على أيّ دِين رسوت يا أيها الرئيس دونالد ترامب!
تمامًا مثل شخصيّة دونالد ترامب المتقلّبة والمزاجيّة، والتي تميل إلى الغضب بسرعة والتغيّر والتبدّل وحتى التناقض، هكذا تبدو سياساته وقراراته خاصّة في القضايا الخارجيّة، مؤكّدة أنه رئيس غير تقليديّ، بمعنى أنه ليس سياسيًّا وفق المفهوم التقليديّ المنطلق من أيديولوجيّات واضحة يمكن مناقشتها، أو على الأقلّ تخمينها، بل إنه رجل اقتصاد تحرّكه مصالح اقتصاديّة وصفقات يريد فيها أن يكون الرابح دائمًا بغضّ النظر عن الطرف الثاني.
كما أنه رجل استعراض مثير للجدل، ولكنّه رجل أعمال وقارئ جيّد لنبض الشارع الأميركيّ، ويعلم ما يحرّك الناس وما يستفزّهم، وهو ما تثبته الأسابيع الأخيرة، والتي اتّضح فيها خاصّة بكلّ ما يتعلّق بالعلاقة بين الإدارة الأميركيّة وحكومة إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو ، أن التوافق الذي ساد بشكل تامّ بين الطرفين، وكما برز خلال لقاء ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض، في الرابع من شباط الحاليّ، أي بعد أسبوعين من تنصيب ترامب رئيسًا، وتحديدًا حول "جبهات الحرب السبع" التي حدّدتها حكومة نتنياهو،
وهي غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان وإيران والحوثيّون والعراق، وحول المواقف منها والتي كانت متطابقة ومتشابهة، بل كانت من طرف ترامب أكثر حدّة وشدّة والحديث عن تهجير المواطنين الفلسطينيّين من غزة، وإلزام دول عربيّة باستيعابهم أفضل مثال، لم يعد قائمًا أو بكلمات أخرى، بقيت الجبهات وتغيّرت المواقف والسياسات، كما يتّضح من مواقف الإدارة الأميركيّة في كافّة القضايا ذات العلاقة، وبكلمات أدقّ فإن التصريحات خلال الزيارة المذكورة جاءت مستجيبة لسياسات إسرائيل الخارجيّة،
ولكنّها اليوم تأتي استجابة لمواقف ورغبات ومصالح الولايات المتّحدة الداخليّة كما يراها ترامب، وهي مغايرة جدًّا، حتى يصحّ في ما حدث قول جورج أورويل، الكاتب الأميركيّ:" في عصرنا لا يوجد شيء اسمه بعيدًا عن السياسة ، فكلّ القضايا سياسيّة". وهو قول يزداد حدّة حين الحديث عن ترامب، لأن الحديث يكون عندها عن سياسة يحدّدها هو، دون اكتراث بمواقف غيره، فهو وكما تؤكّد تحليلات شخصيّته " لا يتمتّع كثيرًا بميزة الإصغاء للآخرين، وأنه مفاوض صعب، كما أنه صارم وجريء ومباشر " ، والمواقف الأخيرة خير دليل.
قلنا إن الجبهات ما زالت ذاتها خاصّة تلك المتعلّقة بالشرق الأوسط وإيران، لكن المواقف تتباين وتتباعد، بل تتناقض، ولعلّ حديث ترامب عن قرب التوصّل إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار في غزة يؤكّد ما سبق، رغم ما نقل عن موفده ستيف ويتكوف بعد ردّ "حماس" الأخير على طروحاته المتعلّقة بإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليّين والتي تتضمّن وقف إطلاق نار لمدّة 60 يومًا يضمنها الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، وإطلاق سراح 10 أسرى إسرائيليّين أحياء و18 جثة في اليومين الأول والسابع للاتّفاق، وإدخال المساعدات إلى القطاع، مع وقف إسرائيل جميع عمليّاتها العسكريّة الهجوميّة في غزة، وإعادة انتشار الجيش الإسرائيليّ بعد إطلاق سراح الأسرى، وفق خرائط يُتّفق عليها، تليها مفاوضات جادّة في محاولة التوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار،
فمقابل إسرائيل التي يريد رئيس وزرائها مواصلة الحرب حتى النصر المطلق الذي لم ينجح حتى اليوم في رسم معالمه، وتحديد شروطه ربما لأسباب سياسيّة وائتلافيّة داخليّة، وربما شخصيّة لضمان بقائه في السلطة، يريد ترامب وقف الحرب وفق شروطه، ويريد الإعلان عن ذلك بنفسه من منطلق إيمانه أن مصلحة الولايات المتحدة تستوجب ذلك، فالهدوء في غزة يعني تخفيف حدّة التوتّر بين إسرائيل وإيران ووقف هجمات الحوثيّين.
إضافة إلى وقف الانتقادات الأوروبيّة والدوليّة لإسرائيل، والأهمّ من ذلك إبقاء علاقة الولايات المتحدة قويّة ومتينة مع دول الخليج خاصّة السعوديّة، ولو من باب محبّة نفطها وتريليونات استثمارها، بينما يبدو أن إسرائيل لم تعد تكترث لشيء. وأنها سلّمت باستحالة التطبيع مع السعوديّة، أو حتى إبقاء شعرة معاوية معها، كما تؤكّد خطوتها الأخيرة. وهي منع وزير خارجيّتها فيصل بن فرحان من زيارة مناطق السلطة الفلسطينيّة ولقاء الرئيس الفلسطينيّ محمود عباس أبو مازن، تمامًا كموقف الإمارات منها والذي وصل حدّ استدعاء سفير إسرائيل فيها وتوبيخه بسبب الانتهاكات في المسجد الأقصى وغيرها،
وبالتالي نرى اليوم تناقض المواقف التامّ، وتراجع ترامب من جهة عن قضيّة التهجير وقوله إنه لن يتم اقتلاع أيّ مواطن عنوة، وتراجعه عن تصريحاته بأن رفض "حماس" المقترحات الرامية إلى اطلاق سراح الرهائن الإسرائيليّين فورًا يعني فتح أبواب جهنم على غزة، ومطالبته اليوم بإدخال المعونات الإنسانيّة والغذائيّة إلى القطاع وممارسة الضغوط على إسرائيل لضمان ذلك، إضافة إلى استعداد واشنطن وبخلاف تصريحات ترامب السابقة، للتفاوض مع "حماس" والاستماع إلى مواقفه وحتى مناقشتها، دون كسر قواعد اللعبة، بل القبول بمواصلة مصر وقطر جهودهما المكثّفة لتقريب وجهات النظر والعمل على تذليل العقبات للتوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة ارتكازًا على مقترح المبعوث الأميركيّ ويتكوف وذلك بالتنسيق التامّ مع الولايات المتحدة وسط الدعوة لضرورة تحلّي كافّة الأطراف بالمسؤوليّة لإنهاء الأزمة بقطاع غزة، وبما يعيد الاستقرار والهدوء للمنطقة، وهو ليس بالضبط ما تريده إسرائيل، أو ما سيؤدّي إليه توسيع الحرب في غزة.
تغيّر المواقف الترامبيّة/ الأميركيّة من قضيّة غزة وإمكانيّات الحوار مع "حماس" ربما تعكسه أيضًا قرارات ترامب المتعلّقة باختيار الوسيط بينه وبين الحركة، واعتماده رجل الأعمال فلسطينيّ الأصل مقدسيّ المولد، بشارة بحبح وسيطًا، وهو الذي عاش في القدس حتى العام 1976 ثمّ سافر إلى الولايات المتحدة الأميركيّة بعد حصوله على منحة دراسيّة من جامعة بريغهام يونغ في ولاية يوتا، وواصل دراسته الجامعيّة وتخصّص في العلوم السياسيّة والاقتصاد بجامعة هارفارد، ومنها حصل على الماجستير عام 1981، ثمّ الدكتوراه عام 1983 في قضايا الأمن الإقليميّ، وعاد إلى القدس عام 1983، وفي بداية مشواره المهنيّ عمل بين عامي 1983 و1984 رئيس تحرير الطبعتين العربيّة والإنجليزيّة من صحيفة "الفجر"، التي كانت تصدر في القدس الشرقيّة وكانت مقربة من منظّمة التحرير الفلسطينيّة، ليعود لاحقًا إلى الولايات المتحدة، ليبدأ مسارًا في العمل الأكاديميّ،
إذ درّس في جامعة هارفارد، وكان مديرًا مشاركًا لمعهد الشرق الأوسط التابع لتلك الجامعة ، علمًا أنه يقال إن العلاقة بين بشارة بحبح وحركة "حماس" كانت بمبادرة من الحركة وبوساطة سهى عرفات أرملة الرئيس الفلسطينيّ الراحل ياسر عرفات، وذلك نظرًا لمكانة بحبح، وكونه انخرط في الحياة السياسيّة الأميركيّة وتقلّب بين الحزبين الديمقراطيّ والجمهوريّ، وذلك على خلفيّة مواقف كلّ حزب من القضيّة الفلسطينيّة، إذ صوّت عام 2016 للمرشّح الجمهوريّ دونالد ترامب، بسبب استيائه من مواقف الرئيس الديمقراطيّ آنذاك باراك أوباما الذي لم يقدّم في نظره أيّ شيء للفلسطينيّين، أمّا في انتخابات 2020 فقد صوّت للمرشح الديمقراطيّ جو بايدن بسبب اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركيّة إليها، وكذلك اعترافه بسيادة إسرائيل على الجولان، ليعود في انتخابات 2024، ليصوّت مجدّدًا لترامب بعد خيبة الأمل الكبيرة في صفوف الفلسطينيّين والعرب والمسلمين في أميركا من سياسات بايدن، وخاصّة من الحرب في غزة بعد هجمات السابع من أكتوبر 2023.
والأمر كذلك بما يتعلّق بإيران، وهي التي كان مارك روبيو وزير خارجيّة ترامب قد هدّدها بأن الإدارة الجديدة لن تسمح مطلقًا للجمهوريّة الإسلاميّة في إيران أن تتحوّل إلى دولة نوويّة، أو أن تستمر في رعاية الإرهاب، أو أن يكون لديها القدرة على مهاجمة جيرانها والولايات المتحدة. وهدّدها ترامب بقصف لم تشهده من قبل، فالأمر يبدو أكثر واضحًا من حيث كون " سياسة ترامب" هي صاحبة الغلبة،
فالمفاوضات مستمرّة وهناك حديث عن امتناع أميركا عن فرض عقوبات جديدة على طهران، إضافة إلى تطوّرات هامّة منها ما تمّ الكشف عنه من أوامر أصدرها ترامب لوزارة الدفاع (بنتاغون) والجيش، بوقف التنسيق مع إسرائيل بشأن شنّ هجوم مشترك على المنشآت النوويّة في إيران، واعتراف ترامب بأنه حذّر رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو من شنّ هجوم على إيران، في الوقت الذي وصلت به المفاوضات النوويّة بين واشنطن وطهران إلى مرحلة متقدّمة، أو بكلمات ترامب نفسه فإن الولايات المتحدة تجري محادثات جيّدة جدًّا مع الإيرانيّين،
وهنا يبرز الخلاف الأكبر يتمحور بين واشنطن وأورشاليم حول إيران. ذلك أنّ دونالد ترامب ومعه صنّاع القرار يتمسّكون بضرورة إنجاز تسوية مع إيران عنوانها الملف النوويّ، ولكن مضمونها يمسّ تفاهمات حول المنطقة، فإدارة ترامب تراهن على أنّ النظام القائم في إيران، رغم كونه متزمّت دينيًّا إلا أنه واقعيّ يدرك جيّدًا معنى الخسائر التي تكبّدها هو ومعه حلفاؤه في ما يسمّى "محور المقاومة"، وخاصّة "حزب الله" في لبنان وحركة "حماس" في غزة، وانهيار نظام بشار الأسد، والحوثيّين الذين وقّعت أميركا ترامب معهم اتفاقيّة معناها " إخراج " السفن الأميركيّة دون غيرها من دائرة استهدافهم، خدمةً للمصالح الأميركيّة دون غيرها وقبل غيرها،
ولذلك سيبدي المرونة والواقعيّة في التعامل مع الظروف والوقائع الجديدة، علمًا أن إيران تشهد ّ نقاشًا واسعًا حول الموقف الذي يجب اتّخاذه من المفاوضات مع واشنطن، وهو نقاش بين جهتين الأولى عقائديّة ومتشدّدة، وتتمسّك بالعمل على إعادة بناء المحور الإقليميّ مهما كلّف ذلك من وقت وجهد، والثانية تنظر إلى الأمور بواقعيّة أكبر، مدركة أن التغييرات في سوريا، تؤكّد أن واقعًا جديدًا قد نشأ ما يشكّل خطرًا أكبر على إيران،
ومن هنا وبعكس إسرائيل وربما اللوبي اليهوديّ في أميركا والذي تراجع قادته مؤخّرًا عن تأييد حلّ الدولتين خاصّة بعد السابع من أكتوبر، وأصبحوا يميلون إلى " الفوضى الخلّاقة" كما وصفتها وزيرة الخارجيّة السابقة كوندوليسا رايس، في المنطقة ووفق الرؤية الإسرائيليّة الحاليّة، والمتمثّلة في ما رسمه برنارد لويس من تفتيت للدول العربيّة إلى دويلات عرقيّة ودينيّة ومذهبيّة، تفتقر إلى مقومات الحياة، لكنها بديل أفضل للدول الحاليّة من حيث أنّها لن تشكّل أيّ تهديد لأمن إسرائيل، فإن إدارة ترامب ومن منطلقاتها السياسيّة الأميركيّة الضيّقة، لا تروق لها الأحاديث عن مهاجمة إيران وإسقاط النظام، وإيصال إيران إلى أي فوضى غير محسوبة،
وذلك لأن واشنطن ترى أمام ناظريها استمرار تمدّد الصين الاقتصاديّ وتغلغله داخل إيران مستغلًّا أزمتها الاقتصاديّة وترجمة ذلك إلى نفوذ دبلوماسيّ وسياسّي وعسكريّ.
وتريد منع ذلك، وتريد أن تتعافى طهران اقتصاديًّا ما يعني عقودًا واتفاقيّات اقتصاديّة تساهم في إنقاذ الاقتصاد الأميركيّ من خطر السقوط عبر استثمارات متبادلة خاصّة في مجال النفط، ستشكّل نقاط قوّة لاقتصاد البلدين، مع الإشارة هنا إلى المعادن النادرة التي تمتلكها إيران. ومن هنا ستسعى واشنطن لاحتكار التعاون الاقتصاديّ مع إيران، تمامًا كما أراد ترامب أن يفعل مع أوكرانيا.
وهو الأمر بالنسبة للبنان وسوريا، فبينما احتلّ لبنان مقدّمة سلم أولويات إدارة ترامب في بداية عهدها، ومع انطلاق وقف إطلاق النار الذي وقّعته إدارة بايدن السابقة في تشرين الثاني الماضي ونسبه ترامب لنفسه، تغيّرت الأمور ربّما بفعل التطوّرات الإقليميّة، فترامب وإدارته يرون اليوم أن الملف اللبنانيّ لم يشهد تطورات بالوتيرة المطلوبة منذ اتفاق وقف النار في تشرين الثاني الفائت، رغم أن الإدارة الأميركيّة تبدي ثقتها الكاملة برئيس لبنان جوزيف عون وأيضًا برئيس الحكومة نواف سلام، مع بعض المآخذ على بطء عمل الحكومة، وإلى جانبها تأكيد الثقة بالجيش اللبنانيّ وعمله،
رغم الحقيقة الواقعة وهي أن الحكومة والجيش لم ينجحا في نزع سلاح "حزب الله" وبسط السيطرة الأمنيّة في الجنوب، إضافة إلى أن إسرائيل غير مستعدة للانسحاب الكامل من لبنان ووقف عمليّاتها العسكريّة، وهناك من يعتقد أن حلحلة الوضع في لبنان منوطة بعمليّة سياسيّة أوسع قد تكون اتفاقًا إيرانيًّا أميركيًّا أو تطبيعًا إسرائيليًّا سعوديًّا.
ومن هنا يبدو ورغم زيارات الموفدة مورغان أورتاغوس المتكرّرة إلى لبنان ، يبدو أن إدارة ترامب قررت إعطاء الأولويّة في هذه المرحلة للملف السوريّ لأسباب عدّة، أبرزها الغموض الذي يكتنف مستقبلها وأهميّتها الجغرافيّة، ومن هنا جاءت موافقة أميركا على أن يقوم رئيس سوريا الجديد أحمد الشرع بضمّ آلاف الجهاديّين إلى جيشه لتمكينه من بسط سيادته وسلطته وضمان استقراره وبقائه، في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل قصف معسكراته وقواته، وهي عمليّة تشكّل تطبيقًا لمواقف اللوبي المؤيّد لإسرائيل في الولايات المتحدة، وتستجيب لمواقف الائتلاف الحاليّ في إسرائيل واحتياجاته الانتخابيّة والائتلافيّة، لكنها قد تؤدّي إلى نتيجة معاكسة تمامًا لما تريده أميركا، وهي تقويض أركان النظام وإسقاطه واستمرار الصراعات الفئويّة الداخليّة في سوريا.
هذه هي صورة الوضع اليوم، وهي انعكاس للواقع، فبينما يواصل رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو الحديث عن "حرب على جبهات سبع" تواصل دول العالم المتبقية كلّها صياغة اتفاقيّات وتوجّهات سلميّة جديدة، قوامها اتفاقيّات تعاون ومحاولات لكسر الحواجز وتذليل الصعاب، وهو ما تؤكّده مفاوضات السلام الأوكرانيّة الروسيّة في تركيا واستعداد إدارة ترامب حتى للتوصل إلى اتفاقيّات وتوافقات اقتصاديّة مع الصين تتعلّق بالتعرفة الجمركيّة وكذلك مع كندا، ونتائج زيارة ترامب إلى الخليج، ومفاوضات أميركا مع إيران وكذلك موقفها البارز والخاصّ من سوريا،
واتّصالاتها مع "حماس"، وكلها ترتيبات إذا ما ترسّخت جذورها فإنها تعني واقعًا جديدًا في العالم عامّة والشرق الأوسط خاصّة، خلاصته على الصعيد الشرق أوسطيّ إبقاء إسرائيل خارج نطاق اللعبة السياسيّة الأميركيّة وكذلك الأوروبيّة في المنطقة، مع ازدياد الأصوات الأوروبيّة الداعية إلى تعليق الاتفاقيّات الاقتصاديّة مع إسرائيل والتصريحات حول الاعتراف بدولة فلسطينيّة كتلك الصادرة عن باريس ومدريد التي أعلنت انضمامها إلى توجّه جنوب افريقيا حول تهم ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في غزة، والمطالبات بوقف الحرب بما فيها من جهة بريطانيا التي أعلنت أن الوضع في غزة يقترب من كارثة إنسانيّة، وصولًا إلى حالة هي ترتيب جديد للأوراق في المنطقة تبقى إسرائيل فيها الوحيدة المتمسّكة بالخيارات العسكريّة خاصّة مع اتضاح الحقائق حول كون سلاح "حزب الله" اليوم، لا يشكّل أيّ تهديد لإسرائيل خاصّةً بعد تصفية معظم قيادات الحركة وتفجير أجهزة "البيجر" وإصابة قياداته العسكريّة،
وتدمير مخازن الأسلحة والعقوبات المفروضة على الحزب، وبالتالي فإن ما سبق يرسم صورة تضع أمام نتنياهو وحكومته ضرورة الاختيار بين الانخراط في المساعي الترامبيّة الأميركيّة وصولًا إلى اتفاقيّات وتفاهمات تضمن الهدوء والاستقرار، وهو ما سيعود بالفائدة على الجميع، حتى لو كان يخدم مصالح أميركا الآنيّة والحاليّة، أو البقاء على منوال" الحرب على سبع جبهات ومواصلة الحرب في غزة حتى النصر المطلق".
ختامًا، لن يكون من السهولة بمكان أن تغيّر الحكومة الحاليّة ولاعتباراتها الخاصّة، من سياساتها الحاليّة التي هي شرط لبقائها وبقاء رئيسها في منصبه، رغم أن الجميع وربما بعض أعضائها يدركون في قرارة أنفسهم أن ما يفعلونه اليوم هو ممارسة ائتلافيّة وليس ممارسة للسلطة، أي أنه تصرّف يستجيب لحاجات ضيّقة وائتلافيّة وليس للمصالح الحقيقيّة للبلاد، فالسياسيّ الذي يتصرّف من منطلقات خاصّة، ولا يتصرّف وفق "سلطة الحكم" أي المصلحة العامّة والحقيقيّة يتصوّر أحيانًا أن كل شيء ممكن ويرفع سقف المطالب حتى الدرجة القصوى وربما الخياليّة وغير ممكنة التحقيق.
أمّا السياسيّ الذي يمارس سلطة الحكم بحق وحقيقة فينظر إلى الواقع بمنطق الممكن، وبالتالي قد يغيّر من مواقفه لضمان الممكن ، فينهض بعد سقوط شعاراته وأحلامه، ويتّجه صوب الحقيقة ويقترب من تحقيق الواقع والممكن ،عملًا بقول وينستون تشرتشل:" كلّ الذين نهضوا بعد السقوط، لم يغيّروا أقدامهم، بل غيَّروا أفكارهم"...فهل ستتغيّر الأفكار، أم ستبقى الأقدام غارقة في وحل الرفض والبحث عن "كمال الإنجازات" رغم استحالة ذلك؟؟؟
وهل وصل رئيس حكومة إسرائيل إلى قناعة بأن الرئيس دونالد ترامب "لا دين له في السياسة" كما قالوا في حينه للأمير بشير الشهابي :"على أي دين رسيت يا أمير"!!!


















