرّد وعصيان مدنيّ.
ليس ذلك فحسب، فتوقيت العمليّة العسكريّة يخدم نتنياهو خاصّة ودولة إسرائيل عامّة، فهو يسلّط الضوء الإعلاميّ العالميّ والإقليميّ ولو لفترة قصيرة على منطقة ما كانت منطلقًا لعمليّات عسكريّة ضدّ أهداف إسرائيليّة، وتبعد الأنظار عن انفلات المستوطنين وإحراقهم المنازل الفلسطينيّة والممتلكات واعتداءاتهم حتّى على قادة الجيش الإسرائيليّ وأفراد الشرطة، في حالة تعكس عدّة أمور منها أنّ القانون لا يسري على المستوطنين بفضل مشاركة قادتهم في الحكومة الحاليّة ما يجعلهم فوق المساءلة وفوق المحاسبة وما يشرعن اعتداءاتهم، التي قادها أولئك الذين يحلو للإعلام الإسرائيليّ وصفهم بشبيبة التلال واعتبارهم قلّة قليلة لا تمثّل أغلبية المستوطنين، رغم سجلّهم الخطير في اعتداءات تخلّلها حرق ممتلكات ومنازل أسفر أحدها عن مصرع ثلاثة من أفراد عائلة دوابشة من قرية "دوما"، وهم الأب سعد والأم ريهام والطفل علي بعد حرق منزلهم وهم نيام، واختطاف وقتل الفتى محمد أبو خضير، وهي حلقات من مسلسل اعتداءات تكرّرت مؤخّرًا خاصّة في الأسابيع الأخيرة بمشاركة آلاف من المستوطنين مما دفع محلّيًّا، بمئات المحاضرين من مؤسّسات أكاديميّة محسوبة على اليمين والمتديّنين منها جامعة بار ايلان، بإصدار وتوقيع عريضة تؤكّد أنّ الاعتداء على المدنيّين الذين يتواجدون في منازلهم دون ذنب وإحراق منازلهم وسيّاراتهم وممتلكاتهم وتهديد حياتهم هو أمر يناقض تعاليم الديانة اليهوديّة ويخالف القانون، كما أنّه يسحب بساط الشرعيّة الدوليّة من تحت أقدام إسرائيل، ويجعلها في صفّ واحدٍ مع شعوب مارست نفس التصرّفات وأحرقت أحياء كاملة أقامت فيها أقلّيات عبر التاريخ، ناهيك عن الشجب الدوليّ والعربيّ والمحلّيّ لهذه الاعتداءات، وللدعوات إلى إقامة بؤر استيطانيّة عشوائيّة كما يريد الوزيران بتسلئيل سموتريتش وإتمار بن غفير، حتى أنّ مسؤولين أميركيّين أوضحوا لنظرائهم الإسرائيليّين أن تشجيع الوزراء لإقامة بؤر استيطانيّة عشوائيّة وما يرافقه سيلحق ضررًا بالعلاقات بين إسرائيل ودول العالم كلّها وفي مقدمتها الخليج وتحديدًا إمكانيّة تطبيع العلاقات مع السعوديّة التي يمنّي نتنياهو نفسه بالتصالح معها، إضافة الى أضراره التي سيلحقها ببرامج مستقبليّة للتعاون الإسرائيليّ– الأميركيّ والاتّفاق على ضمّ إسرائيل إلى برنامج الإعفاء من تأشيرة الدخول الأميركيّة والذي تشترطه أمريكا بالسماح للفلسطينيّين من أصول أميركية أو يحملون الجنسيّة الأميركيّة ويقيمون في الضفّة الغربيّة من السفر عبر مطار بن غوريون الدوليّ ومعاملتهم على أنّهم مواطنون أميركيّون من حيث التفتيش الأمنيّ وغيره، خاصّة وأنّه من الواضح تقاعس الجيش والشرطة عن وقف ومنع اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيّين، إضافة إلى أنّ الجهاز القضائيّ وجهاز إنفاذ القانون في إسرائيل، لا يطبق القانون مع منفّذي هذه الاعتداءات وعددها منذ بداية العام الحاليّ قرابة 600 اعتداء، والحاخامات والسياسيّين الذين يمنحونها غطاءً من الشرعيّة والتشجيع، انطلاقًا من كونهم بيضة القبّان في الائتلاف الحاليّ وأصحاب السيطرة الحقيقيّين على مصيره ومصير نتنياهو، وبالتالي يستغلون ذلك لمصلحتهم وتنفيذ أجنداتهم، حتى أصبح الممنوع مسموحًا والاعتداءات على المدنيّين جوابًا صهيونيًّا لائقًا، وحرق المنازل استعادة لقوّة الردع، واعتبار سلطات تنفيذ القانون كالشرطة والجيش والمحاكم أعداءً يجب محاربتهم وإخضاعهم.. وهكذا انقلب السحر على الساحر في ظلّ هذه الحكومة.
وإذا كان انقلاب السحر على الساحر في الضفّة الغربيّة، في ظلّ هذه الحكومة ليس كافيًا، بفعل قوّة الأحزاب المتديّنة والاستيطانيّة المتطرّفة، وكونها تلك التي تملك مفاتيح بقاء نتنياهو رئيسًا للحكومة واستمرار الانقلاب القضائيّ، جاءت تطوّرات الأيّام الأخيرة ومشاريع القوانين التي تحاول هذه الاحزاب تسريعها ومنحها تسهيلات غير متّبعة من حيث تسلسل عمليّة التشريع، لتؤكّد أنّ انقلاب السحر على الساحر لن يكون حصرًا على المستوطنين والضفّة الغربيّة، فها هي أحزاب اليمين المتطرّف وخاصّة حزب الوزير إتمار بن غفير، تهاجم قيام وزير الأمن بفرض الاعتقال الإداريّ على المستوطنين حارقي سيّارات الفلسطينيّين ومنازلهم والذين أطلقوا النار على المدنيّين الآمنين وروّعوهم، وتدعوه إلى إلغاء هذه الأوامر واعتبار ما قاموا به احتجاجًا يمكن تبريره وتفهّمه، ها هي تطالب عبر تشريعات يدعمها الائتلاف إلى منع التظاهر ضدّ الانقلاب الدستوريّ سواء كان في الشوارع والساحات العامّة أو أمام منازل الوزراء وأعضاء البرلمان، وها هم يطالبون بمنح الوزير بن غفير إمكانيّة اعتقال أي مواطن إداريًّا لكونه يشكّل خطرًا جنائيًّا، أو حتّى منعه من مغادرة البلاد لمدّة تبلغ نصف عام، في انقلاب للموازين تحوّل المستوطنين الذين يقيمون في الأراضي المحتلّة وفوق أراضٍ استولوا عليها خلافًا للقانون الدوليّ، إلى مجموعة فوق القانون يحقّ لها أن تفعل ما تشاء، فهي تحافظ على أرض إسرائيل وتمنع سيطرة الغرباء عليها وتنفذ أوامر التوراة، ولذلك لا يجوز معاقبتها تبعًا لذلك، أمّا المواطنون العرب في إسرائيل فيجب سنّ القوانين التي تجعل أوامر اعتقالهم إداريًّا في أيدي وزير يعتبرهم أعداء له بمجرد كونهم عربًا، ويطالبهم بالولاء، كما أنّه يريد جعلها خطوة يتمّ اتّخاذها من قبل سياسيّ له أجنداته دون أي رقابة قضائيّة أو قانونيّة، ودون أن تكون للمحاكم حرّيّة أو حقّ التدخّل، فهذا قرار وزاريّ لا يحقّ لها بحكم "فقرة المعقوليّة " التدخّل فيه.
الحملة العسكريّة الحاليّة والتي كان من الواضح من يومها الأوّل أنّها "تحريكيّة"، أيّ أنّها جاءت للضغط على بعض الدول العربيّة للقيام بأعمال الوساطة، والتي تزامنت مع استمرار النشاطات المناهضة للانقلاب القضائيّ الدستوريّ، جاءت لصرف النظر ليس فقط عن الانقلاب القضائيّ في إسرائيل، الذي تبدو تفاصيله واضحة للعلن تتصدّر العناوين الرئيسيّة في التلفزة ووسائل الإعلام، بل عن " الانقلاب القضائيّ" الحاصل في الضفّة الغربيّة والمستوطنات، والذي يتمّ تنفيذه عبر الوزير بتسلئيل سموتريتش، وزير الماليّة والوزير في وزارة الأمن، وذلك عبر الاستيلاء على أراضٍ فلسطينيّة ومصادرتها لإقامة بؤر استيطانيّة واستخدام وسيلة كانت إسرائيل قد استخدمتها في منطقة النقب، وهي إقامة "مزارع الأفراد" ( رئيس الوزراء أريئيل شارون وأبناؤه حصلوا على آلاف الدونمات في مزرعة هشكميم حيث يقيمون اليوم ومثلهم العشرات) حيث يتمّ منح مستوطن واحد أو عائلة مئات الدونمات من الأراضي وبعضها بملكيّة فلسطينيّة خاصّة، ليزرعها أو يستخدمها لرعي المواشي، ما سوف يسهِّل عمليّة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينيّة الخاصّة وإقامة مستوطنات غير شرعيّة يتمّ التستّر عليها تحت مسمّيات مختلفة، بهدف إجهاض ما تبقى من احتمالات، حتى لو كانت نظريّة، لقيام كيان فلسطينيّ مستقلّ، وذلك عبر تمكين الوزير بتسلئيل سموتريتش اليمينيّ المتديّن من السيطرة على مؤسّسات الإدارة المدنيّة وخاصّة تلك المعنيّة بالتنظيم والتخطيط والبناء وتسهيل بل تسريع عمليّات التخطيط التي تسبق بناء آلاف الوحدات السكنيّة في المستوطنات المختلفة، مقابل تسريع عمليّات هدم المنازل الفلسطينيّة وتجريف الأراضي بحجج تتعلّق بالبناء غير المرخّص وعدم استيفاء الشروط القانونيّة، وشرعنة عمليّات اقتحام الأراضي الفلسطينيّة وخلق الوقائع على أرض الواقع، وهو ما يفعله الوزير منذ تولّيه مهامّ منصبه، وليس فقط في الضفّة الغربيّة- وهذا أيضًا ضمن انقلاب السحر على الساحر وتأكيد على مدى تأثير الأحزاب اليمينيّة والمتديّنة على الحكومة الحاليّة وسياساتها- بل داخل إسرائيل وهذا ما يؤكّده قرار الحكومة من يوم الأحد هذا الأسبوع الذي أقرّت عبره إقامة بلدة يهوديّة جديدة تمّت تسميتها "رمات أربيل" على أراضٍ خاصّة تمّ الاستيلاء عليها من قبل "شبيبة التلال" في أكتوبر 2022 قرب قرية عيلبون العربيّة في منطقة الجليل، ليتحوّل هذا الاستيلاء خلال ثمانية أشهر إلى بلدة لليهود المتديّنين وصفها الوزير سموترتيش بأنّها تنفيذ وتطبيق للحلم الصهيونيّ وتأكيد على أنّ اليهود هم أصحاب الأرض والدار، بينما يتزامن ذلك مع تشديد قبضة قانون "كمينيتس" الجائر الذي يهدّد آلاف المنازل في المجتمع العربيّ بقراه المختلفة وانتماءاته المتنوّعة، في الجليل والكرمل والجولان والنقب، بحجّة البناء غير المرخّص وغير القانونيّ، ومقارنة بالحقيقة الساطعة ومفادها أنّ حكومات إسرائيل المتعاقبة لم تقرّر منذ عام 1948 وحتى اليوم، إقامة أي بلدة عربيّة جديدة رغم تضاعف عدد المواطنين العرب أكثر من خمس مرّات، إضافة إلى امتناعها عن توسيع مسطّحات البلدات العربيّة، ما يخلق اكتظاظًا سكانيًّا واجتماعيًّا يرافقه فقر سببه انعدام أماكن العمل والمناطق الصناعيّة وسلطات محلّيّة فقيرة بسبب اقتصار مدخولها من الضرائب على السكنات الخاصّة وليس المنشآت الصناعيّة، ليصبح الاستيطان هو العاديّ والمقبول وبناء المنازل لأصحاب الأرض ومواطنيها مخالفًا للقيم الصهيونيّة، وليصبح تشريع القوانين التي تفرض القيود على حرّيّة الحركة والتعبير والتظاهر هو السائد والمقبول، ولتصبح إقامة بلدة يهوديّة داخل إسرائيل أمرًا سهل المنال وسريع التحقيق يبدأ كما في الضفّة الغربيّة باستيلاء على أراضٍ خاّصة عربيّة ومن ثمّ قرار وزير يمينيّ وحكومة يمينيّة بشرعنة الاستيلاء واعتباره خطوة مقدسة تستحق التفاخر، مقابل عدم بناء بلدات عربيّة وتوسيع القائمة منها ومقابل سعي وزير القضاء إلى تعيين قضاة يرفضون بقراراتهم السماح للعرب بشراء منازل في بلدات يهوديّة علمًا أنّ الواقع اليوم، يؤكّد أنّه يحظر على المواطن العربيّ أو "غير اليهوديّ" وفق التعريف الرسميّ، الإقامة في 942 بلدة يهوديّة بحكم قانون " لجان القبول" الذي يمنح السلطة المحلّيّة في هذه البلدة حرّيّة رفض بيع منزل لمواطن غير يهوديّ.
ستّة أشهر هو عمر هذه الحكومة، لكنّها استطاعت بفضل تركيبتها الخطيرة، وأجندتها الدينيّة اليمينيّة المتطرّفة والمندفعة التي لا تعترف بالقوانين أو التشريعات، قلب الأمور رأسًا على عقب، فنقلت ما يتمّ تطبيقه في الضفّة الغربيّة إلى داخل إسرائيل، وخاصّة عنف الشرطة ومنع الاحتجاجات ومصادرة الأراضي والتهديد باعتقالات إداريّة وتقييد الحرّيّة والحركة والاستفزاز في التفتيش عند مغادرة البلاد للمواطنين العرب مقابل إطلاق العنان للمستوطنين في الضفّة الغربيّة، وإقامة بلدات لليهود المتديّنين المتطّرفين خلال أشهر مقابل استمرار سيل أوامر الهدم في القرى العربيّة الدرزيّة والمجتمع العربيّ عامّة والجولان والنقب، وإضعاف الشرطة وتفريغها من قادتها وبعضهم مهنيّين واستبدالهم بقادة يضربون بسيف السلطان إتمار بن غفير داخل إسرائيل والسلطان سموتريتش في الضفّة الغربيّة، والواضح أنّ القادم أسوأ، فقوّة هذه الحكومة في ضعفها وتحديدًا إدراك كافّة أطرافها أنّ تفكيكها هو نهاية حكومة من الأحلام.
وختامًا: ما ذكرته سابقًا حول تصرّفات الحكومة ورغبتها في بسط سيطرة يهوديّة متطرّفة دينيّة يمينيّة لا تعترف بغير اليهود مواطنين حتّى من الدرجة الثالثة والرابعة، كان واضحًا للغاية قبل إقامتها وتشكيلها، بل قبل الانتخابات الأخيرة وحتّى قبل سقوط الحكومة السابقة، حكومة لبيد- بينيت، والتي رغم مساوئها حملت بوادر تغيير وتوجّهات إيجابيّة تجاه المواطنين العرب داخل إسرائيل، وربّما الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة، ورغم ذلك أصرّ البعض ولحسابات "الأنا" الضيّقة والحزبيّة وحتّى الشخصيّة نكاية بالقائمة العربيّة الموحّدة والدكتور منصور عباس، على إسقاط الحكومة السابقة رغم معرفتهم بالنتائج المأساويّة لخطواتهم هذه، وأصرّ آخرون على مضاعفة الضرر خلال الانتخابات عبر الإصرار على خوض الانتخابات بقائمة منفردة (التجمّع الديمقراطيّ) رغم الاحتمالات الكبيرة بفقدان أكثر من مئة ألف صوت عربيّ، وهو ما حصل في النهاية تمامًا كرفض أحزاب محسوبة على اليسار ومنها "العمل" الاتّحاد مع حزب " ميرتس"، ودون أن يملك أي منهم الشجاعة الأخلاقيّة والحزبيّة والسياسيّة والوطنيّة، للاعتراف بالخطأ الذي ارتكبه أو خطيئته، فهذه الأحزاب وخاصّة العربيّة بقادتها وقياداتها لا تعترف بأخطائها، بل ربّما تعتبر نفسها منزَّهة عنها، وترفض التراجع حتى لو اتّضح لها أنّ النتيجة كارثيّة، وأنّ نصف عام من ولايتها كانت كافية لحرق الأخضر واليابس وقتل كافة الأحلام بحلّ سياسيّ للفلسطينيّين ومساواة أو بداية المساواة للعرب في إسرائيل، ولوضع الأُسس لتحويل إسرائيل إلى دكتاتوريّة ومواطنيها العرب إلى مواطنين من الدرجة الثالثة، يستجدون الحقوق وربّما الحياة على ضوء حكومة تتفرّج على انفلات جنائيّ ينفّذه أفراد وعصابات تسفك الدماء، وتخلق حالة من الخوف على الحياة وسط عجز من الحكومة والشرطة وصمت من القيادة أو خطوات احتجاجيّة ممجوجة وخجولة وفق مصطلح "وكفى الله المؤمنين شرّ القتال"، وهي نفس القيادة التي دعت لإسقاط حكومة بينيت لبيد وأدّت إلى سطوع نجم حكومة يمينيّة لن تُبقي ولن تَذر، والأنكى من ذلك والأخطر هو أنّ هذه القيادات لم تضع ولم تطرح أيّة خطّة لمواجهة هذه الحكومة، وهو تمامًا نفس تصرّف القيادة الفلسطينيّة مقابل أخطار هذه الحكومة... فهل هناك من يعتبر؟


















