حرب أكتوبر 2023 العبر والدروس

لم تتوقّف الحرب في الجنوب، والتي بدأت صباح السبت السابع من تشرين الأوّل 2023، بل لم تخفت حدّة أزيز الطائرات ودوي المدافع وأصوات الدبّابات، أو محاولات الجيش الإسرائيليّ استكمال تلك العمليّة في عدد من مستوطنات المنطقة المتاخمة للحدود مع قطاع غزّة، والتي يسمّيها الإسرائيليّون " تمشيط المنطقة والتأكّد من خلوها من مسلّحي حركة حماس".

14.10.2023 מאת: المحامي زكي كمال
حرب أكتوبر 2023 العبر والدروس

 

ويعتبرها الفلسطينيّون الدليل على أن مسلّحي حركة حماس استطاعوا السيطرة، ولو لساعات، أو يومين على هذه المستوطنات ودحر الجيش الإسرائيليّ منها بمعنى تحريرها وفق القاموس الفلسطينيّ"، وللتسمية هنا دلالات سنعود إليها، حتى تسيّدت الموقف سلسلة من التعابير والأوصاف تؤكّد كلّها  أنّ ما حدث هو يوم أسود، أو أنه حرب أكتوبر الثانية،  وأنها مفاجأة كبيرة كشفت عدّة عيوب وإخفاقات، إلا أن معظم، بل كلّ هذه التعابير والتي جاءت خلال،  بل في أوج عمليّة عسكريّة، أو حرب. وبينما أصوات المدافع والبنادق والطائرات ما زالت تعمل، وبخلاف ما كان سائدًا في السابق من ترك الانتقادات والتحفّظات والأسئلة الملحّة حول الإخفاقات، ومن المسؤول عنها إلى ما بعد الحرب،

 

وفق القول السائد" للحرب وقتها  وللانتقادات وقتها وهما ليسا سيّان" في تأكيد آخر على أن ما حدث يفوق التصوّر والتوقّعات بل أسوأها، معظمها كانت"صادرة من  البطن" وفق التعبير الإسرائيليّ السائد، أي بفعل الغريزة والعواطف، وليس من صميم العقل، وبعد تفكير ممحّص وعميق، تطرّقوا في أحسن الحالات إلى " ضرورة ردّ الصاع صاعين "، والضرب بيد من حديد وتعليم، أو تلقين "حماس" درسًا لا تنساه وهدم حركة "حماس" وحكمها  لقطاع غزة، أو تسوية غزة بالأرض، واغتيال قادتها في غزة والخارج، وغيرها من التعبيرات التي تطالب مرّة أخرى لن تكون الأخيرة،  بتكرار نفس الفعل وتوقّع نتيجة مغايرة ومختلفة، وهي ردود تؤكّد عدم نضوج القيادة الإسرائيليّة الحاليّة من جهة وقيادة حركة "حماس" من جهة أخرى، لاستنتاج العبر الصحيحة وقبلها طرح الأسئلة الصحيحة واللازمة،   التي تؤدّي ربما إلى تغيير " نهج التفكير والتوجّهات "، وبالتالي تغيير الوضع القائم بشكل يعني تحسين الأوضاع إلى الأفضل، أو تكريسها إلى الأبد وليكن ما يكن، 

 

 

فالاتفاق يسود حول كونها  مفاجأة تكاد تشبه ما حدث قبل 50 عامًا ويوم واحدٍ بالتمام والكمال، في حرب رمضان أو حرب يوم الغفران، رغم الفارق الكبير في حجم القوّات وعتادها، فاللحظات الأولى لحرب أكتوبر 1973  بهدم خط بارليف وهو الخطّ الدفاعيّ الذي اعتقد الجميع، بل أقنعوا أنفسهم بأنه غير قابل للتجاوز أو الاختراق، مقابل اللحظات الأولى لأكتوبر 2023 والتي بدأت  باختراق الجدار الحدوديّ الفاصل بين إسرائيل وقطاع غزة، والذي استثمرت إسرائيل فيه مليارات الدولارات، وتباهت أمام العالم أجمع،

 

بأن عقبة لا يمكن تجاوزها واجتيازها، وأنه وضع حدًّا نهائيًّا لمحاولات مسلّحي حركتي "حماس" أو الجهاد الإسلاميّ"    دخول الأراضي الإسرائيليّة، لكونه يشمل عائقًا تحت أرضيّ، بعمق عشرات الأمتار يحول دون وجود، أو وصول أي نفق إلى الأراضي الإسرائيليّة، ليتّضح العكس، ناهيك عن أن كافّة الرسائل التي كانت قائمة قبيل أكتوبر 2023، أشارت إلى قرب العمليّة العسكريّة مع "حماس" عبر تدريبات عسكريّة واضحة ومتوالية شملت محاكاة واضحة وتامّة لما حدث، ورغم تحذيرات البعض من أخطار تلك التدريبات،  إلا أن الحكومة الحاليّة، تمامًا كما تلك التي حكمت في إسرائيل عام 1973، برئاسة غولدا مئير، رفضت الإصغاء، بل واصلت تكرار "عبارات تعبّر عن المنشود والمرجو" بدلاً من قراءة العنوان المكتوب على الحائط، فرفضت تلك التحذيرات، كما رفضتها الاستخبارات العسكريّة، والتي أصرّت ربما إرضاءً للقادة السياسيّين في حكومة " اليمين مئة بالمئة"   والذين أرادوا أن يثبتوا للجميع ما لا يؤمنون به هم، من أنهم ردعوا حركة "حماس"، وأن الحركة تريد فقط السلامة.

 

 

 الأسئلة كثيرة حتى في السياق السابق، والذي اعتبره تحليلًا مندفعًا ومتسرّعًا إن لم يكن سطحيًّا للحالة الراهنة، فكثيرون في الإعلام والسياسة وبين المواطنين العاديّين، يكرّرون الأسئلة التي تعبر في أغلب الأحيان أنهم كقادتهم في الحكومة والجيش يواصلون حالة الإنكار غير المسبوقة، والتي تبدأ بعدم القدرة ليس فقط على فهم ما حدث ،بل عدم الجرأة على طرح الأسئلة الصحيحة من منطلق أن طرحها بصراحة ووضوح يعني كشف الحقيقة،

 

وأعني حقيقة كون إسرائيل بحكوماتها المتعاقبة منذ التسعينات في القرن الماضي، تواصل "صيانة" علاقات خاصّة ومميّزة، بل غريبة ومستهجنة مع حركة "حماس" جعلتها تكرّر مرة تلو الأخرى، المواجهات العسكريّة، أو الحملات العسكريّة لأكثر من عشر مرات منذ 2005، تنتهي إلى "تهدئة أو تسوية أو هدنة" يقبلونها لأسبابهم وهم  يعلمون  حقّ العلم ويعرفون حقّ المعرفة، وحركة "حماس" مثلهم تمامًا ، أنهم لم ينتصروا فيها، وصولًا إلى ما نحن عليه اليوم من وضع غير مسبوق، وتأكيد من طرفي النزاع على أن ما سيتبعه سيكون غير مسبوق. ولعلّ "أوّل الغيث" أو " الدليل الدامغ"،

 

أو " الخطوة الأولى التي ترسم  معالم الطريق، أنها المرة الأولى منذ 50 عامًا، أي منذ تشرين الأوّل عام 1973، التي تعلن فيها إسرائيل  "حالة الحرب"، في قرار اتّخذه رئيس الوزراء بناميين نتنياهو، ربما استباقًا للجنة تحقيق رسميّة ستقوم لا محالة إذا أرادت إسرائيل استخلاص العبر، وليس طمس الحقيقة تحت غبار الطاعة الائتلافيّة العمياء، في تعبير واضح  عن إدراكه لعمق ضائقته الشخصيّة، باعتباره في نظر الكثيرين حتى من أنصاره ومصوّتيه وناخبيه، من يتحمّل المسؤوليّة الأولى حتى أن هناك من يطالبه اليوم بالاستقالة مع وزير أمنه يوآف غالانت، ورئيس أركان جيشه الجنرال هرتسي هليفي، وذلك بخلاف المرّات السابقة، ومنها حرب لبنان الاولى عام  1982، وهي حرب " سلامة الجليل " في العرف الإسرائيليّ، أو حرب لبنان الثانية عام 2006 والتي تلت اختطاف الجنود الإسرائيليّين في منطقة مزارع شبعا، وانتهت إلى لجنة تحقيق رسميّة هي لجنة  فينوغراد التي ترأسها القاضي إلياهو فينوغراد، والسؤال البدهيّ هو ليس ما  المختلف هذه المرّة  على الأرض وفي الميدان،

 

كي يتم إعلان حالة الحرب، التي وفق قانون أساس الحكومة في إسرائيل، تمكين بل تفويض الحكومة وبالأحرى رئيسها، صلاحيّة مطلقة تتمثّل في اتّخاذ خطوات شهدتها إسرائيل للمرّة الأخيرة كما قلنا عام 1973، ومنها استدعاء قوات الاحتياط دون تحديد الأعداد، إضافة إلى توفير  جميع الموارد للجيش بما في ذلك احتمال تخصيص ميزانيّة خاصّة تقدر بمليارات، بل عشرات مليارات الدولارات لشراء أسلحة من الولايات المتحدة، التي منح رئيسها  جو بايدن إسرائيل الضوء الأخضر لعمليّة عسكريّة واسعة انطلاقًا من حقّها غير القابل للنقض، حسب أقواله، في الدفاع عن نفسها وعن مواطنيها وأمنهم، - كما حدث في أكتوبر 1973 والقافلة الجويّة التي نقلت الأسلحة المتطورة من أميركا الى إسرائيل، فقلبت موازين الحرب، وأعادت للجيش الإسرائيليّ الحياة، علمًا أن هذا الإعلان هو  تأكيد على استمرار نهج" الغطرسة الإسرائيليّة المبنيّة على القوّة العسكريّة دون غيرها" ، كما أنها إشارة إلى عمق وقوّة الصدمة التي سبّبتها العمليّة  العسكريّة،  والتي سمتها "حماس" باسم "طوفان الأقصى" والتي دعت رئيس الدولة يتسحاك  هرتسوغ، إلى الاعتراف بأن دولة إسرائيل تعيش أوقاتًا عصيبة، خاصّة على ضوء الأعداد غير المسبوقة من القتلى والجرحى والمختطفين من إسرائيل إلى غزة من رجال ونساء ، وحتى أطفال ورضّع .

 

 

لا بدّ من السؤال والتساؤل، بل الاستهجان والاستغراب حول الفائدة من هذه الحرب، ومن المستفيد من ذلك وأيّ ربح يحقّقه مختطفو الأطفال وقتل العُزّل من السلاح والنساء والرجال المسنيّن والشباب والشابات ، أو سلب بعض الممتلكات من بيوت المستوطنين، ما يؤكّد بخلاف ما يقال،  وبخلاف نشوة النصر المؤقّت التي تعيشها حركة "حماس" وأنصارها ، الادّعاء بأن " حماس " خطّطت الهجوم واستطاعت التمويه والتضليل، وأقنعت  إسرائيل بأنها لا تريد الحرب، نسيت أو تناست التخطيط لمجرياتها  ونتائجها، أي أنها خاضت مرة أخرى حربًا  بلا فائدة، وبدون هدف استراتيجيّ يصبّ في مصلحة الشعب الفلسطينيّ،  وإنما لتحقيق مصالح خاصّة بالفصيل، ومن خلفها إيران وأتباعها، وهي حرب يمكن تعريفها على أنها حرب متاجرة لأن من يقف خلفها لا يحمل خطّة، أو مشروعاً حقيقيًّا أو مدروسًا بعيد المدى، بل مغامرة تستحوذ الاهتمام الإعلاميّ لمدّة قصيرة، ويخلق الله بعدها ما  لا تعلمون.

 

 

الأسئلة حتى في هذه المرحلة، وإيقانًا مني أن أحدًا لا يمكنه في هذه المرحلة رسم خطوط وصورة ما يحمله المستقبل القريب، وكم بالحري البعيد، كثيرة ومتعدّدة، لكنها في نظري، وكما تمّ طرحها لا تستوفي الشروط اللازمة سياسيًّا ومبدئيًّا بمعنى أنها أسئلة تكتفي بالتحليل والشرح والبحث ربما عن تفسير لحدث،

 

أو تفصيل معيّن دون الأخذ بعين الاعتبار الصورة الكاملة،  والأخطر من ذلك أنها في مجملها أسئلة تختلف لهجتها وحدّتها باختلاف موقع وموقف سائليها، ما ينذر ربما بأن " تضيع الطاسة"، وأن تختفي الحقيقة في غابة كثيفة من الأسئلة والتساؤلات، أي أن تنتهي موجة الاستفسارات والأسئلة إلى الاكتفاء بتحليل ما حدث دون الغوص، أو الخوض في عباب التحليل الشجاع والصريح للواقع، والمطالبة بطرح أسئلة تتمّ صياغتها بلهجة جديدة لا تكتفي بالتساؤل، بل تتعداه إلى الإشارة بالبنان ، رغم أن طبول الحرب ما زالت تقرع، إلى أن الحرب الحالية بنتائجها المرحليّة والنهائيّة رغم أنها لم تتّضح بعد، لكن معالمها واضحة، تجيء لتشكّل تذكيرًا مؤلمًا وقاسيًا يأمل الجميع أن لا يتكرّر بالعبر الواضحة، بل المفروغ منها سياسيًّا وعسكريًّا وأمنيًّا ودبلوماسيًّا ،

 

التي كنت أشرت إليها في مقالاتي السابقة، والتي ترفض القيادات في الطرفين  وأقصد قيادات حركة "حماس" ومعها " الجهاد الإسلاميّ " من جهة، وهي التي تحكم قطاع عزة وتسيطر عليها ما يجعلها كيانًا مستقلًّا منذ العام 2006 دون أن تعمل على خلق إمكانيّات للعيش والعمل والحياة، والحكومة الإسرائيليّة الحاليّة خاصّة بتركيبتها اليمينيّة المتطرّفة التي تقدَّس القوّة والمزيد من القوّة، وتنتهج نظريّات الفوقيّة والسيادة اليهوديّة العرقيّة والدينيّة، وترفض أيّ حلّ سياسيّ للقضيّة الفلسطينيّة، بل تسعى إلى وأدها نهائيًّا وضمّ الضفة الغربيّة وإقامة المزيد من المستوطنات والاستيلاء على الأراضي الفلسطينيّة، وهي حقائق مفروغ منها بحكم التجربة التاريخيّة والمنطق السياسيّ وطرق الحكم ومقوّمات السلطة،

 

ترفض القيادتان  التفكير فيها انطلاقًا  وإعادة الحسابات حولهاـ بل الاعتراف بوجودها أصلًا، وذلك من القول المعروف إن معظم الناس والقيادات تفضّل الموت على التفكير،  وأن إعادة التفكير في السياسات والتوجّهات تشمل شئنا أم أبينا، اعترافًا ضمنيًّا على الأقلّ، إن لم يكن علنيًّا كما قال الرئيس المصري أنور السادات في حينه وخلال زيارته لإسرائيل، بخطأ المواقف والتوجّهات  السابقة وبعدم جدواها، وهي حالة من حساب الذات يرفضها السياسيّون رغم أنها تجنّبهم المساءلة والمحاسبة لو فعلوها عملًا بقول عمر بن الخطَّاب:" حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنُوا أنفسكم قبل أن توزنوا" ، فالحرب الحاليّة وهي الأولى في تاريخ إسرائيل التي يدور رحاها داخل الأراضيّ الإسرائيلية، تؤكّد مرّة أخرى العبر التي نسيتها وتجاهلتها  وربما تعامت عمدًا عن رؤيتها  حكومات بنيامين نتنياهو،

 

منذ عام 1996 وحتى اليوم أي حكومات اليمين، خلافًا للحكومات في عهد مناحيم بيغن وإسحق رابين،  وملخصها أن الجدران الفاصلة والتحصينات الحدوديّة والدوريّات المصفّحة والجدران العازلة مهما بلغت تكاليفها، ومهما تقدّمت وتطوّرت تحصيناتها، لا تضمن الهدوء والأمن والأمان، بل إن السلام هو الوحيد الذي يضمن ذلك ولنا وللحكومة الإسرائيلية الحالية وسابقاتها من التاريخ عبرة ملخصها اتفاقيات السلام بين مصر والأردن وإسرائيل، وأن الغطرسة الأمنيّة والتي تعيشها اسرائيل منذ انتهاء حرب حزيران عام 1967، وما  رافقها من نشوة كرَّست الاعتقاد بأن القوة العسكريّة، هي الحلّ لكافّة المشاكل وهي الضمان للتفوّق والغلبة، بعكس ما أثبتته التجارب التاريخيّة في القرنين الأخيرين، وهو اعتقاد ما زال سائدًا حتى اليوم أكّده الناطق بلسان الجيش الإسرائيليّ خلال تصريحاته، حين أشار إلى أن الجيش الإسرائيليّ استطاع إبادة وقتل مئات من مسلّحي "حماس"،

 

وأن طائراته هدمت مباني في غزة وغيرها، وبالتالي فإن عشرات المسلحين تم دفنهم تحت الأنقاض،  وتناست إسرائيل أن مواصلة احتلال منطقة ما لا يعني بأي شكل من الأشكال تخلي أبنائها عن تطلّعاتهم التاريخيّة والسياسيّة والرغبة في كيان مستقلّ، وأن سياسة القمع والكبت والحصار والمصادرة التي تصل حدّ الفصل العنصريّ، لا تقتل المشاعر الوطنيّة، ولا تجعل أبناء البلاد وأصحاب الأرض، مناصرين محبّين للمحتل يصفّقون له ويسجدون، بل إنها تزيد فقط وبشكل مضطرد من مشاعر الكراهية والحقد والرغبة في الانتقام، وأن محاولة تجاوز شعب كامل  واعتباره في خانة المفروغ منه ضمنًا بسبب ضعفه ،

 

وأنه يمكن فرض الحلول عليه وإقناعه بأنه " من الأفضل له" قبول المال والميزانيات بديلًا عن الطموحات الوطنيّة والكيان السياسيّ والاستقلال وليس ذلك فقط ، بل إنها تفعل ذلك عبر وسطاء ووكلاء اختارتهم هي على مقاسها ومقياسها، سواء كان ذلك عبر اتفاقيات أبراهام، أو التطبيع ما كان منه وما سيأتي، وأنها نسيت أن هناك في الجوار من يطالب بما طالب به اليهود عشرات السنوات من إقامة كيان مستقل وبيت قوميّ وهو ما أيّده العالم والأمم المتحدة التي تضرب حكومات إسرائيل قراراتها عرض الحائط، كما نسيت أحزاب الحكومة الحاليّة، وهي نفسها أحزاب المعارضة للحكومة السابقة، والحكومات السابقة برئاسة بنيامين نتنياهو، أن تحطيم كافّة المُسَّلمات وتقزيم  كافّة أجهزة الدولة، ومحاولة تطويع  كافة مؤسّساتها وفي مقدّمتها الجيش والشرطة وأجهزة الأمن الأخرى كالشاباك والموساد وجهاز القضاء والمستشارين القضائيين والمسؤولين في كافّة المناصب، بل تخوينهم ودمغهم بصبغات سياسيّة، وهو ما يتواصل بشكل أشدّ وأعتى في عهد الحكومة الحاليّة عبر اتهام قادة الجيش والشرطة والموساد وغيرهم، بالعداء للحكومة الحاليّة والتعاون مع "اليساريّين والفوضويّين"،

 

وما بدأت ملامحه منذ الساعات الأولى للمواجهة الحالية من تلميح إلى "خيانة قادة في الجيش" ، يعني إضعاف هذه المؤسّسات والهيئات وفقدانها الثقة بنفسها، ويجعلها وأن أنكر رؤساؤها ذلك، رهينة مخاوف وتردّدات وشكوك، وأن تغيير سلّم الأولويات وتفضيل  الفئويّة والحزبيّة على المصلحة العامّة عبر تحويل الميزانيّات للشركاء في الائتلاف الحكوميّ وخاصّة المتديّنين والمتزمّتين منهم والمستوطنين، بدلًا من استثمارها في دعم المؤسّسات في بلدات غلاف غزة وتحصين قوّات الأمن هناك، وتحصين المنازل وبناء مراكز طبية أوليّة لتقديم العون والعلاج.

 

 

وإن نقل وحدات من الجيش وحرس الحدود من الجنوب والشمال إلى الضفة الغربيّة استجابة لنزوات وزيرين في الحكومة وأعضاء حزبيهما، لحماية المستوطنين  وربما لحماية الفلسطينيّين المدنيين من اعتداءاتهم، وضمان مواصلة المستوطنين السيطرة على الأراضي الفلسطينيّة، على حساب أهداف واحتياجات عسكريّة أخرى يجعل الجبهات الأخرى ضعيفة، وأن إضعاف الشرطة المستمر منذ سنوات، ومحاولة إخضاعها لهواء السياسيّين وتنفيذ تعليماتهم وجعلها أداة طيعة لهم تساعدهم في قمع الاحتجاجات واعتقال المعارضين ،

 

وتحويلها الى جهاز ينشغل  بالصغائر كإلقاء التحية على الوزير فقط دون غيره، والانشغال بأرغفة الخبز للأسرى الفلسطينيّين ومدّة استحمامهم، بدلًا من الانشغال بالأمن والأمان وتعزيز ثقة المواطنين بالشرطة، بل ثقة الشرطة بنفسها، ومكافحة الجريمة في المجتمع العربيّ خاصّة والبلاد عامّة، يُفْقِدُها قدرتها على القيام بمهامّها ولعل الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام عن دوريّة شرطة في مدينة سديروت ،

 

فضّل أفرادها الهرب من سيارة تحمل مسلّحين من "حماس" أطلقوا النار عليها بدل المواجهة، وإطلاق النار هي دليل على ذلك، وأن تمويل فئات ترفض الخدمة العسكريّة وشرعنة رفض الخدمة لدى اليهود المتزمّتين- الحريديم- وتخوين من يخدم لا بدّ أن يضعف عضد الجيش  وقدراته القتاليّة ورغبته في القتال، وأن إهمال قطاعات واسعة جغرافيًّا من الدولة خاصّة في الجنوب والشمال ، وهما لسخرية القدر منطقتان يؤيّد سكانهما اليمين عامّة والليكود وبنيامين نتنياهو خاصّة، له ثمنه خاصة في حالات الشدّة والضائقة، وباختصار فإن إهمال إدارة شؤون الدولة كلّها طيلة عام كامل، والانشغال بتحطيم مؤسّساتها وتحصين مكانة الزعيم، الذي يرفض لقاء رؤساء وقادة الجيش والموساد والشاباك والإصغاء لتحذيراتهم حول قدرات إسرائيل الأمنيّة والمسّ بها،

 

هو عمل هدّام كان كثيرون قد حذَّروا من أخطاره خاصّة على صعيد الجيش وخاصّة إذا ما اندلعت الحرب، بمعنى إن إضعاف كافّة الهيئات والمؤسّسات يرافقه نتيجة واحدة وهي عدم قدرتها على التحرّك بسرعة، ويفقدها القدرة على الردّ السريع في حالات الطوارئ، وأن القبول بحالة تتوقّف فيها المرافق الاقتصاديّة والمواصلات العامّة أيام السبت ومنتصف يوم الجمعة إرضاءً للأحزاب المتديّنة، له نتائجه السيّئة اقتصاديًّا وعملياتيًّا، وهو ما أدى إلى تأخر وصول آلاف وربما عشرات آلاف الجنود وقوات الطوارئ ، إلى الجنوب يوم السبت أول أيّام الحرب والمواجهة.

 

 

حركة "حماس" من جهتها تناست أنها السلطة في غزة، وأنها بحكم ذلك تتحمّل مسؤوليات تامّة عن كافّة مناحي ونواحي الحياة، وأولها أنها المسؤولة بخطواتها وقراراتها عن أمن مواطنيها والمدنيّين فيها، وأن السلطة لا تعني فقط استلام مقاليد الحكم، بل ممارسة السلطة بالكامل وبضمن ذلك الاهتمام بأسباب ومقوّمات الحياة اليوميّة وتوفير أماكن العمل وإمكانيات الحياة المدنيّة، وأنها ليست فقط قوة عسكريّة مسلّحة تنفّذ حرب عصابات ضدّ إسرائيل وغيرها، وأن سلّم أولويّاتها يجب أن يتغيّر ويتبدّل،

 

وأن تهتم بالتشغيل والتربية والتعليم والاقتصاد وتوفير إمكانيّات النمو الاقتصاديّ وغيره سعيًا إلى بناء كيان مستقلّ، أو شبه مستقلّ، يقود في نهاية المطاف إلى كيان مستقلّ ومنفصل عن الضفة الغربيّة، كما نسيت أن تحقيق أيّ إنجاز في عالمنا الحاليّ، سياسيًّا كان أم عسكريًّا، لا يتمّ ولا يكتمل إلا ببعده الإعلاميّ، وهذا ما قلته في بداية مقالي هذا حول الرواية التي سترافق هذه الحرب، وهنا لا بدّ من القول وبصراحة إن النشوة المؤقتة والمرحليّة بل الآنيّة ، لاختراق الجدار الفاصل وهدمه في بعض المقاطع، أعمت المسلحين وقادتهم، وأن ما حدث بعدها من اختطاف للنساء والأطفال والمسنّين وقتل المدنيين بالمئات خلال مشاركتهم في حفل موسيقيّ،

 

قلب موازين القوى وجعل من إسرائيل "الضحيّة" التي يتعاطف معها العالم، وكرَّس الرواية الإسرائيليّة عن "حماس" بأنها حركة إرهابيّة هدفها ورايتها قتل اليهود والإسرائيليّين أينما كانوا ولمجرد كونهم إسرائيليّين، مع الإشارة هنا إلى أن أكثر من عشرين من القتلى الإسرائيليّين هم من المواطنين العرب في النقب وكذلك من بين المختطفين، فأسر المدنيين والأطفال مرفوض قانونًا وأخلاقًا وشرعًا، وبالتالي فإن بعض ما كان هو تفريغ لرغبات انتقام لا مكان لها في السياسة وإدارة الدول والكيانات السياسيّة أينما كانت، أمّا النتائج فتبدو واضحة،

 

وهي في مجملها تأييد تامّ لإسرائيل وتأكيد على حقّها في الدفاع عن النفس دون قيود، ولعلّ تحريك حاملة الطائرات الأميركيّة جيرالد فورد، وما يرافقها من سفن حربيّة، وطائرات وما عليها من الصواريخ والأسلحة، وما ستحصل عليه إسرائيل من أسلحة أميركيّة، يعني أن ما ينتظر غزة بسكانها المدنيين هو ويل وثبور، وأن الحرب ستكون هذه المرّة مختلفة، بمعنى أنها ستشمل كافّة مركّبات الحرب البريّة والبحريّة والجويّة والاقتصاديّة بما فيها قطع التيار الكهربائيّ، ووقف عمل عشرات آلاف العمال الغزييّن في إسرائيل، وهو ما يبدو أن قيادة "حماس" بدأت تفهمه خاصّة، وأن الجيش الإسرائيلي يؤجّل الردّ حتى انتهاء استعادة السيطرة التامّة على كافّة مناطق الجنوب، وليس ذلك فقط، بل حتى تجنيد كافّة قوّات الاحتياط وإخلاء القرى الحدوديّة من سكانها ما سيمنح الجيش الحريّة التامّة للقيام باجتياح بريّ والسيطرة مرّة أخرى عل قطاع غزة، ولو لفترة مؤقّتة تبلغ عدّة أشهر،  أو سنة واحدة ستضطرّ بعدها للانسحاب منها، كما سبق وحدث في لبنان وغيرها.

 

 

هي حرب سيُقال عنها الكثير ، فهي الدليل على أن القيادات في الشرق الأوسط تخشى الحقيقة، وترفض النظر إلى الصورة الحقيقيّة، أو لا تملك الشجاعة لفعل ذلك ، بل تفضّل التكرار والاجترار، فبالنسبة للفلسطينيّين أو حركة "حماس" هي حرب ضد  نتنياهو وخطابه في الأمم المتحدة، وإعلانه أن الشأن الفلسطينيّ لم يعد بيضة القبان، وأنه يجب عدم الاكتراث للمعارضة الفلسطينيّة لاتّفاقيّات بين إسرائيل والدول العربيّة، وضدّ إسرائيل بحكومتها اليمينيّة التي كسرت كافّة قواعد اللعبة،

 

وأعلنت جهرًا ومن على رؤوس الشهاد أن " لا قضية فلسطينيّة" على وزن قول غولدا مئير" لا وجود لشعب فلسطينّي" وهي حرب على سياسة إسرائيليّة تساوقت معها دول عربيّة وخليجيّة عديدة تتلخّص في تجاوز الفلسطينيّين واعتبارهم مجموعة تكتفي بالمال بدل الاستقلال، وهي حرب تتزامن مع ثلاثينيّة أوسلو ووفاته رسميًّا وخمسينيّة أكتوبر وعبره، بل تكراره بكامل تفاصيله، وهي حرب على ما يحدث في الضفة الغربيّة والتصرّفات الفوقيّة للمستوطنين وآخرها استيلاؤهم على الشارع الرئيسيّ في حوّارة قبل أيّام وإغلاقه وتحويله إلى مكان لاحتفالات عيد العرش ما يعكس المشاعر الفوقيّة للمستوطنين الذين يشعرون أنهم " الآمر الناهي"،

 

وهي حرب كان بالإمكان أن تكون كسابقاتها بين إسرائيل و"حماس"، أي أن  تكون عمليّة سريعة وقصيرة المدى  تضمن لـ«حماس» والفصائل تغطية تلفزيونيّة واهتمامًا إعلاميًّا تليه وساطة مصريّة وقطريّة وأوروبيّة تليها ردود إسرائيليّة تكتفي بقصف المباني والمنشآت واغتيال بعض القيادات، لكنّها بمجرياتها هذه المرّة، وأجزم أن من خطط لها  ومن باب النشوة والرغبة في تسجيل إنجاز سريع وتجاهل تطوّرات ممكنة ومحتملة، لم يأخذ هذا بعين الاعتبار، ولم يضعه ضمن السيناريوهات المحتملة ،

 

ثم ينتج عنها عقوبات ومعاناة لأشهر أو سنوات  بحق الفلسطينيين، وإعادة إعمار بأموال عربيّة، لكن اتساع دائرتها وعمليّات قتل المدنيين واختطافهم على اختلاف أعمارهم، والأشرطة التي تم نشرها تقلب الموازين، وتنذر بردّ إسرائيليّ غير مسبوق، ينفذه الجيش الإسرائيليّ بأوامر الحكومة التي قد تقرّره مضطرّة لإرضاء مواطنيها من جهة ومحاولة ترميم كرامتها الأمنيّة والعسكريّة وقدرتها على الردع من جهة أخرى، وخدمة لقياداتها التي توجّه إليها أصابع الاتهام وتحملها مسؤوليّة الفشل الاستخباراتيّ والعسكريّ وأعداد الضحايا التي ستفوق ألف قتيل وأكثر من ألفين جريح، لكنها في الوقت نفسه حرب نشبت في توقيت مشبوه، وأعني بذلك أنها ملازمة وموازية لازدياد الحديث عن تفاوض سعوديّ أميركيّ لسلام مع إسرائيل يضمن ميزانيات وأموال وظروف حياة أفضل للفلسطينيّين، ولا يضمن لهم أيّ كيان سياسيّ،.

 

 

وهي حرب بدأت في توقيت مشبوه  ، لا شك أنها ستخدم اليمين وبنيامين نتنياهو، فهي جاءت وسط انقسام إسرائيليّ داخليّ وغليان ضد نتنياهو، وتتزامن مع بداية حملة انتخابات بالولايات المتحدة، وهو ما يؤكّد الاعتقاد أنه تقف خلفها إيران، وسط عدم تقدير صحيح من «حماس» والفصائل المشاركة لها، وهو ربما ما يؤكّده تصريح الرئيس الأميركيّ بايدن الذي حذَّر "جهات معيّنة" من استغلال الحرب الحالية لمهاجمة إسرائيل، في إشارة واضحة إلى "حزب الله" ، وهي رسالة تؤكّدها حاملة الطائرات المتوجّهة نحو شواطئ إسرائيل، والتي تؤكّد أن الولايات المتحدة تخشى، فشل مشروعها الإقليميّ الذي يشمل سلامًا إسرائيليًّا سعوديًّا يشكّل قوّة موازية لطهران النوويّة وحلفائها في المنطقة، وباختصار حرب لن يكون ما بعدها مشابهًا لما قبلها وللحديث بقيّة.

 

תגובות

מומלצים