علاقة التناقض والتكامل بين الحرب والسياسة والقضاء

العلاقة بين الحرب والسياسة غريبة وملتوية وغامضة. وبذلك، كانت وما زالت مثار ومحلّ اهتمام المحلّلين والكتّاب والخبراء والمفكّرين، الذين تشدّهم إليها صفاتها ومقوّماتها، فهي ليست علاقة واضحة، كما أنها مباشرة أحيانًا، وغير مباشرة أحيانًا أخرى، يشوبها الكثير من الضبابيّة والغموض.

02.12.2023 מאת: المحامي زكي كمال
علاقة التناقض والتكامل بين الحرب والسياسة والقضاء

وفوق كلّ ذلك فهي علاقة تشتدّ تعقيدًا وغموضًا عندما تتفاوت، وعندما تتناقض أحيانًا مصالح الأطراف السياسيّة المختلفة المشاركة في اتّخاذ القرارات حول خوض الحرب، والمشاركة في اتّخاذ ووضع الاستراتيجيّات والقرارات والسياسات لكيفيّة سيرها، وبالتالي فإن ما سبق بمجمله، يفسّر الحالة التي تعيشها الحلبة السياسيّة في الدول التي تخوض الحرب، سواء كانت حربًا أولى، أو عمليّة عسكريّة تتكرّر وتتواصل،

أو موجات من التوتّر الأمنيّ ترافقها سلسلة من العمليّات العسكريّة التي تنفّذها منظّمات وجماعات مسلحة فلسطينيّة، وكم بالحري إذا كان الأمر يتعلّق بدولة  إسرائيل التي خاضت حتى اليوم أربعة حروب رسميًّا، وعدد مضاعف من الحملات العسكريّة ضد المنظّمات المسلّحة في قطاع غزة والضفة الغربيّة وحزب الله في لبنان، وبالتالي ومنذ قيامها، لم تكن العلاقة بين الحرب والسياسة تلك المعتادة أو المتّبعة،

بل كانت مليئة بالتعقيدات والنقائض، فهي وبحكم  مظاهر الاستقطاب السياسيّ التي تعيشها منذ العام 1948 وحتى اليوم، شكّلت حالة خاصّة ومختلفة لا تتّفق، في كثير من الأحيان، مع المتّبع في العلاقة التقليديّة ما بين الحرب والسياسة،  فأصوات السياسيّين والسياسة بما فيها تلك الداخليّة وحتى الحزبيّة والشخصيّة،

لا تصمت حين تنطق المدافع. وهو ما كان في حرب لبنان الثانية من العام 2006 والانتقادات شديدة اللهجة التي وجّهتها المعارضة حينها برئاسة بنيامين نتنياهو لرئيس الوزراء إيهود أولمرت ووزير أمنه عمير بيرتس خلال الحرب وبعدها، والتي وصلت حدّ المطالبة الواضحة والعلنيّة بالاستقالة حتى قبل أن تنتهي عمليّة استخلاص العبر، وأعمال لجنة التحقيق التي تشكّلت بعد الحرب، والتي عرفت باسم "لجنة فينوغراد" .

 

 

وهو ما كان في عهد حكومة التغيير برئاسة نفتالي بينيت، والتي تعرّضت لسيل جارف من الانتقادات السياسيّة، بعد كلّ عمليّة مسلّحة فلسطينيّة ضد إسرائيليّين مدنيّين كانوا أم جنودًا، ومطالبة نفتالي بينيت بالاستقالة ، عبر مظاهرات منها ما كان  بعد عمليّة الطعن التي شهدتها مدينة بئر السبع ، في الثاني والعشرين من شباط عام 2022 وغيرها ،وهو ما كان، ولا بدّ أننا جميعًا نذكر ذلك جيدًا، خلال فترة العمليّات الانتحاريّة التي شهدتها إسرائيل بعد اتفاقيّات أوسلو من العام 1993، كما أن التحرّكات السياسيّة والحزبيّة والهادفة إلى كسب التأييد،

ونزع الشرعيّة والدعم عن الطرف الآخر من الحلبة السياسيّة الإسرائيليّة، لم تتوقّف أثناء الحروب والحملات العسكريّة خاصّة في العقود الأربعة، أو الخمسة الأخيرة، بل إنها تسارعت وتعاظمت تأكيدًا على أن إسرائيل تعيش حالة انتخابات دائمة، أو أنها بكلمات أخرى، تعيش واحدة من حالتين، فإمّا هي في انتخابات فعلًا  و أنها تستعد للانتخابات،  حتى لو كان ذلك في أيام الحرب والحملات العسكريّة المتتالية، وهي في معظمها تجيء سعيًا ، إضافة إلى أبعادها الأمنيّة، وأحيانًا قبلها والمبرر لها،  لتحقيق مكاسب سياسيّة حزبيّة وشخصيّة، تصديقًا وتأكيدًا لصحّة  ما قاله الجنرال كارل فون كلاوزفيتش أن الحرب هي في معظم الأحيان  استمرار للسياسة بوسائل أخرى، وهو محقّ بذلك، فالعلاقة بين الحرب والسياسة وثيقة، حتى يمكن القول أيضًا إنه حين تفشل السياسة، تكون الحروب هي البديل، ثمّ تعود إلى حضن السياسة كي تجد نهاية للحرب أو مخرجًا منها، وهذا ما يحدث هذه المرّة أيضًا في إسرائيل بفارق بسيط واحد وهو من يواصل ممارسة السياسة خلال الحرب هو الائتلاف وليس المعارضة، رغم تكرار ممثّلي ومندوبي الائتلاف الحالي، القول بأنه يجب عدم الانشغال بالسياسة وقت الحرب، وأنه يجب ترك ذلك إلى ما بعد أن تصمت المدافع.

 


الأمور في هذا الصدد والمتعلّقة بممارسة السياسة وقت الحرب، أو الانشغال بالجوانب السياسيّة والحزبيّة، ومحاولة كسب الأصوات والتأييد بغض النظر عن الظروف، ودون اكتراث للوسائل، فالغاية تبرّر الوسيلة، ، خاصّة من جانب الائتلاف الحكوميّ واضحة للعيان. ويكفي أن نستعيد ما كان في جلسة لجنة الأمن القوميّ البرلمانيّة  التي دعت إليها كتلة "عوتسماة يهوديت- القوّة اليهوديّة" برئاسة إيتمار بن غفير وزير الأمن الداخليّ، والتي  ناقشت مشروع قانون حكم الإعدام (الموت)، بعد ثمانية أشهر من موافقة البرلمان بالقراءة التمهيديّة على اقتراح القانون أعلاه، والذي ينصّ على عقوبة الإعدام على كلّ شخص يتسبب عمدًا أو من خلال اللامبالاة بوفاة مواطن إسرائيليّ، بدافع العنصريّة، أو العداء تجاه الشعب اليهوديّ، وبهدف المسّ بدولة إسرائيل وأمنها ونهضة الشعب اليهوديّ. وهو دون شكّ  نقاش يؤكّد ما سبق من أن التعامل بالسياسة، ومحاولة كسب التأييد أصبح صفة ملازمة ومرافقة للحرب، ما يعزّزه الحقيقة الدامغة حول توقيته وهويّة المشاركين فيه،

وهم أفراد عائلات الرهائن الإسرائيلييّن المحتجزين لدى "حماس"، والذين طالبوا أعضاء البرلمان بعدم مناقشة هذا المشروع الذي يتعلّق بفرض عقوبة الموت  في هذا الظرف بالذات، خشية أن يشكّل ذلك خطرًا على أعزائهم المحتجزين في غزة، وأن تستغلّها "حماس" لممارسة الضغط على الرهائن من جهة والحكومة والسلطات الإسرائيليّة من جهة أخرى، الأمر الذي رفضه النواب، وتوجّهوا بانتقادات عديدة واتّهامات لأفراد عائلات الرهائن، بحيث يحاولون الاستئثار بالألم واستدرار العطف، في تأكيد على أن هذا الحزب "أي القوة اليهوديّة"،

وهو شريك في الائتلاف يدرك قبل غيره، أن الانتخابات قادمة لا محالة، وأنه من الأفضل له ولمصلحته أن يكون السبَّاق لبدء الدعاية الانتخابيّة، أو الحملة الانتخابيّة لكسب أكبر عدد ممكن من الأصوات ، وهو نفس التصرّف الذي يمارسه أعضاء في الليكود وعدد من الإعلاميّين اليمنيّين الذين يبذلون اليوم، وكلّ يوم منذ اندلاع الحرب الحاليّة، الجهود الإعلاميّة العلنيّة والسريّة، لإبعاد شبهات التقصير والفشل عن بنيامين نتنياهو، ومحاولة دمغ قادة الجيش والمخابرات بالفشل.

 

 

وبينما يواصل الجيش عمليّاته العسكريّة داخل غزة ، تنفيذًا أو تطبيقًا، ولو مجازًا للقول الشهير لوينستون تشرتشل الذي جاء فيه أنه عندما تصمت النسور ، تبدأ الببغاوات في الثرثرة، وهو في حالتنا هذه يعكس الحالة الحقيقيّة، فرئيس الوزراء، عبر مؤيّديه ووزرائه ومريديه وإعلاميّيه، منشغل من قمّة رأسه حتى أخمص قدميه، بالسياسة بمعناها الضيّق الائتلافيّ والحزبيّ والشخصيّ،  فهو يدرك أكثر من غيره الواقع في إسرائيل،

 

وهو رغم الوحدة الحاليّة في مواجهة المنظمات الفلسطينيّة وحزب الله التي تعيشها الدولة، ولو ظاهريًا على الأقلّ،  أن الجبهة الداخليّة  الإسرائيليّة مازالت تعاني الخلافات الداخليّة، بل إنها منقسمة على ذاتها، على المستوى الحزبيّ والشعبيّ والسياسيّ الذي بدأ منذ مطلع العام الحاليّ على خلفيّة الانقلاب القضائيّ الدستوريّ الذي أرادت حكومة نتنياهو تنفيذه عبر تغيير كافّة قواعد اللعبة القضائيّة، والدستوريّة وهو انقسام  لم ينته، بل إنه ما زال قائمًا ببعده السياسيّ الواضح،

 

خاصّة بكلّ ما يتعلق بمسؤوليّة رئيس الوزراء عن الإخفاق المذكور، ومدى صرف نظره عن الأخطار الأمنيّة المترتّبة على استمرار الانقلاب الدستوريّ،  وتأثيراته على جاهزيّة الجيش الإسرائيليّ بكافّه قياداته وجنوده ، وبالتالي يدرك أن إسرائيل ما زالت تتخبّط حول كيفيّة التعاطي مع قضيّة  المحتجزين والرهائن لدى " حماس" وربما كيفيّة إنهاء الحرب، أو احتمالات توسيع نطاقها ونقلها ربما إلى الجبهة الشماليّة مع "حزب الله"، وهو ما يعني أن السياسة والإجراءات القضائيّة الجنائيّة ضدّه تشغل نتنياهو وحزبه وربما ، بل يقينًا، تؤثّر على قراراته المتعلّقة بالحرب وطريقة إدارتها، ولذلك يحاول عبر قبوله اقتراحات الهدنة المتتالية، مقابل إطلاق سراح دفعات من المحتجزين والرهائن، تخفيف الضغط الجماهيريّ الذي تزداد حدّته بسبب الفشل الاستخباراتيّ وعدد القتلى من الجانب الإسرائيليّ، عبر السعي لتحرير الرهائن المختطفين لدى "حماس" عبر مسار التفاوض،

 

وإن كان غير المباشر بواسطة وسطاء، في اعتراف ضمنيّ بفشل الرهان على الحلّ العسكريّ لتحقيق ذلك. والحقيقة الماثلة من أن المجتمع الدوليّ بدأ يغيّر مواقفه، وأن نتنياهو وحكومته يدركون الآن بأنهم يمارسون القوة العسكريّة المفرطة للتغطية على فشلهم في تحديد أهداف واضحة للحرب، وصياغة طرق لتحقيقها، فإبادة حركة "حماس" ليست هدفًا واضح المعالم، بل إنه أقرب إلى الشعارات الرنانة والسياسيّة للاستهلاك المحليّ، حيث كانت الإمكانيّات متاحة لإسرائيل أن تُخرج حماس من الساحة العسكريّة والسياسيّة الفلسطينيّة،

 

لو لم يقصد نتنياهو بأن وجودها يُلغي حلّ الدولتين وتمكين السلطة الفلسطينيّة السيادة على الضفة الغربيّة وغزة. وعليه فحماس هي الأداة للقضاء على إمكانيّة قيام الدولة الفلسطينيّة، والدليل عملها المسلح ضد الأبرياء والفظائع التي حدثت في السابع من أكتوبر 2023، وأن الرأي السائد هو أن الأضرار التي ألحقها الجيش الإسرائيلي بحق المدنيين في غزة لا يرافقها  تحقيق القضاء على قوة المنظّمات الفلسطينية المسلّحة في غزة، وعلى رأسها حماس ،ومن هنا يدرك نتنياهو أنه سيكون قريبًا مضطّرًا  تحت الضغوط الداخليّة والخارجيّة، إلى وقف الحرب ، خاصّة وأنه بدأت تتزايد وتتعاظم ملامح وبدايات  تحرّكات جديّة من المجتمع الدوليّ لوقف الحرب،

 

وفي مقدّمة ذلك الضغوطات على الرئيس الأميركيّ، جو بايدن، من قبل أعضاء وقيادات في الحزب الديمقراطيّ، ومطالبته بوقف دعمه غير  المشروط لسياسات إسرائيل، ونشاطاتها العسكريّة، خاصّة وأن نتنياهو وهو الخبير بالشؤون الأميركيّة ، يفهم ويعرف حقّ المعرفة أن التصريحات الأمريكيّة الأخيرة،  خاصّة تلك التي جاء فيها أن أي استئناف للحرب والأعمال العسكريّة يجب أن يشمل عدم المسّ بالمدنيّين ، ووقف إلحاق الأضرار بالمواطنين غير المنخرطين في العمليّات العسكريّة لحركة "حماس" يشير إلى أنه يقترب الموعد الذي ينتهي فيه الضوء الأخضر الدائم، أو "الكارت بلانش" الذي أعطته الولايات المتحدة والغرب لإسرائيل من أجل تتويج عمليّتها العسكريّة بالقضاء على حماسّ بأيّ ثمن. وهو ما يجعل نتنياهو وحلفاءه وأعضاء ائتلافه ووزراء الحكومة كلّهم يصارعون من أجل بقائهم السياسيّ، بينما الجنود يواصلون القتال في غزة، وباختصار يمكن القول أنها حرب عسكريّة يريد أعضاء الائتلاف عامّة ونتنياهو خاصّة، تحقيق أهداف سياسيّة، على ضوء معادلة كلّها خاسرة، فاستمرار الحرب دون نتائج حقيقيّة واضحة على أرض الواقع، ودون جدول زمنيّ لمواصلتها، ودون تحقيق أهداف يمكن عرضها على الناس،

 

وعدم الاكتفاء بخطابات تتكرّر فيها شعارات القوة والعظمة يخلق حالة تسرِّع انسحاب بيني غانتس والمعسكر الرسميّ ، من حكومة الطوارئ، أو حكومة الحرب، ما سيوقظ المعارضة الشعبيّة العارمة لنتنياهو والمطالبة بإقالته أو استقالته ،خاصّة وأن غالبيّة عظمى من المواطنين في البلاد يعتبرون نتنياهو عرَّاب هذا الفشل، عبر تبنيه التوجه القائل أن دعم "حماس" هو مصلحة إسرائيليّة تؤدي إلى إضعاف السلطة الفلسطينيّة وموافقته ضمن هذا التوجّه، ومنذ 15 سنة على حصول حماس على 30 مليون دولار شهريًّا من قطر، عدًّا ونقدًا، استخدمتها لبناء الأنفاق وحيازة الأسلحة، ولم تنفقها على رفاهية شعبها ومواطني القطاع، مع علمها ويقينها بأنها لا تستطيع القضاء على إسرائيل ولا بناء دولة الخلافة ، علمًا أن انسحاب بيني غانتس يعني بالضرورة ولو ليس فورًا، تفكك الحكومة الحاليّة والتوجّه إلى الانتخابات، أو اضطرار نتنياهو إذا ما أراد البقاء في الساحة السياسيّة، إلى تشكيل حكومة جديدة مع المعارضة، وربما بشروطها إذا أستمرت الحرب. وباختصار، يمكن القول إنه عندما تنتهي الحرب العسكريّة في غزة، سيخوض نتنياهو حربًا أخرى لمحاولة إنقاذ مستقبله السياسيّ إلى جانب محاكمته ومتاعبه القضائيّة، والغضب الشعبيّ عليه وعلى حزبه، أي أن نتنياهو يواجه معركة سيكون عليه اختيار الأستقالة مع صفقة حكم مع النيابة العامّة تنهي رئاسته للحكومة، وإعلان موعد للانتخابات العامّة مع الأمل أن تكون قريبة، وهكذا تكون خسارة اليمين المتطرّف وتفكيك الحكومة فورًا، أو خسارة الدعم الأمريكيّ والأوروبيّ، إذا استمرت الحرب دون تحديد أهدافها الواضحة. 

 


لا يتوقّف الانشغال بالسياسة خلال الحرب عند هذا الحدّ، فنتنياهو وائتلافه أقرّوا يوم اإاثنين من هذا الأسبوع الميزانيّة 2023 ورفضوا ضمنها التنازل عن مليارات الشواقل، التي تم الاتفاق على تحويلها إلى الأحزاب المشاركة في الائتلاف كجزء من الأموال التي يسمّيها الخبراء" مخصّصات ائتلافيّة"، حيث الجهات المستفيدة منها هي المتطرّفة اليمينية والاستيطان اليهوديّ في الضفة الغربيّة، وكلّ هذا بدلًا من تحويل هذه المخصّصات، والتي تبلغ نحو مليار ونصف المليار دولار، لصالح الحرب، وما يشمله ذلك من مساعدات لأكثر من مئة ألف مواطن  غادروا منازلهم في المستوطنات القريبة من الحدود الشماليّة مع لبنان، أو منطقة غلاف غزة في الجنوب، ما يعني أن نتنياهو يفضل ضمان حياته السياسيّة والحكوميّة، وضمان تماسك ائتلافه ومصالح أعضائه، على المصلحة الآنيّة القاسيّة التي تعيشها البلاد، فإنه يفكر في اليوم الذي سيلي الحرب .

 


بالتزامن لما جاء أعلاه، فالسجال الذي جرى في الكنيست حول قانون فرض عقوبة الإعدام أصبح واضحًا الحديث المتزايد عن كيفيّة محاكمة المسلّحين من حركة "حماس" الذين اعتقلتهم، أو أسرتهم إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي، لا يتم بمعزل عن السياسة الداخليّة الإسرائيليّة، فهو وإن كان سابقًا لأوانه، خاصّة وأن الحرب ما زالت مستمرة، دون أن تتّضح مواعيد نهايتها، يشكل محاولة تتنافس فيها معظم، بل كل أحزاب الائتلاف الحكوميّ على كسب أصوات المتطرّفين خاصة في الفترة الحاليّة، التي تخفّ، أو خفت فيها مشاعر الرغبة في الانتقام بسبب المشاعر الإيجابيّة التي تثيرها عمليّات إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليّين من القطاع، وهي العمليّات التي تتم عبر مفاوضات مع "حماس"،

انطلاقًا من القول المأثور والمعروف حول الحرب، والقائل إن الخطط العسكريّة مهما كانت جيدة ومُحكمة وناجعة، لا تصمد بعد الاتّصال بالعدو، فهو يلمح إلى أن نهاية الحملة العسكريّة أصبحت وشيكة وقريبة. ولذلك، تتسابق   الأحزاب اليمينيّة المتطرفة ضمن الائتلاف الحكوميّ،

لاقتراح إجراءات قاسية  بحقّ الفلسطينيّين، وبالتالي تتكاثر الأصوات والتصريحات السياسية حول ضرورة اتّخاذ إجراءات تتيح عقوبة الإعدام، خاصّة بعد أن اتضح، وجود إجماع في الموقف بين  المستشارة القضائيّة للحكومة  والادّعاء العام وإدارة المحاكم،  على أن القانون الجنائيّ العادي في إسرائيل  ليس مناسبًا لمحاكمة أولئك الذين شاركوا في هجوم "حماس" في 7 أكتوبر،

وأن المناقشات تتواصل بين الجهات والهيئات المختلفة  حول كيفيّة تقديم المسلحين المحتجزين إلى القضاء ، مع ترجيح إقرار تشريع  خاصّ يشمل تأسيس إطار قضائيّ، أو  محكمة خاصّة تعمل وفقًا للقانون الإسرائيليّ لمحاكمة النازيين والمتعاونين معهم، وهذا كلّه بفعل السياسة،

فالسياسة الإسرائيليّة وموقف إسرائيل من حركة "حماس" واعتبارها منظّمة إرهابيّة، وبالتالي لا تنطبق عليها قوانين الحرب وفق معاهدة "جنيف"، علمًا أن محاكمة كافّة المسلحين المذكورين هي عمليّة تستغرق ربما سنوات طويلة، إذا ما أريد لها أن تتم في المحاكم العاديّة، وهو ما تكشّفت معالمه الأولى، من بداية التحقيقات مع المعتقلين من "حماس"، والتي تنفّذها وحدة خاصّة في الشرطة الإسرائيليّة هي الوحدة 433، والتي استجوب محققوها الكثير من المعتقلين من قوات النخبة التابعة لحركة "حماس" ومسلّحين من فصائل أخرى انضمّوا لاحقًا الى الحرب، ومن ثم مدنيّين وصلوا المستوطنات الإسرائيليّة ونفّذوا عمليات نهب وتخريب متعدّدة، وهي تحقيقات وفق ما رشح عنها، سيحتاج المحقّقون إلى زمن طويل لإتمامها، خاصّة وأنه يرافقها الاطّلاع على عشرات آلاف الأشرطة المصورة وأدلة تتعلّق بالتشخيص الجنائيّ، وأدلة وإثباتات تم جمعها من المستوطنات وصور فوتوغرافيّة ومكالمات هاتفيّة وغيرها، علمًا أن الحديث يدور عن نحو 20000 شريط فيديو بمئات آلاف الساعات وغيرها.

 

 

وكل هذا بهدف واحد ووحيد هو توفير أرضيّة واضحة وثابتة وصلبة من الأدلة تمكن المحاكم من إدانة المعتقلين، دون إفساح المجال حتى بعد 50 أو 100 عام لأيٍّ كان ، للادّعاء بأن الأدلة قد تم الحصول عليها عنوة، أو أن المحاكمات لم تكن نزيهة، وأن من أدينوا لم يرتكبوا المخالفات الإجراميّة المنسوبة إليهم، وبالتالي فإن إداناتهم باطلة، وأن أحكام الإعدام التي قد يتمّ فرضها عليهم، ولأوّل مرة منذ إعدام أدولف آيخمان بعد إدانته مطلع ستينيات القرن الماضي بتهم تتعلّق بالمشاركة في إبادة اليهود، إبّان المحرقة النازيّة،  كانت أحكامًا تم ايقاعها دون حقّ ودون أدلّة، خاصّة وأنه من الواضح أن محاكمتهم ستكون مكشوفة تمامًا للإعلام العالميّ، وأن جحافل من المحامين من دول عربيّة وأوروبيّة وحتى من الولايات المتحدة ربما سترافع عن المسلّحين المذكورين، وأنهم سيدعون انه لا يمكن التمييز، أو المعرفة الواضحة لهوية من نفّذ الأعمال الفظيعة من جهة وبين مواطنين ومدنيين من غزة دخلوا المستوطنات للسلب، دون  أن يشاركوا في الفظائع، ناهيك عن أن فرض عقوبة الإعدام على كل من تم اعتقاله وعددهم كبير، سيثير عاصفة قويّة في العالم، وسيرفع عن إسرائيل صفة الديمقراطيّة والتحضّر،

والتي كانت قد ألغت عقوبة الإعدام وتعود اليها من جديد، ما يعني أنها ستنضم إلى قائمة غير شريفة من الدول الدكتاتوريّة التي تفرض عقوبة الإعدام بالجملة، ليس لإحقاق العدالة، بل لإشباع الرغبة في الانتقام. ومن هنا، فالإمكانيّات القائمة أمام إسرائيل في هذا المجال  تتراوح بين أربعة احتمالات أوّلها  تشكيل محكمة خاصّة موازية للمحكمة المركزيّة القائمة تتم فيه محاكمة المعتقلين على شاكلة ما تم في محاكمات أدولف آيخمان وجون إيفان دميانيوك بتهم المشاركة في إبادة الشعب اليهوديّ، علمًا أن الأول تمّت إدانته وحكم عليه بالإعدام بينما برّأت المحكمة الثاني لعدم كفاية الأدلة، وثانيها تشكيل محكمة عسكريّة وفق أنظمة الطوارئ، كما فعلت أميركا بعد هجمات الحادي عشر من أيلول،  وهي إمكانيّة أكثر قبولًا خاصّة وأنه هناك إجماع على أن الأعمال المنسوبة للمعتقلين لا تلائم المحاكم المدنيّة أو الجنائيّة العاديّة، والثالثة محاكمة دوليّة تشبه محاكم نيرنبرغ يتم فيها محاكمة المسلّحين المذكورين وأعوانهم ومن كان معهم، وذلك وفق القانون الدولّي مع الإشارة إلى أن تركيبة القضاة هنا ستشمل أيضًا قضاة من دول العالم قد تكون مواقفهم مختلفة، والرابعة هي محاكمة جنائيّة وليست لدى محكمة عسكريّة كما كان الحال بالنسبة لمروان البرغوثي الذي تمت مناقشة قضيته في المحكمة المركزيّة في تل أبيب، وهذه إمكانية غير معقولة بسبب طبيعة الأعمال والتهم المنسوبة التي تشمل تهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانيّة، إضافة إلى العدد الكبير وغير الواضح،

من المتهمين مع ضرورة الإشارة إلى تطورات حدثت منذ العام 2000 وحتى اليوم، وتحديدًا أن محكمة خاصّة في اللد كانت موجودة ومخصّصة لمحاكمة فلسطينيّين، أو مسلّحين آخرين شاركوا في عمليّات عسكريّة ضد إسرائيل، أو إسرائيليّين  وعملياّت اختطاف ، ومنهم الناشط في الجيش الأحمر الياباني كوزو أوكموتو الذي شارك في اختطاف طائرات إسرائيليّة، علمًا أن  إسرائيل اتخذت خطوات لتقليص استخدام عقوبة الإعدام. وألغت عام 1996 عقوبة الإعدام للجرائم العاديّة، وأصبحت عقوبة الإعدام محصورة بالجرائم المرتكبة في زمن الحرب، أو في حالة الضرورة القصوى، إضافة إلى خطوة أخرى تمت عام 2000 حيث تم سنّ قانون  يتطلّب موافقة رئيس الوزراء ووزير الأمن ووزير القضاء، على تنفيذ حكم الإعدام. 

 


ختامًا يجب وضع الأمور في إطارها الآني، فالسياسة المتواصلة خلال الحرب والحديث عن محاكمات لمسلحي "حماس" والمطالبة بإعدامهم تتمّ وسط ثقة تتزايد بأن الأسرة الدوليّة ربما ستمنع من إسرائيل تحقيق الشعار الذي رفعته وهو القضاء على "حماس" سياسيًّا وعسكريًّا واجتثاث فكرتها من العقول، وهو ما أثبتته التجارب التاريخية أنه غير ممكن، فأميركا وبريطانيا اللتان حاولتا اجتثاث "داعش" سياسيًّا وعسكريًّا وأيدلوجيًّا، هدمتا 65% من مدينة الموصل العراقيّة وبعدها 70% من مدينة الرقّة السورية، دون أن تتمكنا من تحقيق هدفهما، وهو ما حدث حين حاولت الدول الأوروبيّة القضاء على التطرّف الصربيّ خلال الحرب الأهليّة في يوغسلافيا، عبر قصف جويّ وعمل عسكري أوقع آلاف القتلى، دون تحقيق الهدف ، ليحاول  الجنرال جيمي شي، الناطق بلسان حلف شمال الأطلسي ، تبرير إيقاع هذا الكم من الدمار والقتلى، بقوله:" إن هناك ثمنًا باهظًا يجب دفعه لهزم الظلم والإرهاب، لكن ثمن الفشل في دحر الظلاميّين والإرهابيّين أكبر وأكثر"،

وإزاء ما سبق تبقى أسئلة عدة منها هل ستستمر الحرب دون نهاية، على شاكلة الموصل والرقة، أم تتم تهدئة أو هدنة؟ وأما بالنسبة لحكم الإعدام فالخيار الصعب أمام إسرائيل هو بين محاكمة علنيّة رغم قسوة وفظاعة الأعمال الإجرامية والتهم المنسوبة لمسلحي "حماس"، وبين محاكمة تتدخّل فيها اعتبارات سياسيّة تحوّل المحاكمات إلى سياسيّة تريد منها جهات ما تحقيق أهداف وإشباع رغبات خاصّة... والجواب على الإمكانيّة الثانية سيحدّد بشكل كبير هويّة إسرائيل للعقود القادمة، وهل ستبقى رغم كل شيء دولة تحكمها منظومات واضحة عقلانيّة تحتكم إلى القانون والمنطق والعدالة، أم أنها ستنضمّ إلى دول نصنّفها ضمن دول العالم الثالث، يصبح العدل ونزاهة القضاء فيها وحقوق المتهمين خاصّة، إذا كانوا من غير اليهود، غاية لا تتحقّق.؟ سؤال يبدو أن الإجابة عنه لن تكون قريبة..


 

תגובות

מומלצים