سوريا أحمد الشرع المذابح والقتل وفقًا للهويّة أخطر عليه من البزّة الدبلوماسيّة

لم تتّضح بعد نهايات الأحداث الدمويّة التي شهدها جبل الدروز، والتي تخلّلتها أعمال وحشيّة ومذابح، تمامًا كما لم تتّضح مبرّرات بداياتها. ولم تكن أصلًا مبرّرات لذلك، وإن كانت الأهداف والمنطلقات واضحة وجليّة للعيان تشكّل عودة على تجارب سابقة على مرّ التاريخ السوريّ،

26.07.2025 מאת: المحامي زكي كمال
سوريا أحمد الشرع المذابح والقتل وفقًا للهويّة أخطر عليه من البزّة الدبلوماسيّة

 

ملخّصها محاولات امتدّت من  بدايات القرن العشرين، حين طالب الدروز باستقلال إداريّ يحفظ خصوصيّتهم الدينيّة والاجتماعيّة، لكن ردّ السلطات المتكرّر كان محاولات مسلّحة وعنوة لفرض سلطة ما تلغي الخصوصيّة الاجتماعيّة والدينيّة للطائفة الدرزيّة في سوريا، وتعمل على إخضاعها بالقوة العسكريّة لإمرة نظام مركزيّ عمل على خنقها ،

بدأت مطلع القرن الماضي وبرزت بعد الاستقلال في أربعينيّات القرن الماضي، مع رفض الرئيس السوريّ شكري القوتلي الاعتراف بسلطة عائلة الأطرش ورفض الاعتراف بنتائج الانتخابات في جبل الدروز،

واعتبر الدروز أقليّة خطيرة، ورفض تعيين وزراء منهم، وحرمهم عام 1947 حتى من التمثيل النيابيّ، بدل تكريمهم على دورهم في الثورة السوريّة الكبرى،   وهم الذين  قدّموا  أكثر من نصف شهدائها، مع الإشارة إلى  أن الفرنسييّن قد أعلنوا عام 1921، ووفق اتفاقيّة" أبو فخر دوكاي" إنشاء دولة جبل الدروز ذات الحكم الذاتيّ، والاستقلال الإداريّ الموسّع لجبل العرب، وإعفاء الدروز من الخدمة العسكريّة الإلزاميّة، ورفض ضمّهم إلى الاتحاد السوريّ المحتمل بشكل قسريّ، وعدم التدخّل السلطة الحاكمة في شؤونهم الدينيّة،

أو عزل رؤساء الدين، وهو حالة تشبه الى حدٍّ كبير الحال في إسرائيل خاصّة في شؤون المحاكم الدينيّة وإدارة المقدّسات والأوقاف وغيرها من الأمور الداخلية،  في تعبير عن طبيعة وشخصيّة الطائفة الدرزيّة  في بلاد الشام. وتحاول رسم معالم الدولة السوريّة المستقبليّة والتي تقبل التنوّع ولا تلغي الخصوصيّات، وهو ما دفع إلى انخراط الدروز في الثورة السوريّة الكبرى،

التي انطلقت من جبل العرب على خلفيّة إلغاء الفرنسيّين استقلال الجبل الإداريّ واعتقال الزعماء الدروز فيه. وسرعان ما اتّسعت الثورة من المحليّة إلى الوطنيّة الشاملة الداعية والساعية إلى وحدة سوريا العلمانيّة واحترام الحريّة والكرامة. وهي ثورة وإن كانت فرنسا أرادت قمعها بالنار والحديد إلا أنها  رسمت الرؤية الواضحة، لدولة سوريا وقوامها الشراكة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات مع نظام ديمقراطيّ حقيقيّ، واستمر ذلك بعد الشيشكلي ومن منطلقات طائفيّة في عهد عائلة الأسد ، وبعد نجاح الانقلاب العسكريّ الذي قاده صلاح جديد، وحافظ الأسد، وسليم حاطوم على حكومة الرئيس أمين الحافظ في عام 1966، بادر الضابطان العلويّان، جديد والأسد، إلى إقصاء جميع الضباط الدروز من مواقع النفوذ وإعدام الرائد سليم حاطوم، وسُجن اللواء فهد الشاعر، وصولًا إلى ترأس الأسد للدولة  وعمله على إضعاف الزعامات الدرزيّة، واستبدالها بقيادات موالية للنظام، لا قاعدة شعبيّة لها أصيلة، بل لمجرد كونها مرتبطة مصلحيًّا  بحزب البعث أو السلطة المركزيّة التي ترفض التعدديّة والحفاظ على الخصوصيّات واعتبارها ثراءً  وتنوّعًا مباركًا. 

 

وبالتالي يمكن القول وإزاء ما تكشف من محاولات لقوات الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني، لتكرار تجارب الماضي وإلغاء الخصوصيّات الاجتماعيّة والدينيّة للطائفة الدرزيّة في جبل العرب، يمكن القول، أن ما أشبه اليوم بالأمس القريب أو البعيد، وأن القصف والاعتداءات التي أوقعت الموت والدمار والخراب، لم تكن مجرّد محاولة للسيطرة على مواقع، أو حتى إخضاع مجموعة أصيلة وأصليّة في سوريا، ولم تكن عقابًا جماعيًّا منفلتًا لجبل الدروز، بل رسالة  أرادت قيادة أحمد الشرع الجهاديّة الأصوليّة المتزمّتة نقلها وإيصالها إلى بقية المناطق وإلى بقيّة الأقليّات، وكانت معالمها برزت في دمشق وغيرها عبر اعتداءات على المسيحيّين وتفجير كنيسة مار إلياس في الثاني والعشرين من حزيران 2025، وقتل 25 من المصّلين فيها خلال القداس الإلهيّ وإصابة نحو ستين بجروح، وقبلها ضد العلويّين في الساحل الشماليّ عبر عمليّات قتل جماعيّ ضد العلويّين نفّذها مسلّحون موالون للحكومة الانتقاليّة السوريّة والجيش الوطنيّ السوري وسرايا أنصار السنّة تركّزت خاصة في المنطقة الساحليّة أوائل آذار 2025 (، اسفرت عن مقتل أكثر من 1300 من العلويّين وإحراق ممتلكاتهم واستباحة أمنهم، تعبيرًا عن توجّه واضح للحكومة السوريّة الحاليّة والتي رفع مؤيّدوها ومنذ اليوم الأول لقيامها شعار" نحن بنو أمية"، وبالتالي ما على الأقليّات إلا الاختيار فإمّا الخضوع غير المشروط، أو القمع وبالتالي ما شابه هجوم الشيشكلي عام 1954 بهجوم الجولاني عام 2025 ، مع مفارقة بسيطة وهي أن الهجوم عام 1954 على السويداء سرَّع من سقوط الشيشكلي بعد شهر من بدء الهجوم وقتله على يد درزيّ سوريّ بعد أربعين عام في منفاه بالبرازيل.

 

 

 ما حدث في سوريا عامّة منذ كانون الأول 2024، وانهيار نظام بشار الأسد، يؤكّد حقيقة واقعة، وإن كانت مؤلمة وهي زيف الادّعاء بوجود "أمّة سوريّة واحدة" تمامًا كزيف الادّعاء بوجود " "أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة من المحيط الهادر حتى الخليج الثائر" والمنسوبة إلى ميشيل عفلق، بل تكشف الحقيقة وهي أن سوريا اليوم وكما كانت منذ تأسيسها، هي دولة من الطوائف والمجموعات والجماعات التي تضطهد الأقليّات، وتحاول إخفاء معالم هويّتهم القوميّة والدينيّة والاجتماعيّة وتكفيرهم وتخوينهم، وهو تكرار لحالات مشابهة شهدناها في العراق من حيث ملاحقة واضطهاد المسيحيّين وغيرهم، وكذلك في مصر إبّان عهد الإخوان المسلمين وملاحقة الأقباط وكذلك في مناطق معيّنة من مناطق السلطة الفلسطينيّة التي يتناقص ويتضاءل عدد المسيحيّين فيها جرّاء مضايقات وتوجّهات دينيّة متزمّتة، لتبقى المملكة الأردنيّة الهاشميّة، وعلى مرّ تاريخها ،صوتًا وحيدًا وبارزًا من حيث احترام الأقليّات وصيانة كرامتها وحقوقها وأمنها وأمانها، بمعنى أن الدولة وتحديدًا الأغلبيّة فيها وهي مسلمة في كلّ الدول والمواقع التي ذكرت سابقًا،

 ترى تناقضًا واضحًا بين الانتماء الوطنيّ للدولة ،السوريّة في حالتنا هذه، وبين مطالبة وحقّ الأقليّات بالمحافظة على خصوصيّاتهم وربما استقلالهم الإداريّ،  الذي يصون خصوصيّاتهم ضمن الدولة. وهو مطلب اعتبرته القيادة الدرزيّة وفي مقدّمتها سلطان باشا الأطرش، تعبيرًا عن الشخصيّة العربيّة الأصيلة التي تضع الكرامة والحريّة في أعلى سلّم القيم، وتأكيدًا على انتماء وطنيّ اختياريّ وليس من منطلق الإجبار ومنطق القوة،  كما حدث فور سقوط نظام الأسد، في أواخر عام 2024، إذ دخلت فصائل مسلّحة من السويداء إلى دمشق قبل سائر الفصائل، تأكيدًا  لدور دروز سوريا في تصدّر مشهد التحرّر الوطنيّ. لا سيّما وأن الدروز في سوريا وخاصّة منطقة السويداء،

وبخلاف معظم إن لم يكن كل الأقليّات في سوريا، اتخذوا مع اندلاع الحرب الأهليّة عام 2011، موقفًا حياديًّا ورفضوا الانخراط في القتال الداخليّ، كما رفضوا أوامر النظام بالتجنيد. وفي أواخر عام 2013، تأسّست حركة “رجال الكرامة” بقيادة الشيخ وحيد البلعوس، بقصد حماية المنطقة ومقاومة الفصائل المسلّحة التي اقتربت من الجبل حتى تم عام 2015 بتفجير موكبه، في حدث تم اعتباره رسالة ترهيب، جاءت نتائجها معاكسة تمامًا لرغبة النظام، حيث تراجع نفوذه في السويداء بشكل كبير. ومنذ عام 2018، بدأت المنطقة تشهد تجربة قريبة من الحكم الذاتيّ غير المعلن، فضلًا عن أن الدروز في السويداء كانوا في حالة ثورة سلميّة مفتوحة ضد نظام الأسد منذ عام 2023،

شملت احتجاجات بسبب الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والأمنيّ  وصولًا إلى إعلان الشيخ حكمت الهجري، تبنّي مطالب المحتجّين السياسيّة والاقتصاديّة ما أضفى عليها بعدًا دينيًّا وأخلاقيًّا وشرعيّة، وبالتالي فإن ما حدث  مؤخّرًا هو استمرار لما سبق ولم يكن كما تحاول السطات الجهاديّة في سوريا تسويقه،

خلاف بين جماعات ضمن الشعب السوريّ، بل إن كافّة الأدلّة تشير إلى أنه عمليّة مخطّط لها سلفًا تمّت بالتعاون والتنسيق التامّين بين نظام الشرع وأجهزة أمنه وبين  الجماعات المسلّحة وبين أفرادها من هم ليسوا سورييّن، ودول أخرى تساند الشرع ومن هنا تحميل الرئيس السوريّ أحمد الشرع المسؤوليّة التامّة عمّا حدث، فهو الذي وصل السلطة " على متن دبابات أوروبيّة"،  وحظي بدعم وشرعنة أوروبا والولايات المتحدة التي رفعت عنه العقوبات والذي يجب محاكمته لدى محكمة الجنايات الدوليّة في لاهي على ضوء المذابح والمجازر، اتضح أنه لم يتغيّر رغم ارتدائه الزيّ الدبلوماسيّ الرسميّ. 


ومن هنا أجد صعوبة في فهم توجّهه، أي سماحه لجماعات تدين له بالولاء وتأتمر بأمره ، بتنفيذ المذبحة التي شهدها جبل الدروز، خاصّة على خلفية تقاربه مع دونالد ترامب، وعبره مع بنيامين نتنياهو وإسرائيل، التي اتهمها الشرع بإثارة القلاقل في سوريا بعد قصفها مواقع للمسلحين في السويداء ومقرّات قياديّة تابعة لحكومته في دمشق، ما يعني أن الشرع الذي استطاعت إسرائيل ومنذ توليه السلطة إبادة وتدمير الجزء الأكبر من قوّاته المسلّحة ومطالبتها لدمشق بجعل جنوبي سوريا وصولًا إلى السويداء منطقة منزوعة السلاح، يدرك اليوم أنه لا يمكنه مواجهة إسرائيل ولا يمكنه وقف الجماعات المتطرّفة عن حدّها، لأنه جزء منها وبالتالي يجد نفسه مضطرًّا للمراوحة والتأرجح بين الجماعات المختلفة في سوريا في محاولة ربما ستنتهي بالفشل، للحفاظ على نظام حكمه خاصّة على ضوء التهديدات الإسرائيليّة بالمسّ به شخصيًّا ، تهديدات لا تعني حتى هذه الحظة قطع علاقات التنسيق معه،

بل مواصلتها  رغم إعلان وزير الأمن الإسرائيليّ كاتس إنه لا يثق بالرئيس السوري الذي يستند إلى قوة جهاديّة أطلقها ضد الأقليّات، وقد يطلقها ضد البلدات الإسرائيليّة بعد ذلك، لكن  مصادر إسرائيليّة أكدت أن إسرائيل لن توقف  الاتصالات والمفاوضات معه ، خاصّة وأنها ترى فيه الشريك المحتمل والممكن، وليس عن طيب خاطره بل مجبرًا، لتفاهمات أمنيّة وسياسيّة، ذلك أن التدخّل  الإسرائيليّ الأخير جاء بعد أيّام قليلة من أنباء حول لقاءات ثنائيّة في أذربيجان، لبحث إمكانيّة  التوصّل الى صفقة أمنيّة أوليّة بين أحمد الشرع، أي السلطة الجديدة في دمشق وبين إسرائيل  تمهيدًا لتطبيع محتمل.

 

 

 ما حدث في السويداء، يعيد إلى الأذهان من جديد، قضيّة الدولة الدرزيّة المستقلّة. وهي قضيّة كانت محلّ جدل ونقاش منذ اتفاقيّات سايكس بيكو، أيّدتها قيادات أوروبيّة ويهوديّة قبل قيام دولة إسرائيل وبعدها ومنهم الوزير المعروف يغئال ألون الذي   ذكرها بعد حرب الأيام الستة في حزيران 1967 واحتلال هضبة الجولان وسيناء والضفة الغربيّة، ضمن مشروع قديم لتقسيم سوريا إلى كيانات منفصلة: دولة علويّة في الشمال الغربيّ، دولة كرديّة في الشمال الشرقيّ، دولة درزيّة في الجنوب، وأخرى مسيحيّة في لبنان، بحيث تبقى الدولة المركزيّة – المحاصَرة جغرافيًّا – كيانًا إثنيًّا سنيًّا، لا يحمل مقوّمات الدولة الوطنيّة الجامعة.

 

 

ورغم أن المخطط كان يشمل إنشاء كيانات عدّة، فقد اشتهر خطأً باسم "مشروع الدولة الدرزيّة"، ربما لأنه كان الحلقة الأولى المقرّر تنفيذها،  علمًا أن ألون اعتبر إقامتها في جبل الدروز في سوريا، أي المنطقة الجنوبيّة الغربيّة لسوريا، عاملًا يضمن الفصل، أو يضع الحدّ بين إسرائيل وبين دمشق المدينة، وهو حلم لم يتحقّق بسبب مواقف القيادات الدرزيّة وفي مقدّمتهم القائد التاريخيّ وقائد الثورة السوريّة ضد الاستعمار الفرنسيّ سلطان باشا الأطرش، الذي رفض الانفصال عن سوريا ، وليس ذلك فقط، بل إن دافيد بن غوريون رئيس الحكومة الأول لدولة إسرائيل، دعم   في العام 1948، إقامة الدولة الدرزيّة في جنوب غرب سوريا ورفضت القيادة الدرزيّة ذلك، لتواجه بقمعها من نظام أديب الشيشكلي مطلع خمسينيّات القرن الماضي،

والذي مهّد لهجومه الدمويّ على جبل الدروز بحملة تحريض طائفيّة، شملت تكفير الدروز واتهامهم بالخيانة والعمالة، تارةً للهاشمييّن وتارةً أخرى لإسرائيل. وهي حالة لن تقبل الطائفة الدرزية بتكرارها بغض النظر عن منفذها، مع الإشارة الى ان إسرائيل في سنوات حكم الشيشكلي وقمعه للثورة الدرزيّة،

كانت قد شاركت في حروب ليست لها، منها دعم قائد المتمردين الأكراد في العراق الملا مصطفى البرزاني، بالمال والعتاد والخبرة العسكريّة عبر قواعدها العسكريّة التي كانت متواجدة في إيران الخاضعة لحكم الشاه محمد رضا فهلوي، صديقها الحميم، واستمرّ ذلك حتى العام 1975 والاتفاق بين إيران والعراق الذي قلّص ذلك الدعم حتى توقّف نهائيًّا بعد الثورة الخمينيّة عام 1979،

علمًا أن الرئيس العراقي صدّام حسين قمع التمرد الكردي، ليحصل الأكراد بعد تفكّك العراق على حكم ذاتيّ،  تمامًا كما تدخّلت لصالح أصدقائها من المسيحيّين المارونيين في لبنان، ضد الفلسطينيّين المدعومين من سوريا،  وشمل ذلك استضافتهم في إسرائيل وتدريب بعضهم عسكريًّا  وصولًا إلى انتخاب بشير الجميِّل رئيسًا للبنان واغتياله بعد أيامٍ من لقاءات أجراها مع مسؤولين إسرائيليّين في مدينة نهاريا شمال إسرائيل.

 

 

ويبدو أن إسرائيل تعلّمت الدرس والعبر التاريخيّة وملخّصها أنه لا يمكنها تغيير تصرّفات وتوجّهات أنظمة الحكم في الدول العربيّة والتي تتبدّل  أنظمة حكمها، وتتغيّر باستمرار دون استقرار وثبات، باستثناء المملكة الأردنيّة الهاشميّة مرّة أخرى والتي تشكل نموذجًا في الاستقرار الداخليّ  والثبات بفعل قيادات حكيمة وواعية تقبل التعدديّة وتعتبرها كلها انتماءات تصبّ في مصلحة الانتماء الأوّل للدولة. كما يبدو أن إسرائيل قرّرت أنها لا تريد أن تتحمّل نفقات وتكاليف دعم حلفاء في الدول العربيّة لفترات طويلة خاصّة من الأقليّات الدينيّة والعرقيّة، تمامًا كما تعلّمت الأقليّات المذكورة العبرة التاريخيّة ومفادها أنه لا يمكنها الاعتماد كليًّا على إسرائيل أو الثقة الكاملة بها،

خاصّة وأن الدول العربيّة كلها وسوريا ولبنان والعراق( وكلها دول تمّ رسم حدودها من قبل بريطانيا وفرنسا) تحديدًا تتكوّن من أقليّات وجماعات تسود بينها علاقات التوتّر والخصومة التي تصل أحيانًا  حدّ المواجهة والاقتتال الداخليّ بما يؤثّر على اللحمة الداخليّة والحصانة المجتمعيّة، ويمسّ بالاستقرار الاقتصاديّ والسياسيّ وسلطة الحكم التي تكون عادة رهينة للأغلبيّة تقمع الأقليّات  كما في سوريا الأسد العلويّة  وسوريا الجولاني السنيّة اليوم وكلتاهما تعانيان، شئنا أم أبينا، حربًا أهليّة طائفيّة،

أو أن تكون رهينة لتوزيعات طائفيّة تؤدي إلى شلّ نظام الحكم فيها كما في لبنان والذي عاش حربًا أهليّة دامية بدأت في العام 1975 وانتهت عام 1982، جعلته عاجزًا عن تأدية مهامه كدولة، بل أدت إلى انهياره السياسيّ والاقتصاديّ خاصّة مع ازدياد تدخّل ونفوذ قوىً خارجيّة وفي مقدّمتها إيران عبر حركة "حزب الله"  التي قادتها إلى مواجهات متكرّرة مع إسرائيل، ألحقت باقتصادها واستقرارها أضرارًا هائلة،

وحوّلتها إلى بلد تنعدم فيه مقوّمات الحياة، وذلك كله لسبب واحد ورئيسيّ، وهو أن كل فئة داخل هذه البلدان تفسّر التطوّرات والوقائع ليس وفق المصلحة الشاملة والرؤية الوطنيّة العامّة والجامعة ، بل  وفق أهوائها ومصالحها ومنطلقاتها الدينيّة والطائفيّة والسياسيّة فتفهمها وفق ذلك، وبما يخدم موقفها ورؤيتها للأمور،

ما يذكّر بقصّة المكفوفين الأربعة الذين اصطدموا بفيل، لمس أحدهم ساقه فاعتبرها جذع شجرة، ولمس الثاني أذنه ففسرها على أنها غصن واسع وكبير، ولمس الثالث ذيله ففسره على أنه حبل أما الرابع فلمس خرطومه مفسّرًا إياه على أنه أفعى، في دليل على ما يحدث عند محاولة تحليل صورة وحالة ما استنادًا إلى معلومات جزئيّة تؤدّي إلى استنتاجات خاطئة وخطيرة وربما صدامات دمويّة يحاول كل طرف فيها تغليب موقفه ورأيه، وإخضاع الطرف الآخر بعيدًا عن الحوار العقلانيّ وقبول التنوّع والتعدّدية داخل المجتمع الواحد. 

 


 هذه المحاولة في سوريا، وأقصد محاولة حسم الخلافات والاختلافات بالقوة وسحق الأقليّات  وحرمانها من حقوقها ليست جديدة، بل إنها وسيلة شائعة لمزيد الأسف في الشرق وخاّصة تلك الدول التي تعيش تحت سيطرة جماعات أصوليّة تعتبر نفسها السيّد والحاكم الواحد والتي تريد بسط سيطرتها عبر سحق أقليّات دينيّة وعرقيّة وسياسيّة وغيرها، وفق معادلة الربح التامّ للأغلبيّة والخسارة الدائمة والتامّة للأقليّات،  متجاهلة إمكانيّة إيجاد معادلة سياسيّة تضمن الربح للجميع.  وهي نظريّة الخيار الثالث، التي ابتكرها ستيفن كوفي، لحلّ النزاعات بطريقة تتجاوز الطريقة التقليديّة، التي تفترض ربح طرف واحد فقط، والتنازل أو عدم الرغبة المسبقة ومع سبق الإصرار والترصّد عن محاولة الوصول إلى حلّ يخدم مصلحة جميع الأطراف المعنيّة عبر استراتيجيّات مبتكرة لحلّ النزاعات تتجاوز الخيار السابق(الربح لطرف واحد والخسارة للطرف الثاني) مستخدمة طريقة إبداعيّة ربما تؤدي في النهاية إلى نتائج أفضل من تلك التي كان يمكن أن يحقّقها أيّ من الطرفين بمفرده، والبحث عن حلول مستدامة وبالتراضي تكون أكثر وأفضل فعالية على المدى الطويل مقارنة بالحلول التقليديّة،  انطلاقًا من الإيمان التامّ بأن الحلول المرحليّة والتي يتم  التوصل إليها عنوة لن تدوم، ما يستوجب بناء الثقة والنظر بالإيجاب أو الاستعداد للنظر إلى مواقف ومنطلقات وتوجّهات الطرف الآخر وتحديدًا الأقليّة، وعدم اعتبارها خروجًا عن الانتماء والإجماع، بل رغبة صادقة بالمشاركة الفعالة والطوعيّة والكاملة والمُبدعة فيه، وفق مبدأ " الدين لله والوطن للجميع"، وليس لأحد صلاحية احتكار الوطن أو الدين. 

 


الهجوم الذي بدأ في 28 أبريل 2025 واستمر أيّامًا، استهدف مدنًا درزيّة في غوطة دمشق وجبل الدروز، وخلّف مئات الضحايا الدروز، كان التأكيد على أن  السقوط السريع لنظام بشار الأسد وسيطرة أحمد الشرع، لا تعني ولم تكن تعني أيّ تغيير على أرض الواقع،  بل استمرارًا لنهج سابق جرّبه نظام الأسد ويريد الجولاني مواصلته، رغم الخطاب الوطنيّ الذي ظهر به، فالواقع السوريّ يؤكّد أن الفصائل ذات التاريخ التكفيريّ، ما زالت تحافظ  على نهجها الإقصائيّ، خاصّة تجاه الأقليّات الدينيّة، ومن هؤلاء الدروز، الذين وجدوا أنفسهم أمام واقع أشدّ قلقًا. فبينما فرض نظام الأسد التبعيّة السياسيّة، إلّا أنّه سمح ببعض الخصوصيّة المذهبيّة والاجتماعيّة. يسعى الشرع إلى تطبيق التبعيّة السياسيّة التامّة، ومنع أيّ خصوصيّة مذهبيّة وثقافيّة واجتماعيّة، بعيدًا عن أيّ مشروع للتوافق الوطنيّ، أو العيش المشترك القائم على احترام الكرامة الإنسانيّة، 

 

 

فكانت النتيجة قتل المئات وتفكيك للنسيج الاجتماعيّ، وإعادة سوريا إلى حقب غابرة تمنى الجميع أن لا تعود، وتدخّل إسرائيليّ لمنع استمرار المذابح التي بدأتها مجموعات جهاديّة من دول عديدة خارج سوريا، وانضمت إليها لاحقًا قوّات النظام ما يؤكّد كونها تجيء بتنسيق تامّ وليس مجرّد غضّ للطرف، وتخلّل التدخّل الإسرائيليّ،  الذي جاء أيضًا نتيجة ضغوط من الطائفة الدرزيّة في إسرائيل، التي تشكّل مجتمعًا له تأثير هامّ في إسرائيل، قصف لمقرّات هيئة الأركان السوريّة ورسالة مباشرة للجولاني نفسه، الذي سارع إلى اتهام إسرائيل، التي كان فاوضها قبل أيام فقط،  بأنها  تسعى إلى تحويل سوريا إلى ساحة فوضى غير منتهية،  وتفكيك وحدة الشعب السوريّ، مع الإشارة هنا إلى أن أبناء الطائفة الدرزية في إسرائيل والذين يراقبون عن كثب وبترقّب ما يجري في السويداء ويبدون الحذر الشديد في ردود أفعالهم خاصّة على ضوء علامات الاستغراب جرّاء استمرار المفاوضات بين إسرائيل وسوريا الجولاني، رغم أن إسرائيل تواصل تعريف الجولاني على أنه جهاديّ متطرّف خلع البزة الجهاديّة، ولكنه لم يغيّر فكره، وكذلك كان بإمكان الدول الغربيّة والولايات المتحدة والدول العربيّة الداعمة للجولاني وقف المذبحة في السويداء خلال ساعات، فالشرع/ الجولاني مدين للغرب وللولايات المتحدة، ولدول مثل تركيا وقطر والسعوديّة، ولم يكن ليصل إلى السلطة دونهم، وبالتالي لا خيار له إلا طاعة أوامرهم.

 

 

خلاصة القول: ما حدث في السويداء يؤكّد حقيقة واقعة واحدة، وهي خطورة  بل فشل الرهان على  تحوّل تنظيمات دينيّة مسلّحة إلى هيئات تحكم دولة، وتقود نحو تأسيس وتنفيذ مشروع وطنيّ شامل وجامع يبني ويقدِّس دولة المواطنة، ويضمن أو يحاول أن يضمن العدالة والحرية والمساواة، وبالتالي فالوضع الحالي في سوريا بعيد كل البعد عن أيّ احتمال، ولو بسيط، لتأسيس دولة على قواسم وطنيّة، بل إنه أقرب إلى تفكيكها عبر  خطاب طائفيّ تكفيريّ وعنف ضد الأقليّات، يتجاهل وجود قبول ولو صامت لتقسيم سوريا وتقاسم غنائمها ومناطقها وفق تقسيمة طائفيّة وعرقيّة ودينيّة. 

 

 

وبذلك يمكن الجزم أن ما حدث في السويداء هو نقطة مفصليّة على سوريا أحمد الشرع أن تقرّر ما إذا كانت ستعود منها إلى تأسيس دولة واحدة، أو التوجّه إلى تنفيذ مخطّط تقسيم سوريا إلى دويلات باختلاف واحد أساسيّ، وهو أن تنفيذ هذا المشروع القديم  لن ولا يتمّ بيد خارجيّة، بل يُنفّذ عبر أدوات داخليّة تسهم في تفكيك النسيج الوطنيّ من الداخل، و قد يُفضي ذلك إلى نتائج موازية لما طمح إليه مخطط  يغئال ألون بعد العام 1967، ولكن عبر وأدوات جديدة. وعلى نفسها جنت براقش.... ويظهر بأن العرب يعيشون على أرض ولم يسلم فيها حتى الأنبياء وخاصّة بأن أرخص سلعة هي الإنسان. بنو معروف العرب سيبقون هم الوطن السوريّ وسيحرّرونه من الطغاة كما حرّروه من الاستعمار الفرنسيّ إن آجلًا أو عاجلًا.

תגובות

מומלצים