مأساة الشعوب التضحية بالمستقبل على مذبح تكريس الحاضر

لم تكن الحلبة السياسية في إسرائيل، ومنذ اليوم الأوّل لقيام الدولة عام 1948، ساحة ميَّزها الهدوء والصفاء ، بل كانت ميدانًا لخلافات المواقف والطروحات بين القوى السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والعرقيّة.

06.04.2024 מאת: المحامي زكي كمال
مأساة الشعوب التضحية بالمستقبل على مذبح تكريس الحاضر

 

وهي صراعات تشتدّ، أو اشتدّت حدّتها في العقد الأخير خاصّة والعقدين الأخيرين عامّة، على ضوء بروز العوامل التي تؤكّد الفوارق بين المجموعات سابقة الذكر، ما ينذر بوصولها إلى مرحلة الصدام الداخليّ، أو حرب الأسباط والقبائل، ولم تكن المواقف السياسيّة المختلفة سواء كانت الداخليّة، أو الخارجيّة منها، مدار اتفاق وتوافق، بل رافقها دائمًا الشعور، أو التشكيك أنها تأتي أيضًا،

حتى لو كان ذلك بشكل غير مباشر، لخدمة أهداف مغايرة لتلك التي تقولها الحكومات المختلفة. وهو ما برز خاصّة في مواقف حكومات اليمين برئاسة بنيامين نتنياهو، ومنها العلاقة بالولايات المتحدة، ومعاداة الحزب الديمقراطيّ، والتقرّب الواضح من الحزب الجمهوريّ خاصّة في عهد دونالد ترامب، والخطاب الذي ألقاه بنيامين نتنياهو أمام مجلسي الشيوخ والنواب،

خلال رئاسة باراك أوباما حول النوويّ الإيرانيّ، خير مثال على ذلك، أو خير دليل على صدق ما قاله الراحل هنري كيسنجر السياسيّ الأميركيّ  الشهير، بأن ليست لإسرائيل سياسة خارجيّة، وإنما سياسة داخليّة فقط، وهو قول كان صحيحًا لما يتعلّق بالعالم كلّه، باستثناء العلاقة مع الولايات المتحدة حتى  الخطاب سابق الذكر عام 2015 ثمّ تغير،

ولم تكن قضية إعادة الإسرائيليّين  المدنيّين المختطفين، أو الأسرى من الجنود في الحروب التي خاضتها إسرائيل، موضع خلاف، أو تأجيل، أو مناورات سياسيّة، وصفقة تحرير الجنديّ جلعاد شاليط، مقابل 1127 سجينًا فلسطينيًّا، هي الدليل، باستثناء الحرب الحاليّة في غزة، كما لم تكن إسرائيل دولة كرّرت نفس الخطوة  أكثر من مرّة وانتظرت نتائج مختلفة، وتحديدًا تلك المتعلّقة بمحاولة القضاء على فصيل فلسطينيّ مسلح، ومحاولة تنصيب قيادات يتمّ "تفصيلها" بمقياس إسرائيليّ،  فهي التي جرّبت ذلك  وفشلت في لبنان وقبلها بوتيرة أقل في الضفة الغربيّة، لكنها ربما لعوامل تتعلّق بالسياسات الداخليّة والضيّقة تحاول تكرار ذلك في غزة اليوم.

 

 


ما قلته سابقًا يؤكّد التغيير الكبير الذي شهدته الحلبة السياسيّة الإسرائيليّة في العقدين الأخيرين، ومعظمها سنوات ساد فيها حكم اليمين ورئاسة بنيامين نتنياهو، وهو ما تعكسه ثلاث قضايا تشغل إسرائيل والمنطقة والعالم منذ عدّة أشهر، أوّلها الصدام الذي يؤكّد كثيرون أنه مقصود ومتعمّد، أو مع سبق الإصرار والترصّد بلغة القانون ، مع الولايات المتحدة برئاسة جو بايدن، بعد امتناعها عن استخدام حقّ النقض الفيتو ضد قرار مجلس الأمن الذي دعا إلى وقف إطلاق النار لفترة محدّدة، وإطلاق سراح كافة المختطفين والمحتجزين الإسرائيليّين،

 وهو صدام لم يجد له أحد أيّ تفسير عقلانيّ، أللهم إلا كونه توسيعًا لمقولة هنري كيسنجر الشهيرة تلك، لتشمل العلاقة مع الولايات المتحدة، أي أنه صدام جاء بالأساس لأسباب سياسيّة داخليّة إسرائيليّة ملخّصها رغبة نتنياهو في لملمة أطراف ائتلافه الذي يشهد منذ أسابيع هزّات تنذر، أو تهدّد بانحلاله خاصّة على ضوء قضيّة تجنيد اليهود المتديّنين الحريديم، والذين يحصلون منذ ثلاثة عقود تقريبًا، على إعفاء تامّ وشامل من الخدمة العسكريّة الإجباريّة، بعكس العلمانيّين وحتى اتباع الصهيونيّة الدينيّة،

وكذلك قضايا داخليّة أخرى تتعلّق بالمواقف التي يبديها وزراء اليمين المتطرّف، وخاصّة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، حول إعادة الاستيطان في غزة وترحيل المدنيّين وغيرها، والرفض الأميركيّ لها، وكلّها قضايا تدور في ظلّ استطلاعات الرأي العامّ التي تؤكّد أن نتنياهو يخسر الانتخابات القادمة وبفارق كبير للغاية لمنافسه بيني غانتس، وأن حزب الليكود سيتقلّص إلى أقلّ من نصف حجمه وقوّته البرلمانيّة اليوم،  بمعنى أن نتنياهو أراد الصدام مع الولايات المتحدة لتحقيق هدف سياسيّ محليّ، خاصّة وأنه يعرف أهواء مؤيّديه،

واعتقادهم أنه حامي حمى إسرائيل والوحيد الذي يمكنه الوقوف أمام القوى الخارجيّة، سواء من الخصوم ومنهم "حماس" وحزب الله والسلطة الفلسطينيّة وإيران،  أو الأصدقاء كالولايات المتحدة والدول الأوروبيّة،  أي أن سياسة نتنياهو الداخليّة، أو الائتلافيّة جعلته ، وللمرة الثانية، وإن كانت هذه المرّة أشدّ حدّة وشدّة وصرامة، ودون أيّ سبب مقنع، أو إنجازات تحقّقت، أو أراد نتنياهو تحقيقها، ناهيك عن استخدام وسائل شرق وسطيّة، كما وصفها البعض، وتحديدًا إلغاء لقاءات كانت مقرّرة مسبقًا وتصريحات رنّانة للصحافة، سواء من أقطاب الليكود ذاته،

أو من وزراء آخرين في الائتلاف الحكوميّ منهم بن غفير الذي قال في لقاء تلفزيونيّ إن دونالد ترامب هو صديق أفضل لإسرائيل، وأن ينتظر انتخابه،  ثمّ تراجع تامّ عن إلغاء زيارة الوفد الإسرائيليّ إلى واشنطن، ثمّ لقاء عبر التقنيّات التكنولوجيّة، وبعدها مصالحة بين الطرفين عرّابها وزير الأمن يوآف غالانت الذي عاد من واشنطن مؤخّرًا، وكذلك الخلاف حول العمليّة العسكريّة المتوقّعة في رفح، والتي تعارضها الولايات المتحدة وتطالب بالامتناع عنها، وهو ما عبرَّت عنه نائب الرئيس الأميركيّ كامالا هاريس، التي لوَّحت بعقوبات، أو ردود أميركيّة إذا تمت الخطوة، ليردّ نتنياهو أن العمليّة ستتم، واأنها قاب قوسين أو أدنى، وأن الخطط جاهزة,

ليعقب ذلك ،حاليًّا على الأقل، استمرار للحديث دون أفعال، ويرافقه معلومات على أن الهجوم على رفح لن يتم خلال الأيّام القادمة، فهو بحاجة إلى نحو شهرين لإخلاء نحو مليون ونصف المليون فلسطينيّ تجمّعوا في رفح، بعد إجبارهم على ترك شمال القطاع، ما يؤكّد أن نتنياهو أراد صدامًا مع الولايات المتحدة يمكنه عرضه على أنه يتعلّق بالسياسة الخارجيّة والرغبة في الحفاظ على استقلاليّة القرار الإسرائيليّ، لكنّه في الحقيقة قرار يتعلّق بالسياسة الداخليّة والرغبة في الحفاظ على الائتلاف واستعادة بعض التأييد الذي خسره خاصّة في قضية الأسرى والمختطفين، وكذلك استمرار الحرب دون نتائج تذكر، ورفض الخوض في ما سيحدث بعد انتهاء الحرب في غزة، أو ما يسميه الخبراء "اليوم التالي".

 

 


قضيّة المختطفين والأسرى الإسرائيليّين في غزة والتي يقول الخبراء استنادًا إلى تسريبات مصدرها بعض كبار المسؤولين في المجلس الوزاريّ لشؤون الحرب، حول كون نتنياهو يعرقل بشكل مقصود صفقة تبادل للمختطفين وفق شروط يقول المطّلعون إنها قابلة للتنفيذ خاصّة بكلّ ما يتعلّق بالمطالب الفلسطينيّة، أو تحديدًا الحمساويّة، بالسماح لعودة الفلسطينيّين إلى شمال القطاع، وعدد السجناء الفلسطينيّين الذين سيتم إطلاق سراحهم، وأن الاختلافات بين إسرائيل وحركة "حماس" قابلة للجسر وسدّ الفجوات، وأن عرقلة، أو تأجيل الصفقة والمماطلة فيها ، تنبع من منطلقات سياسيّة ائتلافيّة، أي سياسة داخليّة هي حسابات ائتلافيّة، تحكم السياسة الخارجيّة، أي الصفقة بين إسرائيل وحركة "حماس" بوساطة قطريّة ومصريّة وأميركيّة.

 

 

وذلك رغم أن كافّة المعطيات تؤكّد أن استمرار احتجاز المختطفين في غزة، يعني الحكم بالموت على عدد من المختطفين، خاصّة وأنه من الواضح اليوم، أن الضغط العسكريّ الذي يتغنى به نتنياهو وحكومته، قد تراجع في معظم مناطق قطاع غزة، ما يعني أنه لم يعد يشكل رافعة تستخدمها إسرائيل، أو الوسطاء من الدول العربيّة ودول العالم في محاولة لإجبار يحيى السنوار وقيادة حركته على قبول المقترحات الإسرائيليّة، وإذا ما أضفنا إلى ذلك، مضاعفة المعونات الغذائيّة والمساعدات الإنسانيّة التي تعمل إسرائيل على إدخالها، أو تلك التي تُدخلها دول العالم جوًّا أو عبر الميناء الارتجاليّ والمؤقّت في غزة، إلى الفلسطينيّين هناك،

فإن الحديث عن ضرورة القضاء على "حماس" وتدمير قدراتها على الحكم والسيطرة، كوسيلة وحيدة وواحدة لإطلاق سراح المختطفين، هو حديث لا رصيد له، كما يؤكّد أهالي المختطفين، بل إنه حديث يؤكّد أن نتنياهو يحاول المماطلة في توقيع اتّفاق لتبادل الأسرى والمختطفين، لأسباب سياسيّة داخليّة أهمّها أن الحزبين اللذين ينتميان إلى الصهيونيّة المتديّنة اليمينيّة، وهما العظمة اليهوديّة برئاسة إيتمار بن غفير وزير الأمن القوميّ،  والصهيونيّة الدينيّة برئاسة بتسلئيل سموتريتش وزير الماليّة، يهدّدان بالانسحاب من الائتلاف الحكوميّ إذا ما تم وقف الحرب حتى لو كان ثمن ذلك بقاء المختطفين، فالأهمّ في نظرهما هو القضاء على حركة "حماس"،

وإعادة الاستيطان إلى قطاع غزة، أمّا المختطفون فهم ليسوا في المكان الأوّل من حيث الأفضليّة، كما قال سموتريتش في لقاءات إذاعيّة وصحفيّة عديدة، وبالتالي فإنها سياسة داخليّة تتعلّق برغبة نتنياهو في ضمان بقاء ائتلاف ال 64 نائبًا في البرلمان، يتم تسويقه على أنه سياسة خارجيّة، تتعلّق برفض إسرائيل الخضوع لمطالب، أو ابتزازات "حماس" وقطر التي تريدها إسرائيل وسيطة لكنّها تتهمها بدعم الإرهاب وحركة "حماس" في آنٍ واحدٍ معًا، وهنا لا بدّ لإسرائيل التي تريد مواصلة الضغط العسكريّ على السنوار، أن تسأل نفسها ، ماذا سيحدث إذا ما نجحت في اغتيال يحيى السنوار قبل إطلاق سراح المختطفين؟ وهل سيعني ذلك ضمان إطلاق سراحهم، أم أنه سيعني إبقاءهم في الأنفاق لأشهر وسنوات، تمامًا كحال المواطنين هشام السيد وأفيرا مانغستو والجنديين أورون شاؤول وهدار غولدن،

علمًا أن موافقة نتنياهو على صفقات التبادل تكرّرت في الماضي، ولكن بسيناريو آخر مختلف، فقد وافق نتنياهو على صفقات لتبادل السجناء والمختطفين، أكبرها صفقة شاليط، ورافقه بشكل شخصيّ أمام الكاميرات ووسائل الإعلام، في خطوة كانت تبعاتها ونتائجها السياسيّة إيجابيّة للغاية عليه، ناهيك عن أن المعلومات التي رشحت  حينها تؤكّد أن نتنياهو كان أكثر وأكبر الداعمين، كما وافق على إطلاق سراح المئات من السجناء الفلسطينيين، إرضاءً للسلطة الفلسطينية مقابل "حماس" التي أدارت المفاوضات، ومنعًا لإنجاز حصريّ لحركة "حماس"، وهو الحال في حالات مشابهة سابقة كاستعادة جثامين الجنود الثلاثة الذين اختطفهم حزب الله، مقابل مئات الأسرى اللبنانيّين والفلسطينيّين وجثمان نجل حسن نصر الله، زعيم الحزب. 

 

 


 استمرار الحرب في غزة، دون وضوح أهدافها من حيث الأولويّة، أي ترتيبها وفق الأهميّة، بمعنى أيهما الأول وهل هو إبادة "حماس"، أم استعادة الأسرى، أم ضمان أمن المستوطنات والبلدات في الجنوب عبر اتفاق سياسيّ بغطاء دوليّ، ناهيك عن عدم   الحديث عن اليوم التالي، ودون إيكال مهمة إدارة الشؤون في غزة بعد انتهاء الحرب إلى جهة معروفة وواضحة لها تجربتها وتحظى بالدعم والشرعيّة، وليس محاولة خلق، أو تنصيب قيادات جديدة قبائليّة، أو عشائريّة،

هو دليل على أن إسرائيل لم تتعلّم العبر التاريخيّة من محاولات سابقة مماثلة، أو من وضع أهداف فضفاضة للحرب هي أقرب إلى الشعارات منها إلى الأهداف الواقعيّة، خاصّة الحديث عن احتمال البقاء عسكريًّا وأمنيًّا في القطاع لسنوات طويلة، وهي أهداف تبدو مشابهة إن لم تكن مطابقة تمامًا لأهداف تم وضعها قبل حرب انتهت في مثل هذا الشهر قبل 49 عامًا، وتحديدًا في الثلاثين من نيسان أبريل 1975، بعد أن دارت رحاها قرابة 20 سنة، علمًا أنها بدأت في تشرين الثاني ، 1955وهي حرب فيتنام التي دخلتها الولايات المتحدة متسلّحة بكلّ ما لديها من عتاد عسكريّ وقوّة ضاربة ، فلأهداف هنا في غزة وهناك في فيتنام متشابهة إلى حدٍّ يثير الخوف من سيناريوهات متشابهة ، فإسرائيل دخلت هذه الحرب واضعة أهداف كانت كالتالي، كما أعلن رئيس وزرائها، أولها القضاء على قيادة حركة "حماس" وإنهاء حكمها لقطاع غزة، بمعنى وضع حدٍّ لهيمنتها على القطاع وحياة مواطنيه، وتدمير البنية التحتيّة العسكريّة لها، وتحرير كافّة الرهائن الإسرائيليّين المحتجزين في قطاع غزة، ومحاولة خلق تحرّك سكانيّ بين غزة وسيناء يؤدّي ربما إلى تقليل عدد السكان في غزة، وتوطين بعضهم في سيناء، وإشراك دول عربيّة وأوروبيّة في إعادة إعمار غزة وإنعاشها اقتصاديًّا (سنغافورة الشرق الأوسط!!)أما الأهداف الأميركيّة من حرب فيتنام، فهي متشابهة للغاية، حيث كانت وقف الهيمنة الشيوعيّة،

السياسيّة والعسكريّة، على جنوب فيتنام. ومحاولة خلق نظام بديل تعتبره الولايات المتحدة أفضل لها وأقرب، وتريده مجتمعًا ديمقراطيًّا قابلًا للحياة، وتنفيذ سلسلة من النشاطات والأعمال والتحرّكات الاقتصاديّة والعسكريّة والسياسيّة لتحقيق هذا الهدف،  وهي تجربة لا بدّ من دراستها ، إذا أرادت دولة ما، أو قيادة ما ، عدم الوقوع في الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة ، والتي أدّت إلى انتهاء تلك الحرب كما انتهت إليه، وأقصد هنا هزيمة الولايات المتحدة وجيشها الجرار أمام جيش من مقاتلي العصابات أو الحركات المسلحة، ومقتل 58000 جندي أميركي مقابل 1.5 مليون فيتناميّ، ودون تحقيق أيّ من الأهداف التي وضعتها الولايات المتحدة، بل بالعكس حيث انتهت الحرب  التي استمرّت أكثر من عشرة آلاف يوم، بأن نالت فيتنام حريتها من الاستعمار الفرنسيّ، وأعادت توحيد شقّيها الشماليّ والجنوبيّ في دولة واحدة، أي أن النهاية تؤكّد أنه تم إسقاط المشروع الأمريكيّ، الذي هدف إلى إبقاء الانقسام الفيتناميّ  وتكريس دولة فيتنام الجنوبيّة كمعقل أمريكيّ فرنسيّ،  في قلب الهند الصينيّة، وهذا ما ورد في كتاب" نظرة إلى الوراء" الذي وضعه  روبرت ماكنمارا وزير الدفاع في عهد جون كنيدي الرئيس الأميركي،  والذي حاول شرح أسباب فشل المشروع الأمريكيّ، وعدم تحقيق الأهداف التي وضعتها الإدارة الأمريكيّة، ملخّصها أنه لا يمكن لأيّ دولة أن تحقق النصر في الحرب، إذا خاضت حربًا، أو حروبًا  متواصلة ومتكرّرة، دون فهم عقلية ومنطلقات الطرف الآخر،

رغم عدم قبولها، وفهم الهدف الذي يقاتل  العدو من أجله، وكيف يقاتل، وما مدى استعداده لتحمّل الصعاب ونتائج الحرب، وهل هناك خيارات أخرى أمام الطرف الآخر، بمعنى هل تعني الحرب "وضع العدو في الزاوية وسدّ الطرق أمامه ما سيجعله أشدّ مقاومة"،  وخلاصة ما كتبه هو أنه دون فهم الخصم والعدو لن تتمكن من وضع استراتيجيّة لمحاربته والانتصار عليه، والاستراتيجيّة تشمل كافّة الجوانب العسكريّة والسياسيّة والعملياتيّة، وليس ذلك فحسب، بل الحالة الذهنيّة والخلفيّة الحضاريّة للحرب، خاصّة إذا كان أحد طرفيها جماعات مسلّحة تعمل ضمن جماعات سكانيّة، كحال "حماس" اليوم في غزة، والحال في جنوب لبنان، خلال سنوات تواجد إسرائيل في جنوب لبنان والتي انتهت في أيار عام 2000، بعد سنوات من الغوص في الوحل اللبنانيّ، فاستنتاجات ماكنمارا تمثّل  حتى اليوم واحدة من أهم المرجعيّات التي يستند إليها دارسو  التاريخ السياسيّ والعسكريّ، وخاصّة الدمج بين العسكريّ والسياسيّ لتحقيق أهداف معيّنة وقضيّة الإنفاق الدفاعيّ، إضافة إلى أنها مرجع هامّ في قضيّة محاولة  تشكيل قيادات عسكريّة جديدة لمناطق مختلفة حول العالم، وتعزيز الحلفاء، الحقيقيّين أو الوهميّين، حيث يقول ماكنمارا أن واحدًا من أسباب فشل  الولايات المتحدة في فيتنام يكمن في التفاوت الكبير والشاسع بين الإرادة والصبر والقدرة على التحمّل، لدى  الطرفين الرئيسيّين في الحرب، أي  الولايات المتحدة وفيتنام،  وتحديدًا جبهة التحرير الفيتناميّة وشمال فيتنام، وحركة "حماس" وإسرائيل في حالتنا الحاليّة،  عدا عن الضعف الاجتماعيّ والسياسيّ في فيتنام الجنوبيّة ما يجعلها كيانًا غير قابل للحياة. وهذا ما يشير إليه كثيرون في حالة الحرب الحاليّة في القطاع، فالقطاع هو منطقة غير قبلة للحياة بقواها الذاتيّة، أما مفاهيم الصبر والتحمّل والاستعداد لدفع الثمن وتحمّل ويلات الحرب، فيختلف بين شقّي وطرفي الحرب الحالية، إضافة إلى أن أميركا اعتمدت في حربها المذكورة على استخدام القوّة العسكرية  فقط واثقة من أن الطرف الآخر لن يستطيع الصمود أمامها، فلم تضع الولايات المتّحدة أبدًا استراتيجيّة ملائمة للحرب التي كانت تقاتلها، وافترضت  أن  قوّتها العسكريّة ستكون كافية ، وأن الأهمّ هو النصر العسكريّ ثمّ البقيّة تأتي،  ويقينًا أنه لو كانت الحرب تلك في فيتنام تقليديّة، أيّ بين جيشين لاستخدمت الولايات لمتحدة مواردها العسكريّة بكافّة طاقتها. وخلاصة القول في حرب فيتنام، أنها شكّلت وفق أدبيتها، التي بحثت الفشل الذي منيت به الولايات المتحدة الأمريكيّة، ومن قبلها فرنسا، في تحقيق أهداف الحرب، نموذجًا حيًّا للحركات المسلّحة في العالم، ومن جميع التيّارات السياسيّة والأيديولوجيّة، لحالةٍ فيها يواجه  خصم  ضعيف  دولة قويّة، دون أن تحقّق الدولة النصر التام.

 


وعود على بدء، وتحديدًا عدم وجود سياسة خارجيّة إسرائيل، بل سياسات داخليّة فقط، وأقصد هنا علاقة دولة إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة، بيهود الشتات عامة والولايات المتّحدة خاصة،  والتي انعكست في الخلافات في المواقف السياسيّة من حيث تأييد اليهود في أميركا للحزب الديمقراطي مقابل دعم إسرائيل للحزب الجمهوريّ، والخلافات حول قضايا دينيّة تتعلّق بحريّة العبادة والخلافات بين التيارات الدينيّة المعتدلة، وهي الغالبيّة العظمى من يهود الولايات المتحدة، واليهود المتزمّتين الحريديم، وهو الأقلية بين يهود أمريكا،  وكذلك أمر العلاقة مع اليهود في أوروبا وروسيا من أتباع التيارات الإصلاحيّة اليهوديّة المعتدلة، فهي علاقة خارجيّة  تحكمها السياسة الداخليّة وتحديدًا كون الأحزاب المتديّنة المتزمّتة، مشارِكَةً دائمةً في الائتلاف الحكوميّ وخاصّة في العقود الأخيرة التي يتولّى فيها بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة، وبالتالي فهي الأحزاب التي تتحكّم في سياسة الدولة وميزانياتها وعلاقتها بيهود العالم، وإقصائهم باعتبارهم "يهود غير كاملين"،

أو أنهم اعتنقوا اليهوديّة، ليس وفق ما تريده قياداتهم الدينيّة، ناهيك عن الاختلاف في التوجّهات والمواقف السياسيّة،  وهو ما تعكسه التشريعات التي تحاول الحكومة الحاليّة إقرارها والتي تعزّز سيطرة الجهات الدينيّة المتزمّتة، وبعضها لا يعترف بدولة إسرائيل، وتقييد الحرية الدينيّة لليهود المعتدلين ومنع اتّساع تواجدهم، عبر تشريعات تفرض قيودًا غير معقولة على إمكانيّات اعتناق الديانة اليهوديّة، وانتخاب الحاخامين وتشريعات الأحوال الشخصيّة، وختامها محاولة الحكومة الحاليّة سن قانون يعني عمليًّا، وبشكل تامّ، إعفاء الشبّان اليهود المتديّنين من التيارات المتزمّتة،

من واجب، أو فرض الخدمة العسكرية الإلزاميّة، وأعدادهم تبلغ عشرات الآلاف من الملزمين بالخدمة العسكريّة،  لمجرّد أنهم يدرسون في المعاهد الدينيّة، وليس ذلك فحسب بل تمويل دراستهم ومنحهم ميزانيّات هائلة، وإقامة مدن خاصّة بهم منها ما هو في الضفة الغربيّة والجليل والنقب، بعكس المواطنين العرب الذين لم تقم الدولة أيّ مدينة، أو بلدة خاصة بهم منذ العام 1948، وأنظمة أخرى تعني بقاءهم في هذه المعاهد حتى سن 35، ما يعني فقدانهم أي إمكانيّة للانخراط في سوق العمل والصناعات خاصّة وأنهم لا يدرسون الرياضيّات، أو اللغة الإنجليزيّة والتقنيّات،  بالمقابل تمديد فترة الخدمة العسكريّة للجنود النظاميّين وفترات الخدمة الاحتياطيّة. وهي تشريعات أعادت إلى الحياة اقتراحات بفرض الخدمة المدنيّة على المواطنين العرب كبديل للخدمة العسكريّة، واشتراط الحقوق  المدنيّة الكاملة، ومنها مخصّصات الضمان الاجتماعيّ والتأمين الوطنيّ والحق في التصويت والترشيح،

ومخصصات الأطفال والتعليم والعمل وغيرها، بالواجبات كلّها ومنها الخدمة العسكريّة، أو المدنيّة كبديل عنها، علمًا أن الحكومة الحاليّة ورئيسها خاصّةً يريد بقاء الحريديم ضمن حكومته مهما كلّفه ذلك من ثمن، وحتى لو كان ذلك، إعفاء مجموعة يهوديّة تشكّل اليوم 20% من السكان وستشكّل مع نهاية العقد الحالي نحو 33% منهم، من واجبها في الخدمة العسكرية والتنازل مع سبق المعرفة، عن مشاركتها في سوق العمل والصناعة والأكاديميا ، ناهيك عن إبقائها فقيرة تثقل كاهل الاقتصاد الإسرائيليّ تعتاش على مخصّصات الضمان الاجتماعيّ جيلًا بعد جيل. 

 


خلاصة القول: سياسات خارجيّة تتعلق باستمرار الحرب ، وصدام مع الولايات المتحدة،  ورفض لأيّ مقترح أوروبيّ وأمميّ لوقف الحرب ومماطلة في توقيع صفقة لتبادل الأسرى والمختطفين، وصدام مع الهيئات الدوليّة التي تقدّم المساعدات الإنسانيّة، تحرّكها وتحدّد معالمها سياسات داخليّة منها الرغبة في بقاء الائتلاف الحاليّ وتفويت نتنياهو فرصة كانت سانحة لإعادة ترتيب صفوف اليمين، وضمّ أفيغدور ليبرمان إلى الائتلاف الحكوميّ، وتوجّه إلى عدم إغضاب بن غفير وسموتريتش عبر صفقة تبادل يرفضانها، ومحاولات لشرعنة وقوننة عدم تأدية الخدمة العسكريّة من قبل الشبّان اليهود المتزمّتين،

عبر إعفاء تامّ، وتوجّهات سياسيّة داخليّة تتعمّد "إدخال المواطنين العرب" كعنصر في معادلة ليسوا جزءًا منها، بمعنى مطالبتهم بالخدمة العسكريّة، أو المدنيّة لشرعنة إعفاء الحريديم، أو ربما وهنا المفارقة، استعانة الائتلاف الحاليّ، بالنواب العرب، الذين كان وجه لهم أقذع الشتائم والتهم بالخيانة والعمالة والعداء للدولة، واعتبر مشاركتهم في الائتلاف السابق بيعًا لكافّة القيم اليهوديّة والصهيونيّة، لتمرير قانون يعفي المتديّنين المتزمّتين من الخدمة العسكريّة، عبر ضمان تغيب النواب العرب خلال التصويت باعتبار أن قضية الخدمة العسكريّة هي يهوديّة صرفة ولا تعنيهم، وتجاهل للعبر التاريخيّة،

التي لا تشكّل رسمًا لطريق المستقبل، لكنها تساعد في فهم أخطاء الماضي وتفاديها مستقبلًا، كما قال الفيلسوف الألمانيّ فريديرخ هيغل،   وتجارب الماضي حول حروب "غير تقليديّة" لم تنجح فيها الدولة في فر ض إرادتها ونصرها على الخصم إذا كان جماعة مسلّحة، فالنصر كما وصفه الجنرال كارل فون كلاوزفيتش، هو باختصار فرض رغبة وإرادة المنتصر على الخصم والعدو، في صورة ترسم حالةً تستوجب إعادة التفكير، وتتّسم بانعدام التدبير والركون إلى ما كان ومُنِيَ بالفشل في الماضي وربما أكثر من مرة، والرجاء أن يُصْلِح ما سيكون في المستقبل. وباختصار، سياسات إقليميّة تتبعها إسرائيل وحركة "حماس" وكذلك حزب الله، قال فيها باولو كويلو، الروائيّ والقاصّ البرازيليّ:" أنا لا أعيش في الماضي ولا في المستقبل ..أنا لا اهتم إلا في الحاضر"، وإذا كان الحال كذلك، لا بدّ من السؤال ما إذا كانت القيادات قد حسمت أمرها، وقرّرت التضحية بالمستقبل على مذبح تكريس الحاضر وتجاهل عبر الماضي؟.

 

תגובות

מומלצים