هل تعلّمت الدول والشعوب بأنّ للقوّة حدودًا ؟
هو الخيط الرفيع الذي يفصل بين السلطة والتسلّط، أو بين القوة والاستقواء و بين الأغلبيّة الديمقراطيّة ودكتاتوريّة الأغلبيّة، لكنّه عمليًّا ذلك التوجّه الذي يحكم طبيعة العلاقات بين الدول من جهة، والعلاقات داخل الدول من جهة أخرى، في كافّة المواقع التي تشهد توتّرًا عسكريًّا، أو سياسيًّا، أو اقتصاديًّا داخليًّا
وتلك التي تشهد توتّرًا في العلاقات الخارجيّة بين الدول اقتصاديًّا كان أم عسكريًّا، وفوق ذلك كلّه، فإنه قضيّة تشغل السياسيين من جهة، وهم الذين تحرّكهم مصالح متناقضة تفاصيلها المصلحة الخاصّة، أو العامّة، وفنّ الممكن في معظم الحالات.
وهو ما برز تحديدًا في المحادثة الهاتفيّة الأخيرة التي دارت بعد وقت طويل من القطيعة بين بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركيّ جو بايدن، والتي انتهت إلى حديث عن لقاء قريب بين الزعيمين من جهة وعن "تليين " في التشريعات القضائيّة، أو الانقلاب الدستوريّ، ولكن بعد إقرار حجّة المعقوليّة، أو الأرجحيّة التي تمنع المحاكم من التدخّل، أو مراقبة قرارات الوزراء والمسؤولين الحكوميّين وفي الحكم المحليّ، مع تأكيد أميركا قلقها من مواصلة التشريعات. وهو ما يؤكّد في نهاية المطاف أن المصالح الكبرى هي التي تحكم العلاقات بين الدول، وأن التشدّق الأميركيّ بالدفاع عن الديمقراطيّة مستغلّة قوّتها السياسيّة،
ووزنها في العلاقات بين دولة عظمى وبين حليفتها الإستراتيجيّة يقف عند "استخدام معقول للقوة"، ولا يصل حدّ فرض الموقف، أو الاستقواء والتدخل في الشؤون الداخليّة لإسرائيل، والتطوّرات الأخيرة التي شهدتها علاقات الولايات المتحدة والصين من هدوء ولقاءات واتّصالات في عهد إدارة جو بايدن، جاءت بديلًا لخطوات الإدارة الأميركيّة السابقة برئاسة دونالد ترامب، والتي اعتمدت التهديد والوعيد، ومحاولة لي ذراع الصين اقتصاديًّا، وفرض الضرائب والجمارك بمئات مليارات الدولارات على الصين ما أدّى إلى ردّة فعل مشابهة وموازية من جانب الصين، والتطوّرات في الشأن النووي الإيرانيّ، والتي حوَّلت إدارة بايدن مسارها نحو التفاوض ومحاولة التوصل إلى اتفاق جديد يشمل وقف ايران لخطوات تخصيب اليورانيوم عند درجة 60% بدلًا من 90% اليوم، مقابل تخلّي الولايات المتحدة عن عقوبات اقتصاديّة وسياسيّة وعسكريّة ضد إيران، وربما التنازل عن الخيار العسكريّ، أو وضعه على الرفّ لفترة طويلة ، بمعنى استخدام الولايات المتحدة قوّتها بدلًا من الاستقواء الذي عادة ما ترافقه مشاعر العظمة والرغبة في فرض الرأي والموقف، وعلاقات إيران والسعوديّة، أو التعنّت ومحاولة لي ذراع المعارضة، أو الأقليّة في حالات أخرى.
وهو ما شهدته العلاقة بين روسيا وأوكرانيا، والتي حاولت فيها روسيا لي ذراع أوكرانيا، وربما أيضًا حلف شمال الأطلسيّ والاتحاد الأوروبيّذ، لينتهي بها المطاف إلى حرب اجتاحت فيها القوات الروسيّة مناطق أوكرانيّة وأعلنتها مناطق مستقلّة، وعمليًّا عسكريّة وهدم للممتلكات والسدود والمنازل والمدارس، تتواصل منذ عام ونصف تقريبًا حرقت الأخضر واليابس، دون أن تبدو نهايتها في الأفق، لكنّها من جهة أخرى، لم تدفع الاتحاد الأوروبيّ والولايات المتحدة للتدخّل عسكريًّا لنصرة أوكرانيا ،بشكل فعليّ، كما حدث بعد اجتياح العراق للكويت نهاية ثمانيات القرن الماضي، أو بشكل محايد، كما حدث خلال الحرب الأهليّة في يوغوسلافيا في تسعينيات القرن الماضي، وما يحكم تصرّف الأغلبيّة البرلمانيّة في إسرائيل في ظلّ حكومة بنيامين نتنياهو السادسة التي حوَّلت حكم الأغلبيّة الديمقراطيّة، والذي يعني أيضًا ضمان حقوق الأقليّة السياسيّة ومنحها الحريّة السياسيّة والإعلاميّة وغيرها، والأقليّات القوميّة والمدنيّة ومنها المجتمع العربيّ،
وضمان أمنه وحياته ومكافحة الجريمة فيه وضمان تقدّمه وازدهاره ، إلى دكتاتوريّة الأغلبيّة، كما يتّضح من تشريعات الانقلاب الدستوريّ التي تجعل الحكومة، أي السلطة التنفيذيّة السلطة الوحيدة صاحبة القرار والسيطرة التامّة، والقرارات والخطوات المتعلّقة بالضفة الغربيّة والشأن الفلسطينيّ خاصّة، والتي تعني ضمّها فعليًّا( دي فاكتو) من جهة ، أمّا من الجهة الأُخرى فتجدر الإشارة إلى قضية وجود الخيام التي يمكث فيها مسلّحون من حركة "حزب الله" اللبنانيّة على الجانب الإسرائيليّ من الشريط الحدوديّ، والتي ما زالت إسرائيل تعمل على حلّها بشكل دبلوماسيّ بعيدًا عن الخيار العسكريّ، ربما بخلاف ما كان متّبعًا في السابق من استخدام للقوّة العسكريّة بسرعة دون أن تأخذ إسرائيل بعين الاعتبار تأثيرات وأبعاد استخدام القوّة، والتي قد تؤدي في حالات" الحساب الخاطئ" إلى اندلاع مواجهة يكون الجميع في غنىً عنها.
هذا الخيط الرفيع يشغل اليوم أيضًا الباحثين الأكاديميّين في مراكز الأبحاث المختلفة في كافّة أرجاء العالم، وخبراء العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة ، ويدفعهم إلى محاولة الحديث عمّا إذا كان العالم اليوم يشهد حالة جديدة من الامتناع عن استخدام القوّة العسكريّة، أو الاقتصاديّة بهدف إخضاع الطرف الآخر، وكسر شوكته وإظهار تفوّق دولة ما عسكريًّا، أو اقتصاديًّا، وإنما بهدف الضغط عليه سلميًّا لتحقيق أهداف ما ومصالح ما دون اللجوء إلى القوّة العسكريّة، فواشنطن بايدن تمتنع في الشأن الإيرانيّ عن استخدام القوّة العسكريّة(وقبلها حتى واشنطن ترامب، والتي لوّحت باستخدام العسكر لضرب إيران ووقف برنامجها النوويّ)، كما تمتنع عن الإسراع بعكس الماضي إلى التدخّل العسكريّ في النزاعات الدوليّة بعكس حربَي الخليج الأولى والثانية وأفغانستان وغيرها، في حالة تؤكّد ما يعتبره الخبراء في العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة، تطوّرًا هامًّا يعني تغليب القوة الاقتصاديّة والسياسيّة والضغط الدوليّ على إمكانيّات التدخّل العسكريّ التي تشكّل فرضًا لهيمنة مؤقّتة،
بفعل الجيش الذي تملكه الولايات المتحدة مثلًاـ وذلك انطلاقًا من فهم جديد للبيئة السياسيّة الدوليّة جعل الدول المختلفة تفهم أن تكلفة استخدام القوة العسكريّة أصبحت غير مقبولة وغير مجدية تمامًا، وأنها لا تتوقّف عند سعر العتاد العسكريّ الذي يتمّ استخدامه، بل إنها أصبحت عبئًا اقتصاديًّا وماليًّا وخللًا سياسيًّا ومصدرًا لاستنزاف الدولة بشريًّا واقتصاديًّا وماليًّا، قد يؤدّي إلى انهيار الدولة- تمامًا كما حصل لإيران بعد حربها مع العراق، والتي استمرّت سنوات طويلة دون طائل،
ناهيك عن المسّ الذي يترتّب عليه بكل نواحي الحياة ،خاصّة وأن معظم الدول، أو تلك الديمقراطيّة على الأقلّ تسعى، لضمان كون مواطنيها يستمتعون بمستوى عالٍ اجتماعيًّا واقتصاديًّا، وراحة نفسيّة تمكّنهم من مواصلة العمل والإنتاج والحياة العاديّة والطبيعيّة، دون أن تتوقّف عجلات الاقتصاد في حالة كانت الحرب قريبة جغرافيًّا، كما هو الحال بين إسرائيل ولبنان، أو بين إسرائيل وغزة، ومن هنا جاء البحث عن بديل للقوة العسكريّة، أو ما يسمّيه خبراء العلاقات الدوليّة "القوة الصلبة" والعمل على إيجاد بديل له يضمن تحويل الموارد والإمكانيّات إلى قوّة يتم توظيفها بأقلّ خسائر ممكنة،
أي ممارسة ضغوط اقتصاديّة وسياسيّة ودبلوماسيّة وتجاريّة وغيرها، علمًا أن الدور المهم الذي تلعبه القوة في العلاقات الدوليّة منذ القدم، أدّت إلى وجود مدارس وتوجّهات مختلفة في العلاقات الدوليّة، تحاول كلّ منها تفسير مفهوم القوّة بمعناها الواسع في العلاقات الدوليّة والطرق الناجعة لاستخدامها، وهو ما يعتبره بعض الخبراء، تفضيلًا لمبدأ الامتناع عن استعمال القوة العسكريّة خاصّة، أو التهديد باستعمالها في العلاقات الدوليّة، سواء كان ذلك لحلّ الخلافات، أو لضمان السلم بصيانة السلامة والأمن الدوليين؛ أي التوجّه إلى تسوية النزاعات، حتى الإقليميّة منها، بالوسائل السلميّة .
هذا بالضبط ما فعلته الولايات المتحدة والصين في محاولة لتسوية خلافهما الاقتصاديّ، والذي لا يخلو حتى لو أنكرا ذلك، من الأبعاد السياسيّة وحتى العسكريّة، باعتبار أن الصين تسير بخطىً واثقة نحو التحوّل إلى قوة عظمى دوليّة مستخدمة السيطرة السياسيّة والاقتصاديّة بدلًا من الاستعمار العسكريّ خاصّة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، دون أن تتنازل عن استغلال هذا التواجد الاقتصاديّ، لتحقيق أهداف سياسيّة وزيادة مبيعاتها العسكريّة،
وبالتالي سيطرتها في هذا المجال أيضًا، وأقصد هنا محاولة حلّ الخلاف بالطرق السياسيّة عبر لقاء رفيع المستوى، بين وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن ونظيره الصينّي تشين غانغ الذي تتحدّث وسائل الإعلام العالميّة عن اختفائه منذ أكثر من أسبوعين دون معرفة السبب لعدم ظهوره علنًا في المناسبات السياسيّة والرئيس الصينيّ شي جينبينغ في إطار الجهود الرامية إلى تحسين العلاقات بين واشنطن وبكين. وهو اللقاء الذي نقلت وسائل الإعلام عن بلينكن قوله بأنه من المفروض أن تعتمد كافّة العلاقات بين مختلف الدول على الاحترام المتبادل والصدق والمصداقيّة،
معربًا عن أمله أن تساهم زيارته هذه إيجابيًّا في ضمان استقرار العلاقات بين الصين وبلاده الولايات المتحدة، علمًا أن الزيارة تطرّقت إلى نقاط الخلاف الواسعة والقضايا الخلافيّة المتعدّدة بين الصين والولايات المتحدة ومنها تايوان، والقضايا التجاريّة، وحقوق الإنسان، ووقف تدفّق عقاقير من الصين تعتبرها الولايات المتحدة خطيرة للغاية، وخاصة الفنتانيل، وهو من الموادّ المخدرة التي يتم تصنيعها في الصين، إضافة طبعًا إلى محاولة تقريب وجهات نظرهما المختلفة فيما يتعلّق بالحرب في أوكرانيا من جهة، والشأن النوويّ الإيرانيّ من جهة أخرى.
وهذا ما فعلته الولايات المتحدة مع إيران في قضية المشروع النوويّ، خاصّة وأن التسريبات الإعلاميّة الأخيرة تتحدّث عن وجود اتّفاق، أو توافق إيرانيّ أميركيّ، وإن كان غير مكتوب، على صيغة تهدف إلى ضمان أمور عدّة منها وقف التصعيد الأمنيّ والسياسيّ الذي تخلقه النشاطات النوويّة الإيرانيّة، ووقف أو تقليص إمكانيات، أو احتمالات الصدام أو العمل المسلّح، والتلميح إلى جانب استمرار التدريبات العسكريّة الأميركيّة المشتركة مع إسرائيل والتي يمكنها أن تشير إلى احتمال عمل عسكريّ مشترك، وربما هذه التدريبات هدفها منع إسرائيل اتخاذ حملة عسكريّة على إيران دون موافقة الولايات المتحدة الأمريكيّة، وربما محادثة بايدن بنتنياهو جزء من نهي إسرائيل عن أيّ حملة عسكريّة ضد أيران . كما وضمن الاتفاق غير المكتوب بين أمريكا وإيران، تبادل أسرى وسجناء بين البلدين، ورفع جزء من العقوبات الاقتصاديّة الأميركيّة التي تم وضعها على مسؤولين إيرانيين والتي شملت تجميد أموال وأصول وأرصدة إيرانيّة في الولايات المتحدة، وتحرير نحو 20 مليار دولار منها، ناهيك عن عقوبات اقتصادية على إيران منها منعها من تصدير النفط الخام إلى دول العالم، باستثناء روسيا بوتين التي أصرّت على مواصلة شرائه، والصين التي تواصل إقامة العلاقات الاقتصاديّة مع طهران،
بل تعزيز هذه العلاقات السياسيّة خاصّة عبر وساطة دبلوماسيّة بين طهران والرياض أسفرت في نهاية المطاف عن استئناف العلاقات الدبلوماسيّة وفتح السفارات المتبادلة في الرياض وطهران، ما يعزّز عمليًّا قوة" التحالف المعارض لواشنطن" في الحرب الأوكرانيّة من جهة، وتوريد النفط حيث تشكّل موسكو والرياض "حلفًا معارضًا" لمنظمة أوبك أو منظمة بديلة هي أوبك، والتي سجّلت مواقف رافضة لمحاولات واشنطن إقناع الدول المنتجة والمصدرة للنفط بزيادة إنتاجها منه مع انطلاق الأزمة الأوكرانية منعًا لنقصه، أو ارتفاع أسعاره، وهو ما اضطر الولايات المتحدة إلى استخدام مخزونها الاحتياطيّ من النفط، وجعل الرئيس جو بايدن يصل الرياض على عجل محاولًا إقناع محمد بن سلمان بزيادة إنتاج النفط، أسوة بالإمارات وغيرها، دون جدوى، مع الإشارة إلى أن الإدارة الأميركيّة الحاليّة توجّه أنظارها إلى موعد واحد هامّ هو الانتخابات الرئاسيّة في تشرين الأول 2024، والتي سيحاول جو بايدن الديمقراطيّ، الانتصار فيها على دونالد ترامب المرشح الجمهوريّ مرّة أخرى، وبالتالي يريد ضمان الهدوء على كافّة الجبهات خاصّة ايران والشرق الأوسط، وربما ضمان عدم تفاقم الحرب في أوكرانيا حتى لو استمرت على نار هادئة دون حسم عسكريّ أو سياسيّ، وهو كما يبدو ما سيكون، علمًا أن هناك من يعتقد أن " التوافق الأميركيّ الإيرانيّ "مردّه إدراك الولايات المتحدة أن ذلك يخدم مصالحها أوّلًا بعد أن هدأت مظاهرات "الحجاب" وتوقّفت القلاقل في إقليم الأهواز ذات الأغلبيّة السنيّة في إيران، واستعادت طهران أنفاسها بفعل تعزيز علاقاتها مع موسكو وبكين والرياض وأنقرة وغيرها.
وهو نفس الحال بين الرياض وطهران، فمصالحهما تحتّم عليهما التوصّل إلى توافق سياسيّ دفعته إليه ربما الولايات المتحدة بضغطها على إيران في الشأن النوويّ، وتأكيد إدارة بايدن أن محمد بن سلمان هو شخصيّة غبر مرغوب فيها في واشنطن على خلفيّة قضية اغتيال الناشط السعوديّ الأميركيّ الجنسيّة جمال خاشقجي وقضيّة حقوق الإنسان، وبعد أن أدركت الرياض أن عداءها لإيران وحلفائها في الخليج وخاصّة قطر أصبح غير ذي جدوى بعد أن عادت المياه إلى مجاريها بين دول الخليج وقطر، وارتفع حجم التبادل الاقتصاديّ بين الخليج وطهران إلى مستويات غير مسبوقة، وبعد أن أدركت السعودية ربما بفعل تبدّل الإدارات ، وتحديدًا تنحي جاريد كوشنير صهر ترامب عن الساحة السياسيّة،
وهو الصديق المقرّب من محمد بن سلمان، أنها لم تعد بالنسبة للولايات المتحدة حليفة أولى في الشرق الأوسط، وربما موقعًا أرادت واشنطن وإسرائيل أن تنطلق منه شرارة " الحلف السنيّ الشرق أوسطيّ" المضادّ لطهران، وبعد أن أدركت طهران أن التوافق مع الجيران رغم الخلافات التي ما زال بعضها قائمًا حول بعض حقول النفط في مناطق معيّنة ومنها خاصّة حقل "الدرة" المشترك بين السعوديّة وإيران والكويت وغيره، هو الأفضل اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، فهو يعني أن ما تمناه نتنياهو من أن تشكّل الأراضي الخليجيّة عامّة والسعوديّة تحديدًا منطلقًا لهجوم إسرائيليّ عسكريّ على المنشآت النوويّة الإيرانيّة أصبح أضغاث أحلام. والأهم بأن الرئيس التركيّ تنازل عن أحقاده تجاه دول الخليج، وها هو يقوم بزيارة لهذه الدول طالبًا أن تمدّه بالأموال لإنقاذ العملة التركيّة من الانهيار أكثر وأكثر.
بالمقابل، وتحديدًا في إسرائيل والتي أدركت حدود القوة مع جيرانها وخاصّة "حزب الله" وهو العدوّ الخارجيّ الأبرز لها بفضل علاقته الوثيقة مع إيران، وهو يأتمر بأمرها بشكل تامّ، وبالتالي عملت في هذا الموقع على الأقل على ممارسة القوة اللينة، أي السياسيّة والدبلوماسيّة، تواصل الحكومة استخدام القوة الصلبة مع معارضيها والأقليّات عبر تشريعات تجعل الحكومة الحاكم الوحيد، وتحرم المعارضة والأقليّة حتى من حقّ التظاهر، وهو ما دعا الولايات المتحدة إلى مطالبة الحكومة بضمان حقّ المعارضة في التظاهر. وهو مطلب توجّهه واشنطن عادة إلى دول دكتاتوريّة ظلاميّة في نظرها، متناسية أن الديمقراطيّة ليست الانتخابات وتشكيل الحكومة فحسب،
بل إنها مجموعة متكاملة ومتشعّبة من القيم والمبادئ والممارسات، منها النقل السلميّ للسلطات (بعكس ما تصرفت الحكومة الحاليّة وهي المعارضة خلال عهد حكومة نفتالي بينيت ويائير لبيد من حيث تأكيدها عدم الاعتراف بشرعية الحكومة، بل بشرعيّة نتائج الانتخابات) ،والإدراك أن ترجيح كفّة الأغلبية في الحكم لا يعني دوس الأسس والقواعد والضمانات التي تحمي الحقوق الأساسيّة للأقليّات، وتضمن استمرار المبنى السلطويّ والنظاميّ للدولة، وليس تغييره من طرف واحد، دون أي أساس قضائيّ، أو مبرّر تشريعيّ غنمًا لأهداف ضيّقة سياسيّة وحزبيّة وشخصيّة، وأن أيّ حديث عن ديمقراطيّة اليوم في إسرائيل خاصّة إذا ما تواصل الانقلاب الدستوريّ إنما هو تضليل مقصود، يهدف إلى التستّر على جهود واضحة ومكشوفة لنسف منظومة الحكم ، عبر الترويج لشعارات عن حكم الأغلبيّة، والمقصود عمليًّا هو دكتاتوريّة الأغلبيّة،
واستخدام القوة السياسيّة والبرلمانيّة لجعل شخص ما، أو حزب ما فوق الدولة وفوق المواطن، وذلك بخلاف المتّبع في الدول الديمقراطيّة وبخلاف نظريّات سياسيّة تناولها العديد من المفكّرين السياسيّين حول مفهوم القوّة السياسيّة، ومنهم هيجل Hegel الذي مجّد القوة ، إذا جاءت لجعل الدولة فوق الجميع، بل ربما فوق القانون، فأخضعت الفرد للدولة خضوعًا كاملًا ، لأن الدولة عنده تشكّل الوحدة المهمّة والأساسيّة بالنسبة له، وهي تجسّد السلطة السياسيّة وسلطة الدولة، لكنّها تبقى رغم ذلك خاضعة للقانون؛ أي أنه لا بد أن تُمارس سلطاتها التنظيميّة في ظلّ القانون، وليس ما تريده الحكومة الحاليّة من جعل حزب ما أو زعيم ما، أو توجه ما فوق القانون والمحاسبة والرقابة، وهذا نقيض الديمقراطيّة في الدول العاديّة وحتى دولة القوميّة.
في هذا السياق يحضرني قول توفيق الحكيم:" القوة هي حُسن استخدام الوسائل للغايات" ... أدركت واشنطن أن الاستقواء على بكين لن يفيدها فاتّبعت القوة الاقتصاديّة وقوة الإقناع السياسيّة والحوار الدبلوماسيّ، واقتنعت طهران بأن معاداة الجيران ومحاولة إخضاعهم وقصف منشآتهم، أو التهديد بذلك لا يفيد، فاستعاضت عنه بقوة التحالف معهم والعمل المشترك يدًا بيد، وأدركت واشنطن أن استمرار التلويح بالخيار العسكريّ بحق طهران النوويّة لم يزحزح طهران عن نواياها النوويّة، وأن الحرب ستسبب لأميركا الخسائر البشريّة والاقتصاديّة والماليّة والعسكريّة، وأن الاستقواء الاقتصاديّ على إيران لا يفيد، فاستبدلته بتفاهمات هادئة تصبّ في مصلحة الطرفين، وعجز بوتين عن فهم " حدود الاستقواء والتسلّط " فغرق في مستنقع الحرب الأوكرانيّة،
وفهمت حكومة نتنياهو أن الردّ تلقائيًّا بعمل عسكريّ على كلّ "تحرّش" من حزب الله قد يجرّها إلى حرب تسقط فيها آلاف الصواريخ على مناطقها الشماليّة والأخرى، ويصاب اقتصادها بالشلل وتتدهور مشاعر الأمن والأمان لسكانها ولمواطنيها، فرجَّحت التعقّل والقوة الدبلوماسيّة والجهود الدوليّة حتى عبر الأمم المتحدة، وعجزت نفس الحكومة عن فهم معنى الديمقراطيّة، وأنه لا ينحصر في الفوز بالأغلبيّة الانتخابيّة، فحوَّلت ذلك إلى دكتاتوريّة الأغلبيّة عبر تشريعات تنسف النظام السياسيّ والقضائيّ القائم، فواجهتها انتقادات دوليّة وخسائر اقتصاديّة وسياسيّة جعلت بعض وزرائها منبوذين ترفض الدول استقبالهم،
وحتى ترفض واشنطن حتى اليوم استقبال رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، إضافة إلى تمزيق النسيج الاجتماعيّ والإنسانيّ الداخليّ وتحويلها من دولة إلى قبائل وطوائف ومجموعات متناحرة، والفارق بسيط فالقوة هي أن تحسن اختيار الوسيلة الكفيلة بتحقيق أهدافك، وهذا عكس ما تفعله حكومة إسرائيل الحاليّة، غير آبهة لما يحدث، فالأغلبيّة عندها تعني تجيير كلّ شيء ليس لمصلحة الدولة، بل لمصلحة مركّبات الحكومة دون غيرها، بل على حساب غيرها، وعبر اقتطاع ميزانيات تقّدر بنحو 150 مليون شيكل خصّصت للمواطنين العرب ضمن خطة التطوير الاقتصاديّ، لكونهم ليسوا شركاء في الائتلاف الحاليّ، ونقلها إلى اليهود المتزمّتين أعضاء الائتلاف، بمعنى أن دكتاتوريّة الأغلبيّة هي العرف السائد اليوم... وبالتالي يسود الهدوء العالم، وترفضه حكومة نتنياهو السادسة.


















