محكمة العدل الدوليّة والأمر الاحترازيّ لوقف نار الحرب؟

بخطىً واثقة وسريعة تقترب حرب أكتوبر الثانية من يومها المئة، مسجّلة أرقامًا قياسيّة ومجريات غير مسبوقة، عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وغيرها ، تثبت كونها حربًا مميَّزة تختلف عن غيرها على الصعيد الخارجيّ، من حيث المدّة والملابسات والأحداث والتغيّرات التي تتعلّق بالمواقف العالميّة

13.01.2024 מאת: المحامي زكي كمال
محكمة العدل الدوليّة والأمر الاحترازيّ لوقف نار الحرب؟

 

أوروبيّة وأميركيّة وعربيّة، التي رافقتها منذ بدايتها دون حدود، ودون تحفّظات سرعان ما تحوّلت إلى دعوات لضبط النفس  وعدم استهداف المدنيّين، ومن ثمّ إلى دعوات لوقف الحرب، وعدم استخدام القوّة المفرطة؛ وهي تسمية دبلوماسيّة للقصف الجويّ والمدفعيّ للمناطق المأهولة، وصولًا إلى موقف عالميّ غير مسبوق يتمثّل في دعوة إسرائيل للمثول أمام محكمة العدل الدوليّة وفق شكوى قدّمتها جنوب أفريقيا. وهي خطوة تستلزم من إسرائيل وقفة مميّزة وتفكيرًا مليًّا، خاصّة وأن إسرائيل كانت طيلة سنوات نظام التفرقة العنصريّ الصديقة الصدوقة وأحيانًا الوحيدة لجنوب أفريقيا، والدولة الوحيدة التي زوّدتها بالأسلحة  والخبرات العسكريّة،

رغم أن معظم دول العالم كانت قد فرضت حظر تزويد الأسلحة لجنوب أفريقيا، ليتغيّر موقفها من النقيض الى النقيض، بعد انتهاء نظام الفصل العنصريّ، وانتهاء عهد سيطرة الأقليّة البيضاء، وتولي نلسون مانديلا رئيس المؤتمر الإفريقيّ منصب الرئاسة، وتتفّق مع غيرها من الحروب والحملات العسكريّة التي شهدها الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، أو النزاع العربيّ الإسرائيليّ،

إنها إن شاءت أم أبت، تتحوّل بعد أيّام من اندلاعها إلى ساعة رمليّة لا بدّ لها أن تفرغ يومًا ما، أي أن ينتهي "الرصيد الزمنيّ " العالميّ الممنوح لها. وهي كذلك هذه المرّة رغم أنها حرب تخوضها إسرائيل عسكريًّا، وتخوضها معها الولايات المتحدة دعمًا ومرافقةً ونصحًا على صعيد الدولتين،  أمّا على صعيد القيادة فهي حرب يخوضها بنيامين نتنياهو، وهو الذي يحدّد أو سيحدّد، وربما لا يريد أن يحدد موعد نهايتها، أو لا يريدها أن تنتهي خاصّة وأن مصادر أميركيّة،

موثوقة ومقرّبة من الإدارة الأميركيّة ، أعربت عن مخاوفها من أن يعمد نتنياهو إلى مواصلة الحرب في غزّة، مستعينًا لذلك بعدم تحديد الأهداف النهائيّة للحرب من جهة وصورة ما بعد الحرب غزيًّا وإسرائيليًّا على حدٍّ سواء، من جهة أخرى، وأن يسعى إلى توسيع نطاقها لتشمل "حزب الله" ولبنان، وربما جبهة أخرى مع سوريا، أو مع "أذرعه إيران في سوريا"، معتبرًا أن استمرار الحرب هو الضمان لبقائه السياسيّ، خاصّة وأن الأصوات التي تطالب بلجنة تحقيق رسميّة،

واستقالة نتنياهو، أو تنحيته، أو انتخابات جديدة، تتزايد يومًا بعد يوم،  ورغم ما سبق فإن المفارقة ربما الخطيرة، هي أن الرئيس الأميركيّ جو بايدن، يجد نفسه مضطرًّا رغم تلاشي الدعم الذي يحظى به عشية الانتخابات الأميركيّة الرئاسيّة في تشرين الثاني القريب، إلى أن يخوض مع نتنياهو الحرب إلى النهاية، التي سيقرّرها أيضًا  نتنياهو، وليس بايدن، الذي لا يمكنه حتى لو أراد ممارسة أيّ ضغط كان على إسرائيل، سواء كان ذلك عبر التهديد بوقف الدعم العسكريّ، أو حتى الدبلوماسيّ، فهي تستخدم حقّ النقض ضدّ أيّ قرار ملزم ضدّ إسرائيل في مجلس الأمن، وستواصل ذلك مستقبلًا، ما يعني أن نتنياهو يفهم الحالة جيّدًا  مقابل بايدن، وبالتالي يستغلّ ضعفه، وحاجته  إلى الأصوات اليهوديّة ودعم أصحاب الأموال اليهود، كمرشّح للرئاسة، وبالتالي لا يستطيع فرض إرادته على إسرائيل، أو نتنياهو الذي لا  يعامله على أنه شريك في هذه الحرب، بل ربما رهينة لها، رغم أنه لا يشارك في رسم مساراتها. 

 


داخليًّا، وفي تأكيد لخصوصيّة هذه الحرب، وانطلاقًا من خصوصيّة تركيبة وشخصيّات الحكومة الحاليّة خاصّةً الأصوليّة وتوتّرات العلاقات بين الشركاء في حكومة الحرب، يحضرني قول العسكريّ البريطانيّ، جون كوينتون ، إن السياسيّين هم الأشخاص الذين، عندما يرون الضوء في نهاية النفق

يخرجون خارجًا ويقومون بشراء  وحفر المزيد من الأنفاق، وهذا ما أكّدته جلسة مجلس الحرب الأخيرة، التي تحوّلت من ساحة للتداول في ما بعد الحرب، إلى ساحة لإلقاء التهم والاتهامات جزافًا على رئيس هيئة الأركان، هرتسي هليفي، في أفضل تعبير عن البحث عن أنفاق جديدة تمنع الضوء، وبكلمات أوضح، البحث عن طرق جديدة ومبتكرة منعًا لقدوم اليوم الذي ما بعد الحرب من جهة،

والبحث الذي ستجريه لجنة تحقيق رسميّة في الإخفاق الخطيرالذي سبق الحرب عسكريًّا وأمنيًّا، وهو إخفاق أعلن المسؤولون عنه من رئيس الشاباك مرورًا برئيس الموساد، وانتهاءً برئيس هيئة الأركان ،

مسؤوليّتهم عنه وتحمّلهم للمسؤوليّة، مع يقين يسود حوله الإجماع بأنهم سيستقيلون من مناصبهم فور انتهاء الحرب. وسياسيًّا، وهو إخفاق يتحمّله نتنياهو الذي كان قد كشف عام 2017 عن خطط وضعتها "حماس" لاقتحام تنفذه ضدّ المستوطنات الإسرائيليّة المتاخمة للقطاع جوًّا باستخدام مظلّات بمحرّكات،

وبرًّا عبر اجتياز السياج وعبر الأنفاق، وبحرًا واحتلال بعضها لعدّة ساعات واختطاف وقتل مدنيّين وجنود، في تعبير عن حالة لها وجهان، الأول تناقض بين الحرب، أو العمليّات العسكريّة وبين المجريات السياسيّة،

فها هي تلك السياسيّة تبلغ أوجها عبر اشتداد الخلافات والصراعات التي تشهدها  الحكومة الإسرائيليّة  على كافّة الأصعدة السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، ومردّها استحالة ملاءمة، أو تناسق الأجندات والمواقف  بين أطرافها،

وليس فقط بين بيني غانتس ومجموعته من حزب "المعسكر الرسميّ" مقابل اليمين المتطرّف ممثّلا بالوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش  اللذين يريدان استمرار الحرب حتى لا نهاية، ويصرّان على أن يتمّ القضاء على "حماس" دون تحديد ما يعنيه ذلك، كما يطالبان بالعودة إلى الاستيطان اليهوديّ المكثّف في كافّة أنحاء القطاع يرافقه تهجير "طوعيّ" للفلسطينيّين،

وهدم المنازل وتسويتها بالأرض- وهي تصريحات كانت في مقدّمة التصريحات والمواقف التي أوصلت إسرائيل إلى المثول أمام محكمة العدل الدوليّة-

واستيعاب عشرات الآلاف منهم في كل دولة أوروبيّة، ومعهم خلال جلسات الحكومة الوزيرة أوريت ستروك التي اتّضح أن الحرب الدائرة في القطاع وتلك المحتملة في الشمال مقابل "حزب الله" لا تقلقها ،

ولا تهمّها، بل إن كلّ ما يهمها هو" استرجاع عدد من بنادق كان وزير الأمن القوميّ بن غفيرقد وزّعها خلافًا للأنظمة، كما اكّدت المستشارة القضائيّة للحكومة. كما امتدّ النقاش ليشمل الانشقاق بين العسكريّين والسياسيّين داخل الحكومة، إذ حيث يرى العسكريّون أن السياسيّين يريدون تشويه سمعة الجيش،  وهذا إضافة إلى خلافات بين مركّباتها الأساسيّة وكلّها يمين، بين من يطالب بالسيطرة الأمنيّة والمدنيّة الإسرائيليّة على القطاع إلى الأبد باعتباره جزءًا من دولة إسرائيل،

وبين من يريد السماح لهيئة أخرى غير إسرائيل السيطرة مدنيًّا على الأقل على القطاع بعد انتهاء الحرب، وبين من يريد لجنة تحقيق برلمانيّة، أو حكوميّة تسيطر الحكومة على هويّة قضاتها وأعضائها،

وتتحكّم بنتائج تحقيقاتها وتوصياتها التي تعتبر مجرد نصائح وتوصيات وليست ملزمة، وبين من يريد  لجنة تحقيق رسميّة تبحث الإخفاقات التي سبقت الحرب. وهو تحقيق قد يطال بنيامين نتنياهو الذي يتّهمه كثيرون بأنه السبب في تعزيز حركة " حماس" عبر عشرات ملايين الدولارات شهريًّا  وطيلة سنوات عديدة، وصلتها من قطر،

كما رفض الاستماع إلى تحذيرات قادة الأجهزة الأمنيّة، حول تأثيرات الانقلاب الدستوريّ على قدرات الجيش ومدى جاهزيّته، وبالتالي لا يريدها نتنياهو ومؤيّدوه  الذين يواصلون اتّهام كلّ من هبّ ودبّ بالمسؤوليّة عمّا حدث بدءًا بالجيش والمخابرات مرورًا بالنشاطات الاحتجاجيّة ضد الانقلاب القضائيّ وانتهاءً برئيسيّ الوزراء السابقين أريئيل شارون المسؤول عن الانسحاب من طرف واحد من غزة عام 2005، وإسحق رابين الذي وقع اتفاقيّات أوسلو عام 1993،

وبين من يريد انتخابات قريبة، وتغيير سلّم أولويّات الحكومة، وبين من يريد بقاء الحكومة الحاليّة مهما كلَّف الثمن، وصولًا إلى الوضع الحالي الذي تزداد فيه حدّة الحرب الحزبيّة والسياسيّة، كلما خفّت حدّة ووتيرة ومستوى  القتال والنشاط العسكريّ، ولعلّ التعبير الأفضل لذلك هو الشعور السائد اليوم، بأن إمكانيّة ادّعاء  نتنياهو وحكومته تحقيق النصر وتحقيق كافّة أهداف الحرب أصبحت معدومة وغير ممكنة، خاصّة على ضوء استمرار الحرب أكثر ممّا توقّع قادة الجيش والقيادة السياسيّة وعدد الخسائر في صفوف الجيش، وكذلك الفشل في إجبار حركة "حماس" على إطلاق سراح الرهائن والمختطفين المتبقين لديه وعددهم يقارب 136،

 واستمرار إجلاء مئات آلاف المواطنين الإسرائيليّين، عن منازلهم ومدنهم منذ مئة يوم، دون أن تلوح في الأفق إمكانيّة إعادتهم، ويعني هذا أن "يوم الحساب" يقترب حتى لو تم تحقيق بعض الإنجازات الجزئيّة، زد على ذلك أن إصرار  نتنياهو على الاستمرار في الحرب، سيؤدّي إلى انسحاب بيني غانتس وتفكّك الائتلاف،

وبعدها انتخابات سريعة نتائجها واضحة، إذا ما صدقت الاستطلاعات،  وكلّ ذلك وسط دعم أميركيّ وعالميّ يتضاءل ويقلّ، يرافقه يقين عالميّ بأن القوة العسكريّة لا يمكنها أن تحسم المعركة، فهناك حاجة لعمليّة سياسيّة جديدة وموازية، يمكنها فرض النظام والترتيب في الشرق الأوسط الذي يبدو أنّ إدارة بايدن،

قرّرت  العودة إليه  بقوّة أكبر، باعتباره أحد شروط  استعادة هيبتها ودورها اللذين مسّهما الضرر جرّاء الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، وعدم تمكّنها من تحجيم صعود دور الصين عالميًّا. 

 


مثول إسرائيل إمام محكمة العدل الدوليّة، وما رافقه من ردود، كان دليلًا آخر على أن ألسنة اللهب السياسيّة ستزداد ارتفاعًا كلّما خفّت وتيرة الحرب العسكريّة، فاختلاف الردود يعكس، بشكل واضح،  عودة الحرب السياسيّة والحزبيّة، سواء تلك التي تتعلّق بحقيقة قبول إسرائيل المشاركة في جلسات المحكمة، رغم أنها ليست المرة الأولى التي تبحث المحكمة أمورًا تتعلّق بإسرائيل ومنها قضيّة الجدار الفاصل، والأصوات التي تطالب بعدم المثول أمامها باعتبار الحرب التي تواصلها إسرائيل في القطاع منذ نحو 100 يوم، هي دفاع عن النفس، بل ردّ مشروع على ما ارتكبه مسلحو حركة "حماس"  من فظائع في السابع من أكتوبر، وانطلاقًا من كون كافّة المواطنين في قطاع غزة، جزءًا من الحركة بشكل أو بآخر وبالتالي لا يمكن الحديث عن  مدنيّين أبرياء،

أو غير متورّطين يجب حمايتهم وعدم المسّ بهم ، والامتناع عن القصف غير الحذر للمناطق التي يقيمون فيها، بل العكس فبالنسبة لبعض أعضاء المجلس الوزاريّ، مصير قطاع غزة التسوية بالأرض والتهجير والهزيمة وعودة المستوطنين لإقامة منازلهم ومشاهدة البحر عن قرب،

أو تلك الأصوات المتعلّقة بهويّة من اختارته إسرائيل للدفاع عنها أمام محكمة العدل الدوليّة، وهو القاضي المتقاعد ورئيس المحكمة العليا السابق البروفيسور أهارون براك، الذي كالت له الحكومة الحاليّة بكافّة مركّباتها ومؤيّديها وأبواقها الإعلاميّة، ومنذ مطلع العام الماضي 2023 عامّة، وانطلاق الانقلاب القضائيّ خاصّة، أقذع التهم والشتائم،  باعتباره في نظرهم المسؤول الأول والأخير عن "عنجهيّة  وتسلّط محكمة العدل العليا" ،

ولوائح الاتهام بحقّ نتنياهو ، وإصرار قضاتها على التدخّل في ما لا يعنيهم، والقصد هنا مراقبة نشاطات وتصرّفات الوزراء، ومنع ارتكابهم مخالفات في مجال النزاهة ، وبكلمات أخرى منع الفساد، وهو ما واصل أولئك فعله اليوم، منتقدين قرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ليس لأسباب تتعلّق بقدرة القاضي المتقاعد براك، على تمثيل إسرائيل كجزء من حقّها الدستوري في تعيين قاضٍ من طرفها بصفتها الدولة المُشْتَكَّى عليها،

وهي قدرات يعترف بها القاصي والداني محليًّا وعالميًّا، بل من منطلق سياسيّ وحزبيّ ضيّق ، يؤكّد لمن اعتقد أن الحرب تعني عدم الانشغال بالسياسة الضيّقة "عداوات الماضي، أنه على خطأ، وأن عددًا من الشركاء في الائتلاف الحاليّ، من الليكود وغيره من أحزاب اليمين، وفي مقدّمتهم، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، يدركون أنه بإمكانهم إطلاق التصريحات والمواقف كما يشاؤون ومتى أرادوا، دون أن يجرؤ نتنياهو على إقالتهم، أو حتى توبيخهم، أو ردعهم، فهو بحاجة إليهم لضمان بقائه السياسيّ، وعلى شاكلته كثيرون.

 


المواقف من مشاركة إسرائيل في جلسات محكمة العدل الدوليّة في لاهاي، تثير، وبحقّ، قلق إسرائيل عامّة والقيادات العسكريّة خاصّة، علمًا أن جنوب أفريقيا التي تقدّمت بالشكوى ضد إسرائيل تنسب لها تهمة ارتكاب جريمة إبادة شعب، وهي جريمة بحثتها محكمة العدل الدوليّة ثلاث مرّاتٍ فقط، الأولى في الحرب الأهليّة في يوغسلافيا سابقًا،

وتحديدًا محاكمة الرئيس الصربيّ حينها بتهمة ارتكاب هذه المخالفة على ضوء المذبحة البشعة في مدينة سربرينيتسا، والثانية تتعلّق بإبادة أقلية الروهينغا المسلمة في ميانامار( بورما سابقا) ،حيث أصدرت المحكمة عام 2020 أمرًا بوقف الحرب هناك، والثالثة قضية الحرب الروسيّة الأوكرانيّة،

والعقوبات الدوليّة ضد روسيا عامّة والرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين خاصّة، علمًا أن مشاركة إسرائيل في جلسات محكمة العدل الدوليّة في لاهاي، تشكّل سابقة غير مألوفة، خاصّة أن إسرائيل دأبت رغم كونها عضوًا في المحكمة وتوقيعها الميثاق الدوليّ ضدّ جرائم الإبادة، بعكس السلطة الفلسطينيّة وحركة "حماس" اللتين لا يمكنهما تقديم الشكوى ضدّ إسرائيل، ولا يمكن لإسرائيل تقديم دعوى بحقّ أيٍ منهما لأنهما ليسا بمكانة دولة،

على مقاطعة جلسات لجان التحقيق والمحاكم الدوليّة وخاصّة الجنائيّة، وليس ذلك فحسب، بل الإعلان مسبقًا أن قرارات هذه اللجان والمؤسّسات غير نزيهة وغير ملزمة، بل إنها معادية لإسرائيل، وبالتالي فإن المشاركة هذه المرّة، تشير ربما إلى أن إسرائيل تخشى نتائج التحقيق خاصّة، وأنه يحقّ للمحكمة إصدار أمر احترازيّ، أو قرار بوقف الحرب،  وأنها تدرك حجم الضرر الذي قد تلحقه قرارات المحكمة،

خاصّة إذا ما قرّرت المحكمة أن إسرائيل تمارس عمليّات إبادة في قطاع غزة، ذلك أن الشكوى، أو الدعوى المقدَّمة من قبل جنوب أفريقيا تشمل عدّة بنود منها إبادة شعب، واستخدام القوّة المفرطة والمسّ المتعمّد بالمدنيّين، فقراراتها تكون ضد الدول بعكس محكمة الجنايات الدوليّة التي يمكنها إصدار أوامر اعتقال شخصيّة فقط ضد القيادات والجنود والضباط وإلزامهم بالمثول أمام المحكمة واعتقالهم، وبالتالي يمكن لقرار المحكمة،

ورغم أنها لا تملك القوة لإجبار إسرائيل على تنفيذه حتى لو تم رفعه إلى مجلس الأمن الدوليّ، خاصّة إذا ما استخدمت الولايات المتحدة حقّ النقض الفيتو كما فعلت روسيا بالنسبة لقرار المحكمة حول الحرب مع أوكرانيا ، لكنّه رغم ذلك يمكن أن يشكّل مقدمةً لدول معيّنة لمقاطعة إسرائيل، أو مقاطعة  الشركات الاقتصاديّة وفرض العقوبات ومنها الاقتصاديّة،

تمامًا كمنع تصدير النفط إلى روسيا ومنع استيراد المواد الغذائيّة منها، وفصلها عن منظّمة نقل الأموال الدوليّة، أو إصدار أوامر اعتقال دوليّة بحقّ قادة الدولة، وهذه المرّة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، علمًا أنه سبق أن صدرت أوامر اعتقال شخصيّة  من محكمة الجنايات الدوليّة، ضد قياديّين إسرائيليّين منهم وزيرة الخارجيّة في حينه تسيبي ليفني وقائد المنطقة الجنوبيّة السابق الضابط دورون ألموغ وغيرهم دون أن تصل إلى مرحلة التنفيذ.

 


ورغم أن مجرد تقديم الشكوى من جنوب أفريقيا  لا يعني شيئًا، بل إن إثبات ارتكاب دولة ما، وفي حالتنا هذه إسرائيل، الإبادة الجماعيّة، يستوجب إيجاد إثباتات قاطعة حول التحريض على الإبادة ووجود نيّةٍ مبيّتة مع سبق الإصرار والترصّد لارتكابها وتنفيذها، وهو ما تنفيه إسرائيل، والتي أعلنت  أن كافّة التصريحات حول هدم غزة وترحيل مواطنيها وتسويتها بالأرض،

وتحويلها إلى ساحة فارغة، جاءت من شخصيّات بعيدة عن مواقع اتّخاذ القرار الملزم في الحرب، وأنها شخصيّات عديمة التأثير، ورغم ذلك فإن هذا الأمر يخيف إسرائيل كثيرًا، خاصّة وأن بعض التصريحات جاءت من وزراء في الحكومة منهم الوزير عميحاي إلياهو الذي دعا إلى القاء قنبلة ذريّة على قطاع غزة، والوزيران سموتريتش وبن غفير اللذان يطالبان بتهجير الفلسطينيّين من غزة، وإفراغها من سكانها وإعادة المستوطنين اليهود إليها، ومعهم  عدد من النواب اليمنيين في البرلمان، وإعلاميّون طالبوا و يطالبون بقصف يوقع مئة ألف قتيل مرة واحدة،

 وهو ما دعا مسؤولين قضائيّين إلى التحذير ومنذ الأسبوع الأول للحرب، من خطورة ومغبّة الحديث عن محو غزة عن الوجود وتسويتها بالأرض( تسطيح غزة)،

وكذلك من خطورة الصمت الرسميّ خاصّة من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إزاء هذه التصريحات، التي لم تُواجَه بردود فعل حادّة ورسميّة، علمًا أن شخصيّات اعتباريّة، ومنها  ثلاثة سفراء سابقين، كانت قد أرسلت رسائل إلى  المستشارة القضائيّة  للحكومة، شملت في طيّاتها  تحذيرًا حول كون عدم اتّخاذ إجراءات ضد تصريحات السياسيين والإعلاميين والمؤثّرين والفنّانين وغيرهم، حول تأييدهم للمحو والتدمير الشامل، يزيد من قناعة العالم بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعيّة،

أو تنوي ذلك، خاصّة وأن هذه التصريحات وتحديدًا حول عمليات الإخلاء الطوعيّ، أو الهجرة الطوعيّة، أو التهجير ، تعيد إلى الأذهان  القول الشهير لرئيس الحكومة الأول في إسرائيل دافيد بن غوريون الذي قال إن  تنفيذ عمليّات التهجير القسريّ ستوفّر لإسرائيل مساحات شاسعة لإقامة المستوطنات لليهود، وأنّه يؤيّد الترحيل حتى القسريّ للسكان، ولا يرى فيه أيّ شيء غير أخلاقيّ،

بل إنه ضرورة ملحّة لقيام دولة إسرائيل، وكم بالحري أن بعض من أطلق التصريحات حول التهجير الطوعيّ، أو غيره، يتبعونها بتصريحات حول كون هذه الحرب، حرب التحرير الثانية لإسرائيل بعد تلك التي كانت عام 1948، وما يرافق ذلك من حديث عن إخلاء قسريّ للآلاف من الفلسطينيّين في الضفة الغربيّة منذ بداية الحرب قبل أكثر من ثلاثة أشهر.
إذن...صورة الوضع حاليًّا تبدو غير واضحة المعالم،

لكنها رغم عدم وضوحها تملك مقوّمات، وتشمل معطيات معظمها سلبيّة، خاصّةً على الصعيد الإسرائيليّ الداخليّ، وذلك يشمل خلافات مستمرة بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزراء موالين له بشكل شخصيّ من حكومته، مع قادة الجيش، وفي مقدمتهم  وزير الأمن يوآف غالانت ، ورئيس الأركان هرتسي هليفي، الذي تعرّض لهجوم شخصيّ غير مسبوق من عدد من الوزراء لمجرد اتّخاذه قرارًا بتشكيل لجنة فحص داخليّة في الجيش تستخلص العبر من إخفاقات عملياتيّة عسكريّة لا علاقة لها بما كان قبل السابع من أكتوبر وخلاله،

بل تهدف إلى وضع خطط مستقبليّة واتّخاذ خطوات لتحسين أداء الجيش ومنع إصابات بين الجنود، وذلك لأن هؤلاء الوزراء لا يريدون أيّ تحقيق حول ما كان، إيمانًا منهم بأن أيّ تحقيق جديّ ورسميّ، أو حتى داخل الجيش،، سيؤدّي إلى كشف تقصيرات المستوى السياسيّ، وعلى رأسه بنيامين نتنياهو،

في الوقت الذي يحاول فعل كل ّما يمكن، لإثبات تقصير" الطرف الآخر" وتحديدًا الجيش والمخابرات، والتهرّب من مسؤوليّته عن الفشل في  السابع من أكتوبر، وما سبقه وأدّى إليه، وإلى ذلك يضاف الاعتقاد السائد والذي أكّده القياديّ في الحزب الحاكم الليكود، داني دانون الذي أعلن أن إسرائيل لم تحقّق حتى اليوم الأهداف التي رسمتها لنفسها في قطاع غزة، سواء كانت  القضاء على "حماس"،

أو ضمان  عودة كافّة الرهائن، أو استعادة قوّة الردع مقابل "حزب الله" في لبنان، وهو الرأي السائد اليوم في إسرائيل، وإن خفتت أصواته،  إضافة إلى بوادر لتفكّك الانضباط الليكوديّ الداخليّ، وازدياد الأصوات التي تطالب بصياغة أهداف واضحة للحرب، وتدعو إلى تشكيل لجنة تحقيق رسميّة، وكلّ ذلك على وقع إعلان وزير الأمن يوآف غالانت والناطق بلسان الجيش  دانييل هاجاري، الانتقال من المرحلة الثانية في الحرب إلى المرحلة الثالثة، أي استمرار العمليّات العسكريّة، وليس الحرب، دون أن يناقش المجلس الأمني المصغر ذلك، بكلّ ما يعنيه  الأمر من تخفيف لعدد الجنود والعتاد ووتيرة القصف،

وإمكانيّة عودة فلسطينيّي غزة إلى شمالها التي طالب بها وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن خلال لقائه الأخير مع نتنياهو الذي رفض الطلب الأمريكيّ،  إضافة إلى تغيّب أعضاء المعسكر الرسميّ عن جلسات الحكومة الأسبوعيّة كنوع من التوتّر الذي يشير في نظر الكثيرين إلى قرب انفكاك،

أو انفراط عقد ومسبحة حكومة الحرب، والدليل على ذلك هو اتّهام الليكود للوزير بيني غانتس بأن تغيّبه عن الجلسة هو بحث عن طريقة للانسحاب من الحكومة وتفكيكها وجرّ إسرائيل إلى انتخابات، وكذلك الحال في الجبهة الشماليّة ومقابل حزب الله، والآن قضيّة محكمة العدل الدوليّة، واحتمال وصم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وهي وصمة تعيد إلى أذهان كل من حاول  النسيان،

أو تعمّد التناسي، أن الحرب الحاليّة بكل ما رافقها داخليًّا من مظاهر وتضييق وتصريحات ومواقف تتجاهل القانون، أو الأعراف المتّبعة، وتنافي ما كان متّبعًا، من أخلاقيّات للنقاش والتصريحات والتصرّفات تجاه أصحاب الرأي  المخالف وحتى عائلات المختطفين، لن تنتهي بنهايتها الرسميّة وإعلان الحكومة ذلك، بمعنى أن نهاية الحرب العسكريّة الحاليّة، واستخلاص العبر منها، هي بداية لمعركة  ستشهدها إسرائيل حول القيم والأخلاقيّات والحدود السياسيّة والإعلاميّة، وحقوق المواطنين والشفافيّة السياسيّة والمسؤوليّة الرسميّة المترتّبة على أصحاب المناصب،

وكذلك حول غياب المصلحة العامّة عن الساحة وهزيمتها المطلقة أمام المصالح الضيّقة والحزبيّة والشخصيّة. هذا على ضوء ما حدث من رفض لمحكمة العدل العليا لقانوني الأرجحيّة والتغيُّب، وهما ضربة قاصمة لتوجّهات الحكومة الحاليّة والائتلاف الحالي وانقلابه القضائيّ،  وراية حمراء أمام أخلاقيّات العمل البرلمانيّ والتشريعيّ المتعلّق بهما وبالانقلاب القضائيّ،

وما رافقه من دوس لقيم أخرى تتعلّق بحقوق المعارضة، واحترام القضاة المتقاعدين ومنع التشهير بهم، وأحدهم القاضي أهارون براك الذي تحوّل، في ضربة أخرى للأخلاقيّات والتصرّفات سابقة الذكر، من عدو لدود للحكومة ورئيسها إلى صديق حميم، وإلى منقذ للدولة ومدافع عنها، ...معركة حول الأخلاقيّات والقيم لنا عنها قريبًا، حديثٌ طويل.... وخاصّة إذا ما قرّرت محكمة العدل الدوليّة في الأيام القادمة إصدار قرار احترازيّ بوقف النار والذي لا أستبعده رغم وجود الرئيس القاضي المتقاعد أستاذي في كليّة الحقوق في الجامعة العبريّة، وتربطني به علاقات حميميّة منذ عشرات السنوات، رغم الكثير من الخلافات في الرأي بما يتعلّق بالقضاء الإسرائيليّ والعدالة.


 

תגובות

מומלצים