قطر والحرب في غزة .. وساطة حقيقيّة أم تقاسم توافقيّ للأدوار؟

وإن اتّفق الجميع على أنه من السابق لأوانه، بل ربما من الخطر، أو التسرّع بمكان، التنبّؤ أو حتى محاولة التنبّؤ، بما ستؤول إليه الأحداث، وما ستكون عليه التأثيرات بعيدة المدى للحرب الحاليّة في قطاع غزة، سواء كانت التأثيرات إقليميّة شرق أوسطيّة، أو عالميّة، أو تلك الإسرائيليّة والفلسطينيّة المحليّة

10.02.2024 מאת: المحامي زكي كمال
قطر والحرب في غزة .. وساطة حقيقيّة أم تقاسم توافقيّ للأدوار؟

خاصّة وأن هذا الأمر يعتمد، أو يتعلّق بقضايا ومعطيات عديدة، أوّلها ما إذا كانت أهداف الحرب سوف تتحقّق كما صاغتها إسرائيل، رغم كونها صياغات فضفاضة وغير واضحة المعالم تبدو أقرب إلى الصياغة السياسيّة، بدل الواقعيّة العسكريّة.  وما إذا كانت إسرائيل ستنجح في النهاية بتحقيق هدفها المعلَن،

وهو القضاء على حماس كقوّة عسكريّة وسياسيّة حاكمة وذات سلطة في غزة، ومعها إطلاق سراح كافّة الأسرى والمختطفين الإسرائيليّين الذين ما زالوا في القطاع حتى اليوم، والذين تتفاوت الأنباء حول احتمالات إطلاق سراحهم، مع ازدياد الحديث عن اعتبارات سياسيّة تمنع ذلك حاليًّا مردُّها تركيبة الائتلاف الحاليّ، ورغبة أطرافه كافّة الحفاظ عليه مهما كلّف ذلك، وحتى لو كان الثمن ربما بقاء المختطفين في غزة،

بغضّ النظر عن مصيرهم المحتوم، كما قال عدد من الإعلاميّين اليمينيّين المقرّبين من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحتى الناطقين طوعًا بلسانه،  وما سيؤول إليه الحال بعد الحرب من حيث هويّة الجهة الحاكمة، أو المسيطرة في القطاع، وما إذا كانت "حماس" ستبقى في القطاع كهيئة لها وزنها، وما إذا كان قادتها سيواصلون العيش في القطاع، أم أن الحل سيكون مشابهًا لما انتهت إليه حرب لبنان الأولى عام  1982، أي هل سيضطر قادتها إلى مغادرة القطاع وبدء رحلة شتات جديدة، كما فعل قادة منظمة التحرير الفلسطينيّة حينها حين غادرت مع مسلحيها لبنان إلى تونس تحت رعاية أميركيّة وعربيّة.

 

 

 إضافة إلى ما ستنتهي إليه الحرب إسرائيليًّا، وخاصّة قضية الانتخابات وربما استبدال السلطة، وتشكيل لجان التحقيق رسميّة كانت أم غير ذلك،  وإقليميّة تبحث الجزئية المتعلقة بالتطبيع بين إسرائيل والسعوديّة من جهة واستمرار الفتور الذي يسود العلاقات بين إسرائيل وجارتيها مصر،  على ضوء الحديث عن إمكانيّة سيطرة إسرائيل على محور صلاح الدين( محور فيلادلفيا بتسميته الإسرائيليّة) والأردن، وحتى العلاقات مع الإمارات العربيّة المتحدة وتوقّف عجلة التقارب مع السودان، والتوتّر مع "حزب الله"  وبجريرته لبنان كلّه وبعده إيران، وماهيّة،

أو صبغة وشاكلة العلاقات المستقبليّة، أو المكانة الدبلوماسيّة لإسرائيل في المنطقة  والعالم ، وهي التي ستحدّد ما إذا كانت إسرائيل ستتمكّن من مواصلة الصمود أمام الضغوطات الدوليّة،  وسببها الأساسيّ إطالة أمد الحرب، وازدياد أعداد الضحايا بين المدنيّين وتكدُّس نحو مليوني مواطن فلسطينيّ في بقعة ضيّقة في جنوب القطاع،

خاصّة قرب مدينة رفح. ولكن من الواضح الآن وفي هذه المرحلة من الحرب، أنها غيَّرت الكثير من المفاهيم والمسَّلَمات، خاصّة تلك التي تتعلّق  بالحدّ الواضح بين الأصدقاء والأعداء، وبكلّ ما يتعلّق بدور قطر. وهو دور محوريّ وحسَّاس ورئيسيّ، برز خلال المفاوضات والاتّصالات التي سبقت عمليّات تبادل الأسرى والمختطفين التي تمّت قبل نحو شهر، وازداد بروزًا في الأيّام الأخيرة مع تواتر الحديث عن صفقة تبادل جديدة يرافقها وقف لإطلاق النار لمدّة قد تصل إلى أربعة أشهر، تقبله إسرائيل، بينما تتواصل حتى هذه اللحظة مطالبة "حماس" بأن تؤدّي الصفقة إلى وقف تامّ لإطلاق النار وانسحاب إسرائيليّ كامل وفوريّ من قطاع غزة.

 

 


 مكانة قطر أو دورها منذ بداية الحرب وكلاهما سيّان، يؤكّدان أنّ الحرب الحاليّة وتعرّجاتها، غيَّرت الكثير من الموازين والقواعد، وأنها من حيث العلاقة بين قطر وإسرائيل تناقض القاعدة المتّبعة في تحديد الأصدقاء  والأعداء خلال الحرب والأزمات خاصّة وكلّ الحالات عامّة، والتي ملخصها أن الأعداء ثلاثة، عدوك  وعدو صديقك  وصديق عدوك،  وكذلك الأصدقاء ثلاثة، صديقك  وصديق صديقك  وعدوّ عدوّك، فقطر رغم أنها ليست من مؤيّدي إسرائيل، بل ربما بالعكس،  نصبَّت نفسها،

وعزّزت مكانتها كوسيط أساس في الصراع، أو الحرب الدائرة، وكانت الوسيط في  اتّفاق بين إسرائيل وحماس ومصر، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، ضَمِنَ إجلاء مواطنين أجانب ومدنيّين فلسطينيّين مصابين بجروح خطيرة من غزة إلى مصر، كما واصلت مساعيها للتوسّط في مفاوضات إطلاق سراح المختطفين لدى "حماس" وفق معادلة مختطف واحد مقابل كلّ ثلاثة أسرى فلسطينيّين، وانخرطت في مساعي إجلاء الرعايا الأجانب من غزة. وها هي اليوم تتحوّل إلى عامل أوّل في المفاوضات الرامية إلى عقد صفقة تبادل أخرى، ما يجعلها حتى وإن أبى البعض، أو قبل على مضض، تلعب دورًا  دبلوماسيًّا  حسّاسًا، بل خاصًّا ومميّزًا يؤكّد الخبراء أنه يجعلها الطرف الرابح والفائز بغضّ النظر عن نتائج الحرب،

بمعنى أن كافّة مجريات الحرب تصبّ في مصلحتها وتجعلها من جهة ، حليفًا لا يمكن لواشنطن الاستغناء عنه، بحكم موقعه السياسيّ وعلاقاته مع كافّة دول المنطقة بما فيها إسرائيل وإيران ، وحركتي "حماس" والجهاد الإسلاميّ من جهة أخرى،  وثرواته الطبيعيّة وخاصّة الكميّات غير المحدودة من النفط والغاز الطبيعيّ الذي لا يمكن لأوروبا الاستغناء عنه، بعد وقف استيراد الغاز الطبيعيّ من روسيا بسبب الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، والعقوبات الدوليّة المفروضة على روسيا، بينما يؤكّد محلّلون آخرون أن علاقة قطر الخاصّة بحركة "حماس" والتي تمكّنها اليوم من لعب دورها الهامّ في الوساطة، لأنها تمكّنها من  التحدّث إلى الطرفين الإسرائيليّ والفلسطينيّ("حماس") بشكل مباشر ودون حواجز،  وهي في الحرب الحاليّة  ميزة لا يملكها أيّ طرف، أو جهة أو لاعب دوليّ، أو إقليميّ آخر في العالم ، ولا يمكن لدولة غير  قطر القيام بها،

قد  تصبح عبئًا على الدولة الخليجيّة وهي اليوم علاقة تثير ردود فعل غاضبة وغير مسبوقة حتى من أطراف ذات علاقة ، تتحدث إلى قطر وتعتبرها وسيطًا ، رغم أنها مرغمة على ذلك، وليس عن طيب خاطر، ومنها إسرائيل التي رشح عن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو قوله خلال لقائه عائلات الأسرى ، إن قطر أكثر إشكاليّة من الأمم المتحدة والصليب الأحمر، وأنها ليست الوسيط المحايد، أو النزيه، وإن لديه خيبة أمل من أن واشنطن لا تمارس المزيد من الضغوط على الدوحة، ناهيك عن قوله أنه لم يشكر قطر علنًا، لأنها يمكن أن تمارس المزيد من الضغط على "حماس"، حسب رأيه. وهي تصريحات جاءت من جهة لإرضاء الجناح اليمينيّ في حكومته،

والذي يطالب بمنع قطر من ممارسة دور الوسيط الذي يعمل للتوصّل إلى وقف لأطلاق النار واطلاق سراح جميع الأسرى، بمعنى أن قطر، تتصرّف  اليوم ورغم الحملة التي شنتها جهات كثيرة في إسرائيل ،حول دورها في الوساطة بين "حماس" وإسرائيل، بنوع من الحكمة وتمارس الصبر الاستراتيجيّ، مؤكّدة أن الغاية هي الأهمّ، ومن باب إيمانها أنها في نهاية المطاف ستكون الرابحة، فإذا توقّفت الحرب وتمّت استعادة الأسرى والمختطفين الإسرائيليّين، ستكون الدوحة قد أمسكت المجد من طرفيه، بمعنى أنها ضمنت وقف الحرب على غزة بكلّ ما يعنيه ذلك من تأثيرات وأبعاد ونتائج أهمّها تقليل عدد الضحايا وحجم الدمار والخراب، وربما ضمان بقاء "حماس" حاكمًا وسلطة في القطاع وإبقاء قادتها في القطاع وعدم إجلائهم، ما سيأهلها للعب دور محوريّ في فترة ما بعد الحرب، وليس فقط في مجال إعادة إعمار قطاع غزة، كما ضمنت لإسرائيل استعادة كافّة أسراها وترميم جزء من هيبتها وسمعتها، ومنعت مواصلة "حماس" احتجاز الأسرى كما في حالة المواطنين الإسرائيليين هشام السيد وأفيرا مانغستو، وجثماني الجنديّين أورون شاؤول وهدار غولدن. وهي حالة لم تكن قطر فيها وسيطة، ولا مصر حتى، ما يمكن أن يكون السبب في عدم انتهائها إلى حلّ يضمن عودة المواطنَيْن واستعادة الجثمانين.

 

 


الحرب الحاليّة واستمرارها، تمامًا كما قضية الدعم الشهريّ القطريّ لحركة "حماس" والتي حصلت من قطر وبموافقة إسرائيليّة، وتحديدًا موافقة بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيليّ، الذي اعتبر هذا الدعم قضيّة استراتيجيّة لها من الإيجابيّات ما يبرّرها، ورغم أنه اتّضح أن "حماس" لم تستخدم هذه الاموال لرفاهية مواطنيها، بل لتطوير وتعزيز قوّتها العسكريّة وحفر الأنفاق في غزة،  تثير أسئلة كثيرة ومتعدّدة حول ما يمكن تسميته سياسيًّا " الحالة القطريّة"، أو " المعضلة القطريّة". وهي أسئلة يمكن تلخيصها في أمر واحد له أبعاده وتفرّعاته، ملخصه كيف تمكّنت هذه الدولة الصغيرة والتي يبلغ عدد سكانها الأصليّين وفق الإحصاءات السكانيّة للعام الحالي 2024، نحو مليون ومئة وخمسين ألف نسمة( ومعهم نحو مليوني أجنبي).

 

 

وهي الدولة الغنيّة بالنفط كجاراتها الخليجيّات وخاصّة الغاز الطبيعي وتحديدًا المسال منه، من الحفاظ  على علاقاتها الجيّدة وقنوات اتصالاتها المفتوحة  مع أطراف كان من السائد الاعتقاد أنه لا يمكن لدولة واحدة أن ترتبط بجميعها بعلاقات طبيعيّة وفعَّالة، بل جيّدة، فهي صاحبة علاقات مميزة للغاية، لا بل  مكثّفة  مع "حماس" ومع إيران، وكذلك تربطها وعلى مدار خلال السنوات الأخيرة علاقات مميّزة جعلتها  من أقرب حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، فأميركا تملك في قطر أكبر قاعدة جويّة وعسكريّة لها هي قاعدة العديد،  وهو ما كان كفيلا بقيام أميركا عام 2017، وعبر وزير خارجيتها آنذاك ريكس تيلرسون وخلال عهد دونالد ترامب، بمنع الدول الخليجيّة الأخرى وفي مقدّمتها السعوديّة والإمارات من اجتياح قطر عسكريًّا،

والاستعاضة عن ذلك بمقاطعتها لتنضمّ إليهم في ذلك مصر والبحرين.    وفوق ذلك فهي تحافظ على اتصالات متواصلة  عبر قنوات سريّة وعلنيّة مع إسرائيل، كلّلتها زيارات لرؤساء جهاز الموساد وخاصّة السابق يوسي كوهين، وغيرهم من المسؤولين الإسرائيليّين، وكلّ ذلك إضافة إلى علاقات متوازنة مع روسيا والصين وإيران، وحتى الدول الخليجية التي استعادت الدوحة علاقاتها الجيّدة معها، وكيف يمكن أن تكون قطر ، هذه الدولة الصغيرة،

تتمتّع  بسمعة دوليّة مرموقة وخبرات كبيرة، وقدرات واضحة المعالم، تجعلها قادرة على حلّ النزاعات بين الدول والمجموعات، عبر دبلوماسيّة مميّزة يقول عنها كثيرون أنها حكيمة ومتوازنة، ما يجعلها تبرز  كدولة فعّالة عالميًّا في حلّ الصراعات وإيجاد حلول لكثير من الأزمات الإقليميّة والدوليّة، بدءًا من اتّفاق الدوحة الخاصّ بلبنان عام 2008، مرورًا باتّفاقيات السلام في السودان عام 2011، ومصالحة أريتريا وجيبوتي عام 2013، وتبادل الرهائن بين إيران وأميركا عام 2014، ومحادثات عام 2019 بين أميركا  وأفغانستان  لخروج القوات الأميركيّة من أفغانستان، ومفاوضات أميركيّة إيرانيّة غير مباشرة عام 2022 تتعلّق بالملف النوويّ، وتبادل رهائن بين طهران وواشنطن عام 2023،

ومحاولات وساطة بين حركتي "حماس" وفتح، وغيرها وغيرها. وهنا لا بدّ من السؤال : هل تشكل قطر وموقعها الحاليّ الدليل على أن النقود تشتري كلّ شيء(كما ساهمت في استضافة قطر لمونديال 2022) ، أي هل يمكن لثراء دولة ما أن يمنحها التأثير الاقتصاديّ والسياسيّ والعسكريّ والإعلاميّ خاصّة، وأن قطر تملك قناة "الجزيرة" بمختلف اللغات والمنصّات. وهي قناة تواصل بثّها في إسرائيل، رغم تحفّظات كثيرة حول مضامينها، وربما بل يقينًا، منعًا لإثارة غضب قطر، وهي صاحبة القناة والمموّل الوحيد لها، أم أن قطر تشكّل الدليل على أنه بإمكان الدول اليوم امتلاك التأثير والمكانة والقوة، عبر ما يسميه كثيرون " القوّة الناعمة" في مثال يشبه ببعض جوانبه إمكانيّات التأثير واسعة النطاق التي تتمتّع بها مجموعات الضغط اليهوديّة في أميركا، أو " اللوبي الصهيونيّ"    ، بفعل قوّتها الناعمة، الاقتصاديّة والإعلاميّة.

 

 


ما سبق يؤكّد إضافة إلى ما قلت، حقيقة واضحة للعيان، أو يجب أن تكون واضحة للعيان، وهي أن الوضع في الشرق الأوسط أصبح أكثر تعقيدًا،  وأنه بذلك يتطلّب قيادات منفتحة ومختلفة، في الطرفين الإسرائيليّ والفلسطينيّ عامّة، والطرف الإسرائيليّ خاصّة، يمكنها أن تزن الأمور وفق مبدأ" السياسة الواقعيّة" لا أن تتصرّف وفق أهواء المؤيّدين وتصفيق المشجّعين، خاصّة بشأن العلاقة مع قطر،

فهي ليست دولة كباقي الدول يمكن معاداتها ومقاطعتها، باعتبارها ثروة وذخرًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة، وموقعًا لقواعد عسكريّة، تحمي قطر من جهة، وتمكّن أميركا من مواصلة كونها قوّة لها تأثيرها وسطوتها في الشرق الأوسط وآسيا وحتى الدول الأوروبية، ناهيك عن أنها غرست أنيابها عميقًا ومجازًا طبعًا في الدول الأوروبيّة وأميركا، عبر استخدام أموال النفط والغاز لبناء علاقات خاصّة مع العالم الغربيّ، وعبر تمويل عدد كبير جدًّا من الجامعات المرموقة ومراكز الأبحاث الرائدة في العالم..وقناة الجزيرة بالإنجليزيّة التي تحظى بقبول ومتابعة واسعة في الدول الأوروبيّة، ويقف مراسلوها في مقدّمة ممثّلي وسائل الإعلام العالميّة في المؤتمرات الصحفيّة في البيت الأبيض ووزارة الخارجيّة الأميركيّة، وبالتالي فإن مكانة قطر تحتّم على إسرائيل معاملتها بالمثل، خاصّة وأنها تعلم حقّ المعرفة أن الغرب وبضمنه الولايات المتّحدة، يوافق على مضض ربما ومن منطلق مصلحته، أولًا وقبل كلّ شيء، على أن تلعب قطر دور "محامي الأشرار"( وربما محامي الشيطان في نظر البعض)،

وأن تكون حلقة الوصل مع هذه الجهات ، تحسّبًا، أو استعدادًا لحالات يجب الحديث فيها إلى هذه الجهات، وبشكل غير مباشر عبر الوسيط القطريّ، أو الوساطة القطريّة. وهذا ما يمكن لقطر أن تفعله ما دامت تلك الجهات ومنها "حماس" وطالبان، وغيرهما تعتقد أن قطر تقف في صالحهم وإلى جانبهم، ومن هنا يمكن الجزم أن قطر لم تذرف الدمع لسماعها أقوال نتنياهو التي وصفتها بأنها غير محايدة، بل سيئة، فهذه الأقوال هي الشهادة لقطر بأنها إلى جانب "حماس"، وهي بالنسبة لقطر كلمة ذمّ إسرائيليّة تصبّ في مصلحتها،

والأمر صحيح بالنسبة لما سيحدث بعد نهاية الحرب، والسؤال ما إذا كانت إسرائيل ستبادر إلى قطع علاقاتها بقطر فور انتهاء الحرب، أو ستعيد النظر في علاقاتها معها، خاصّة وأنه لا يمكن لنتنياهو اليوم مهاجمة قطر، وإعادة النظر في العلاقات معها، حتى إذا ما كان يعتقد أنها تميل إلى الجانب الفلسطينيّ، أو أنها تدعم "حماس"، أو أن أموالها هي التي بنت الأنفاق، فهو يدرك أن ذلك كان بموافقته، وبالتالي لا يمكنه إصلاح خطأ بخطيئة بديلة، ذلك أنه بحاجة إلى قطر كوسيط وحيد بعد أن قطع حبل السرَّة مع مصر باتّهامها من قبل المحامي  البريطانيّ الذي مثَّل دولة إسرائيل  في محكمة العدل الدوليّة، بأنها تمنع الغذاء والدواء عن الفلسطينيّين في غزة، كما تمنعهم من دخول أراضيها، وبالتالي يمكن القول إن اسرائيل بحاجة إلى قطر باعتبارها الدولة الوحيدة التي يهمّها أمر قطاع غزة وحركة "حماس"، وبالتالي لا يضيرها أن تواصل لعب دور الوسيط بعد كلّ مواجهة عسكريّة بين إسرائيل وقطاع غزة، فذلك وفق الحسابات الدبلوماسيّة الجافّة يعزّز من مكانتها، ويكرَّس دورها الإقليميّ، ويجعلها أحيانًا المنقذ والمخلّص في إطار صراع إسرائيل- "حماس". 

 

 


موقف قطر هذا، أو حالها هذا، يبرز اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، بسبب المواقف الاخيرة للولايات المتحدة والدول الأوروبيّة، وخاصّة بريطانيا وفرنسا وغيرها، وبعض الدول العربيّة التي عادت إلى حلّ الدولتين باعتباره الأفضل بل الأوحد، والتعبير عن أن دول العالم سئمت استمرار الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ. ولعل التصريحات الصادرة عن وزير خارجيّة بريطانيا ديفيد كاميرون  حول احتمال اعتراف بلاده بدولة فلسطينيّة مستقلّة ومعه دول أوروبية أخرى، وإعلان قريب من الخارجيّة الأميركيّة، يشكّل جزءًا من خطوات تندرج ضمن مسيرة، أو محاولة لإحراز تقدّم ملحوظ وحقيقيّ نحو حلّ الدولتين. وهذه تصريحات سياسيّة هامّة يجب الانتظار لرؤية ما إذا كانت سترافقها  خطوات عمليّة حقيقيّة ، تؤكّد صحّة تصريح كاميرون الذي جاء فيه أنه يجب منح الفلسطينيين أفقًا سياسيًّا، وأن بريطانيا تريد  الشروع مع حليفاتها ببحث كيفيّة تنفيذ لك، بما فيه تصويت في الأمم المتحدة لصالح الاعتراف بدولة فلسطينيّة. وهذا يضاف إلى تصريحات الرئيس الأميركيّ جو بايدن من أنه لا يمكن للفلسطينيّين وإسرائيل العودة إلى ما كان قبل السابع من أكتوبر 2023، بل إنه يجب السعي بعد انتهاء الحرب إلى حلّ يكفل مبدأ حلّ الدولتين، ما يحتّم على القيادات الفلسطينيّة وكذلك في إسرائيل ودول المنطقة التحرّك الجدّيّ نحو السلام وإقامة دولة فلسطينيّة، تريدها الولايات المتحدة منزوعة السلاح، تشكّل إقامتها جزءًا من حالة أوسع تشمل التطبيع التامّ بين إسرائيل والمملكة العربيّة السعوديّة، مع الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة تدرك أن "حماس" لا يمكنها وبحكم ميثاقها، القبول بحلّ الدولتين، أو تسويات إقليميّة غير ذلك، وبالتالي فإن أيّ حديث عن دولة فلسطينيّة مستقلّة مع بقاء "حماس" ولو ضعيفة يشكّل نصرًا للمتطرّفين وضربة للمعتدلين، ومن هنا يقترن الحديث عن حلّ الدولتين بالحديث عن سلطة فلسطينيّة جديدة ومحسَّنة تسيطر على القطاع بعد انتهاء الحرب.

 

 


وفق هذا المفهوم تعمل الولايات المتحدة خاصّة عبر محاولات لتخفيف ألسنة اللهب على الجبهة الشمالية مع حركة "حزب الله"، وخلق معادلة واضحة كان شقّها الأول واضحًا منذ السابع من أكتوبر عبر تحريك حاملتي الطائرات إلى حوض البحر المتوسط، والتحذيرات الحادة لحركة "حزب الله"، أما شقّها الثاني فكان  ضمان بقاء المواجهة العسكريّة على الحدود الشماليّة تحت السيطرة، أو بمستوىً يمكن قبوله وتحمّله إسرائيليًّا خاصّة، ومنع اندلاع حرب يطلق فيها حزب الله الصواريخ على إسرائيل، وتتعرّض للقصف والتدمير مناطق لبنان وبضمنها العاصمة بيروت وخاصّة ضاحيّتها الجنوبيّة، وهو ما أرادته أميركا عبر موفدها إلى لبنان عاموس هوخشتاين( أميركيّ يهوديّ الأصل) الذي عمل على إيجاد صيغة مقبولة لتنفيذ قرار 1701، من العام 2006، بشكل يحفظ ماء الوجه لطرفيه وهما إسرائيل وحزب الله، ويؤدّي إلى حالة من الهدوء، ونزع فتيل التوتّر، أو تخفيف حدّته، وكرّسه اللقاء الخماسيّ لسفراء السعوديّة ومصر وقطر وأميركا وفرنسا في لبنان، الذي بحث الفراغ الدستوريّ في لبنان وضرورة تعيين رئيس للجمهوريّة (يريد حزب الله أن يكون سليمان فرنجيّة) ، وضلعها الثالث هو الحقيقة الواقعة والتي أكّدتها حركة "حزب الله" أن وقف إطلاق النار في غزة يعني حتمًا وقفًا مماثلًا على الحدود الشماليّة. وإلى هذا يجب أن نضيف ردود الفعل المعتدلة أميركيًا على هجمات الحوثيين من اليمن ومقتل الجنود الأميركيّين جرّاء الهجوم على قاعدتهم في الأردن، ومعه إعلان "حزب الله" العراق عن وقفه الهجمات على قواعد أميركيّة منعًا لإحراج الحكومة العراقيّة، وتصريح قائد الحرس الثوريّ الإيرانيّ حسين سلامي من أن بلاده لا تريد الحرب، وأنها ستردّ على كلّ تهديد تجاه أراضيها، خلافًا لما كانت عليه تصريحاته سابقًا من أن إيران ستردّ على أيّ هجوم عليها، أو على الحركات والمليشيات المؤيّدة لها في لبنان وسوريا والعراق واليمن. 

 

 


خلاصة القول أن الأحاديث المتزايدة عن عمليّة سياسيّة تهدف إلى حلّ النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، وما يتبعها من تحرّكات سياسيّة في لبنان والعراق وغيرها، تعني أن أيّ تحرّك سياسيّ كهذا ،سيلزم الولايات المتحدة بممارسة نفوذها، واستغلال كامل قوّتها وتأثيرها، لخلق تحالف من الدول العربيّة يشمل  خاصّة السعوديّة ومصر وقطر، يرافقه إرغام إسرائيل على قبول قيام  جسم فلسطينيّ بتولّي إدارة شؤون غزة بعد انتهاء الحرب، وهو جسم لن يكون "حماس" ممثّلًا بمندوبيه، سواء في غزة أو قطر أو تركيا،  ما دامت الحركة تؤمن أن النضال المسلح هو الحلّ، وأن أرض فلسطين كلّها وقف إسلاميّ لا مجال معه لأيّ تسوية إقليميّة، أو مساومة، أو حلول وسط.

 

 


وختامًا: إضافة إلى ما سبق لن يتحقق السلام في الشرق الوسط، ولن تؤدّي مليارات الدولارات التي تمّ وسيتم استثمارها خلال الحروب المتكرّرة، إلى هدوء واستقرار ورفاهية، بل إلى مزيد من الدمار والخراب والدماء والضحايا والخسائر، ما دامت "حماس" و"حزب الله" تتمسّكان بخيار الشهادة وربما ثقافة الموت، وما دامت إسرائيل تتمسّك بخيار القوة،  رغم أن التجارب التاريخيّة أثبتت للقاصي والداني، أن الحروب بما فيها الحربين العالميتين ، ليست السبيل إلى الهدوء والازدهار والاستقرار، بل الوصفة الأكيدة للعداء والتوتّر والدمار...فهل من مُدْرِكٍ لهذا الأمر؟
 

תגובות

מומלצים