هل تصبح الحرب غايةً وهدفًا؟

مئة وستّة أيام بالتمام والكمال انقضت، منذ اندلعت حرب أكتوبر للعام 2023، والتي تزداد ضبابيّتها كلّما طال أمدها. وليس ذلك فقط، بل يبدو إنها بخلاف ما سبقها، لا تقترب من نهايتها كلّما طالت مدّتها أو أيامها، بمعنى أنها ولأسباب سنأتي عليها قريبًا، قد تتحوّل من حرب تبدأ وتنتهي إلى حرب بدأت بقرار سياسيّ، وتتواصل بقرار سياسيّ بعيدًا كلّ البعد عن المجريات العسكريّة والميدانيّة العملياتيّة على أرض الواقع.

20.01.2024 מאת: المحامي زكي كمال
هل تصبح الحرب غايةً وهدفًا؟

 

وبكلمات أخرى قد تتحوّل إلى نسخة ثانية من حرب لبنان الأولى، من حيث تحوّلها إلى حرب استنزاف، أو إلى "غوص في الوحل اللبنانيّ"  وفق القول الشهير  والمُتَداوَل من ثمانينيّات القرن الماضي، ناهيك عن أنها، ومن جهة عوامل ومقوّمات  العلاقة الداخليّة، أو ميزان القوى بين المركّبات السياسيّة والعسكريّة في طرفيها تتشابه أحيانًا، وتختلف أحيانًا أخرى، فالقرار الأوّل والأخير في الطرف الإسرائيليّ هو لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أيّ للمستوى السياسيّ الذي يملك القول الفصل، ويحدّد أهدافها، وبالتالي مدّتها ومداها وحجمها،  لكنّها مختلفة في حالة "حماس" فالكلمة الفصل كما يبدو هي للعسكر وخاصّة محمد الضيف ومعه يحيى السنوار رئيس المكتب السياسيّ، أي أن الجغرافيا هي التي تحدّد القوّة ومصدر السيطرة

 

ومن هنا يقول البعض إن كون السياسيّين أصحاب القول الفصل والقرار النهائيّ، أو الكلمة الأخيرة، يملك من الإيجابيات الكثير باعتبار الفكرة السائدة لدى العامّة تقول إن السياسيّين أكثر اتّزانًا وأقل رغبة في استخدام القوّة، وأنهم دائمًا ينتهجون أسلوب فنّ الممكن، لكنّها تملك ربما في حالات معيّنة سلبيّات خطيرة باعتبارها قد تشكّل لدى بعض السياسيّين وسيلة لتحقيق أهداف سياسيّة شخصيّة، أو تكريس سلطان أو سلطة ما، كما كانت الحرب الأهليّة في سوريا التي غذَّاها الرئيس السوري بشار الأسد، لضرب معارضيه ومنع أيّ مطالبة بالديمقراطيّة والحريّة والمساواة وحقوق المواطنين في الخبز  والعيش بكرامة وعدم كمّ الافواه، أو حرب لبنان الأولى من العام 1982، والتي تغيّرت أهدافها  العسكريّة وبدوافع سياسيّة،  من خلق  منطقة عازلة بعرض 40 كيلومترًا، أو إبعاد المسلّحين الفلسطينيّين عن حدود إسرائيل نحو نهر الليطاني، إلى محاولة للقضاء على منظّمة التحرير الفلسطينيّة عسكريًّا وذلك خدمة لأهداف سياسيّة  حتّمها التحالف بين إسرائيل وحزب الكتائب اللبناني وغيره من القوى، وذلك في غمرة الحرب الأهليّة اللبنانيّة

 

والحرب العراقيّة الإيرانيّة التي استمرت ثمانية أعوام بين 1980-1988، وربما حرب اليمن التي جاءت لخدمة أهداف سياسيّة ملخصها رغبة الدول الخليجيّة التي شاركت فيها، وفي مقدّمتها السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة عام 2015 ، منع إيران من توسيع نفوذها وتوسيع تأثيرها ليشمل دولة أخرى إضافة إلى قطر، وهو ما تساور البعض الشكوك حول كونه سيّد الموقف في الحرب الحاليّة على غزة، والتي يبدو ووفقًا لما كشفت عنه مصادر أميركيّة مطّلعة تضاف إليها وربما قبلها  مصادر سياسيّة إسرائيليّة ، من كون رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ربما يعمد إلى إطالة أمد الحرب وإطالة عمرها بشكل متعمّد ومقصود لأهداف سياسيّة تتلخّص في رغبته في تجنّب مستحقات واستحقاقات "ما بعد الحرب" ، وأولها منع تشكيل لجنة تحقيق رسميّة، ومحاولة التهرّب من دفع الثمن الذي تطلبه غالبّية واسعة من الشعب في إسرائيل، بصفته المسؤول الأول كرئيس للحكومة، عن الفشل  الذريع الذي تمخضت عنه هجمات السابع من أكتوبر2023 ، وهي مطالبة تصل حدّ المطالبة بالتنحّي، أو التوجّه إلى انتخابات سريعة تنبثق عنها قيادة جديدة، خاصّة وأن تصريحات نتنياهو تبدو الأكثر حدّةً تأييدًا لاستمرار الحرب ومنع وقفها

 

وكذلك قضية الرهائن والمختطفين الذين تتزايد الجهود الداعية لبذل الغالي والنفيس لإعادتهم إلى البلاد بصحة وعافية، واعتبار استعادتهم الغاية الأولى للحرب، وهدفًا يسبق قضية القضاء على "حماس" ويحتلّ الأولوية القصوى، وهو ما كان قد أكّده خلال جلسة الحكومة مطلع الأسبوع الحالي الوزير غادي ايزنكوت من المعسكر الرسميّ، الذي انضمّ إلى الحكومة بسبب الحرب فقط، والذي طالب باتخاذ قرارات شجاعة والكفّ عن خداع الجمهور، وبكلمات أخرى غير دبلوماسيّة، الإعلان عن أن قضية استعادة الرهائن والمختطفين هي  الهَمْ الأول والأهمّ والقابل للتحقيق، بعكس الأهداف المعلنة للحرب،  وفي مقدّمتها القضاء على "حماس"  دون شرح مضمون هذا الشعار، وهي أهداف  تلفّها الضبابيّة وتسمح بإطالة أمد الحرب،  خاصّة إذا أراد السياسيّون ذلك، أو إذا ما ابتهجوا بالحرب وكانوا من المُغْرَمين بها، في تصديق للقول الشهير، للشاعر والفيلسوف الأمريكي جورج سانتايانا، والذي قال إن الابتهاج بالحرب ميزة جيّدة في الجندي، وخاصّيّة خطرة في القائد، وجريمة نكراء في رجال السياسة .

 

ما سبق من حديث عن رجال السياسة الذين يبتهجون بالحرب، ويريدون لها الاستمرار مع المزيد من الضحايا في طرفيها، تؤكّد خطورته مجريات محكمة العدل الدوليّة التي جرت في مدينة "هاغ" الهولنديّة، والتي بحثت الشكوى التي قدّمتها جنوب أفريقيا واتهمت إسرائيل فيها بارتكاب إبادة جماعيّة ضدّ الشعب الفلسطينيّ، واستعانت لإثبات ذلك بتصريحات رسميّة لعدد كبير من المسؤولين الرسميّين والوزراء ونواب لرئيس البرلمان، وغيرهم من مسؤولين يُعْتَبَرون، في كلّ دولةٍ تعتبر نفسها ديمقراطيّة أو ليبراليّة، أصحاب مسؤوليّة وجزءًا من كبار المسؤولين سياسيًّا، يتوقّع منهم التحلّي بالمسؤوليّة والرزانة وانتقاء التصريحات، والأخذ بعين الاعتبار أن للحرب قوانينها، وأن تصريحاتهم بحكم مواقعهم تُمَثِّلُ بلادَهم، وبالتالي لا يمكن لهم، إذا أرادوا ان لا تَمْثُلَ بلادُهُم أمام محكمة العدل الدوليّة، وأن لا تطالها المسؤوليّة، أو المساءلة القانونيّة، أن يتحدّثوا عن إلقاء قنبلة نوويّة على قطاع غزة، ولا عن تهجير قسريّ كان أم طوعيًّا، ولا عن عدم وجود أبرياء بين المدنيّين يجب الامتناع عن المسّ بهم، بل اعتبارهم جميعًا إرهابيّين يجب القضاء عليهم

 

ولا حديث عن استئناف الاستيطان اليهوديّ في القطاع، وإبعاد الغزيين الى مصر، أو إلى دول أوروبيّة، وغير ذلك من التصريحات التي تواصلت حتى بعد جلسة محكمة العدل الدوليّة على لسان سياسييّن وإعلاميّين موالين للحكومة، اعتبروا كلّ من يطالب بوقف إطلاق النار مندوبًا لحركة "حماس"، كما قالوا عن جنوب أفريقيا، أو نازيًا كما قال الوزير إيتمار بن غفير عن الرئيس التركي أردوغان الذي اتهم إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة الشعب الفلسطينيّ في غزة، وأعلن أنه زوّد محكمة العدل الدوليّة بأدلّة وإثباتات حول تورّط إسرائيل في إبادة جماعيّة،  في أفضل تأكيد على أمرين ،أوّلهما أن هذا الأمر يعزّز الشعور السائد حول كون الحكومة ، وهي الممثّلة الأولى للسياسيّين، لا تدير الأمور بشكل جيّد ومفيد، سواء كان ذلك يتعلّق بالحرب والأبعاد السياسيّة التي ترافقها محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا، أو بالجوانب الداخليّة المتعلّقة بالحياة اليوميّة للمواطنين، وتحديدًا كما اتّضح من المعلومات والمعطيّات التي تكشّفت حول الميزانيّة الحكوميّة  للعام المالي 2024، والتي تؤكّد أن لا إدارة صحيحة، وأن لا سلّم أولويّات واضح وصريح، أو أهداف واضحة للعيان، بل تكريس للميزانيّة التي يتم تسميتها بميزانيّة الحرب، يتمّ استغلالها لأهداف سياسيّة وحزبيّة ضيّقة، سنشرحها لاحقًا، في تأكيد لقول شارل ديغول القائد الفرنسيّ الشهير الذي اشتهر بقوله:

 

" لقد توصّلت إلى قناعة مفادها أن السياسة أمر أكثر جديّة من أن يُترك للسياسيّين"، مؤكّدًا أن مصالح بعض السياسيّين وأهوائهم قد تبعدهم عن رؤية الصواب، أو قول الحقيقة واتّخاذ القرارات الصحيحة واللازمة والشجاعة، والميل إلى  الشخصانيّة والغوغائيّة والتطرّف والقاعدة الانتخابيّة بعيدًا عن ألمصلحة العامّة. وهذا ما اتّضح من خلال جلسات محكمة العدل الدوليّة،  وتحديدًا قرار حكومة إسرائيل اختيار القاضي المتقاعد  البروفيسور أهارون  براك قاضيًا ممّثلًا لإسرائيل ينضمّ إلى تركيبة قضاة المحكمة الخمسة عشر، بدلًا من اختيار شخصيّة سياسيّة يمكنها أن تنحو إلى الجانب السياسيّ بعيدًا عن الحقائق والوقائع المدروسة والعقلانيّة.

 

وهو ما أكّده إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وبالإنجليزيّة أن إسرائيل ، وبخلاف تصريحات السياسيّين المتطرّفين من حكومته وائتلافه بما فيه بعض أعضاء حزبه "الليكود"  لا تنوي تهجير فلسطينيي غزة، ولا تنوي البقاء فيها إلى الأبد ، ولا تريد استئناف الاستيطان اليهوديّ فيها، وليس ذلك فقط،  بل إعلان إسرائيل رسميًّا وعلى لسان ممثلّيها من المحامين أمام المحكمة وفي مقدّمتهم البريطانيّ، مالكولم شو، بأنها  تصريحات عشوائيّة وفارغة،  وأن أيًّا من هذه التصريحات لا يشكّل سياسة رسميّة للحكومة الإسرائيليّة،

 

وبالتالي لا يمكنها أن تشكّل أيّ إثبات لوجود نية لدى إسرائيل لإبادة الشعب الفلسطينيّ، بل إن ما تسعى إليه إسرائيل من خلال عمليّاتها في غزة هو ليس إبادة الشعب الفلسطينيّ، بل بالعكس فهي تعمل على حماية شعبها الذي يواجه هجمات على جبهات عدّة،  بمعنى أن  القاضي مالكولم شو، وهو مندوب رسميّ لحكومة إسرائيل ودولة إسرائيل، يعترف أن أولئك السياسيّين لا يمثّلون  إسرائيل الرسميّة، أو حتى الحكومة التي هم أعضاء فيها، بتصريحاتهم ومواقفهم التي تهوى الحرب، وتريد استمرارها ومعها المزيد من النتائج الكارثيّة لطرفي الحرب، مضيفًا أن الأمر الوحيد ذات الأهميّة والوزن والذي على المحكمة أخذه بالحسبان، أو الاهتمام به، هو ما إذا كانت هذه التصريحات تعكس قرارات، أو توجيهات رسميّة صادرة عن الحكومة الإسرائيليّة ومجلس الحرب، وهو ادّعاء حتى وإن صدق قضائيًّا فإنه يثبت دون شكّ وجود فشل بنيويّ أساسيّ وخطير في عمل الحكومة من جهة، وسيطرة رئيسها على مجريات الأمور فيها،

 

أو بكلمات أخرى فإن ورود هذه التصريحات ضمن بنود الاتهام في دعوى جنوب أفريقيا، واستخدامها أدلة تعتبرها جنوب أفريقيا، دامغة لإثبات وجود نية إسرائيليّة لارتكاب جرائم حرب، أو إبادة جماعيّة، يؤكّد أن وصول إسرائيل إلى محكمة العدل الدوليّة، أو الوصول إلى وضع تتقدّم فيه دولة بشكوى ضدّها تضطر إسرائيل بسببها، للمثول أمام المحكمة خلافًا لنهجها الدائم،  وربما باعتراف ضمنيّ بكونها تشمل بعض الحقيقة، أو ترافقها أدلة قد تدينها، هو التأكيد على فشل حكومة نتنياهو الحالية، حتى يمكن القول :

 

" في هاغ انكشف فشل حكومة نتنياهو"، وهو فشل يؤكّده، شئنا أم أبينا، وإن شاء نتنياهو أو أبى، اختياره للقاضي أهارون براك للدفاع عن إسرائيل، فهو اعتراف بما كان واضحًا للجميع من أن الجهاز القضائيّ المستقل والقويّ الذي تتمتّع به إسرائيل منذ إقامتها، شكَّل القبّة الحديديّة القضائيّة  لدولة إسرائيل، إزاء الأخطار والتهديدات الخارجيّة القضائيّة والأخرى، وفي مقدّمة هذا الجهاز القضائيّ محكمة العدل العليا على اختلاف رؤسائها بدءًا بالقاضي موشيه زمورا الرئيس الأوّل مرورًا بالقضاة شمعون إغرانات ويوئيل زوسمان ومئير شمغار وأهارون براك ، وانتهاءً بمريم ناؤور وإستير حيوت ، وهو الجهاز الذي كانت الحكومة الحاليّة ورئيسها قد أعلنته عدوًّا يجب إخضاعه، بل تغيير أسسه وتقويضها وتحويل ممثّلي الجهاز القضائيّ في الوزارات كلّها وكذلك المستشار القضائي للحكومة، إلى شخصيّات لا صلاحيّة لها يهدّدها خطر الفصل السياسيّ، باعتبارها مناصب يسيطر عليها السياسيّون، ويدين أصحابها بالولاء لمن عيَّنَهُم.

 

الحديث عن فشل السياسيّين  الحاليّين تؤكّده تصريحاتهم المتتالية، والتي تشير بشكل لا يقبل الشك والتأويل إلى أنهم لا يتمتّعون بالحدّ الأدنى من المسؤوليّة الشخصيّة، أو إمكانية رؤية الوقائع كما هي، فالحديث السائد في الحكومة الحاليّة حول أن شيئًا لم يتغير منذ 1948 وحتى اليوم، وأن العالم كلّه معادٍ لإسرائيل، هو دليل على ذلك ، فإسرائيل وهذه هي الحقيقة، لم تصل محكمة العدل الدوليّة، ولم تقدّم بحقّها شكاوى إلى هذه المحكمة التي أقيمت عام 1945 منعًا لتكرار إبادة الشعب، كما حدث خلال المحرقة النازيّة والهولوكوست، بسبب حرب 1948 ولا حرب الأيام الستة عام 1967، ولا حرب لبنان عام 1982 أو عام 2006، أو العمليّات العسكريّة المتتالية ضمن المواجهة المتكرّرة مع "حماس" في غزة، بل إنها وصلتها في ظلّ وزراء طالب  أحدهم بحرق بلدة حوارة الفلسطينيّة،  وعدم منح السلطات المحليّة العربيّة والمواطنين العرب الإسرائيليّين ميزانيات تحقّ لهم وفق القانون

 

وطالب آخر بإعدام مسلّح فلسطينيّ من مسلّحي النخبة التابعة لحركة "حماس"  دون محاكمة، في كلّ يوم لا يتم فيه إطلاق سراح المخطوفين الإسرائيليّين، كما طالب بتغيير تعليمات إطلاق النار على المتظاهرين، وطالب أحدهم بإلقاء قنبلة نوويّة على قطاع غزة بكامل مدنيّيه ومواطنيه، وطالب  آخرون باتهام قضاة المحكمة العليا بالخيانة، وإعدام سياسيّين سابقين، لمجرّد أنهم يعارضون الحكومة الحاليّة بتشكيلتها اليمينيّة المتطرّفة وغير المسبوقة، كما طالب رئيسها بحرب لا تبقي ولا تذر حتى القضاء على نسل العماليق، وهم أعداء اليهود الذين يشمل القضاء عليهم قتل الأطفال والنساء والدواب والنباتات وغيرها وفقًا للتوراة التي اقتبس منها نتنياهو في أول خطاب له فور نشوب الحرب

 

وكلّها تصريحات تشير إلى فشل خطير في فهم الساحة الدوليّة، فنتنياهو الذي  يعرف أكثر من غيره والذي يتباهى بفهم الأميركيّين والأوروبيّين بشكل تامّ،   كان عليه أن يدرك، ويقينًا يدرك، أن إدانة إسرائيل في "هاغ" هذه المرة وإصدار أيّ أمر بحقّها حتى لو لم يكن ملزمًا بوقف إطلاق النار بشكل فوريّ، سيكون بمثابة الخطوة الأولى، أو القطر في أول الغيث، وأنه ستليه خطوات عقابيّة أخرى، وأنه يدرك ما حدث للزعيم الصربي سلوفودان ميلوسوفيتش، الذي مثل أمام المحكمة وأدين بجرائم حرب وقضى في السجن، بمعنى أن الإدانة ستكون كرة ثلج تتدحرج وتزداد قوةً وخطورةً، ولن تنفع حينها آيات الندم والتصريحات بأن الوزراء لا يمثّلون الحكومة، وأن نائب رئيس البرلمان وهو في الدول الديمقراطيّة واحد من رموز الدولة وقياداتها، لا يفقه ما يفعل.

 

الابتهاج بالحرب إذن، ميزة خطرة في القائد العسكريّ، وجريمة نكراء في رجال السياسة ، وهذا وللأسف ربما ما لا يدركه القادة في الأطراف التي تخوض الحرب اليوم في غزة وعلى الحدود الشماليّة، فلو كانت  مهمّة توفير مقومّات الحياة والاقتصاد والأكاديميا هي الهمّ الذي أشغل ويشغل قادة حركة "حماس" منذ 2007 وحتى اليوم، وليس الابتهاج بالحرب، أو ربما حتى إدمان المواجهة العسكريّة، لكانوا استغلّوا مليارات الدولارات التي حصلوا عليها من الدول الأوروبيّة ومن قطر خاصّة ودول الخليج عامّة، والتي بنت بعضها أحياء كاملة تشمل مئات، أو ربما آلاف الشقق السكنيّة على نفقتها الخاصّة، وموَّلت أخرى مؤسّسات طبية ومدارس، في بناء وإقامة البنى التحتيّة التي تضمن أماكن العمل والإنتاج وتوفر الخدمات والاحتياجات الصحيّة والتعليميّة والاجتماعيّة،

 

وباختصار بناء مجتمع يطيب العيش فيه، ويتمكّن المواطن الغزيّ فيه من التطوّر والتقدّم والازدهار ، خاصّة إذا ما أضيف إلى ذلك حقيقة وجود نحو 100 ألف عامل غزيّ يعملون في إسرائيل، لتوفّرت في القطاع عوامل الحياة والتطور، ولكان موقعًا يمكن العيش فيه خاصّة لجيل الشباب الذي يجد اليوم نفسه، بين سندان الفقر ومطرقة النزوح إلى أوروبا عبر البحر، وما يوقعه ذلك من ضحايا في الأرواح، لكن "حماس" اختارت الجهاد العسكريّ والسعي لتطبيق ميثاقها الذي يدعو إلى إبادة إسرائيل، كما أنها لم تستغل الشروط والاقتراحات التي وضعتها الرباعيّة الدوليّة لرفع الحصار عن غزة واحترام الاتفاقيّات التي وقّعتها مع حركة "فتح" ووقف العمليّات العسكريّة،

 

ربما بخلاف السلطة الفلسطينيّة التي اختارت محاولة التوصّل إلى اتفاقيّات سلام مع إسرائيل ، والعمل ، رغم أن ذلك لا يتمّ، كما أكدت مرارًا وتكرارًا بشكل كافٍ وواضح وحقيقيّ ونزيه، لمصلحة شعبها، أو محاولة العمل على الأقلّ، وهو ما يحدث  أيضًا في أوساط حركة "حزب الله" اللبنانيّة التي تحوّلت إلى عامل يتحكّم بالسياسة اللبنانيّة بكاملها ويعرقل عمليات الإنماء الاقتصاديّ، إضافة إلى كونها تشكّل "حجر الرحى" على عنق الدولة  اللبنانيّة، وتهديدًا دائمًا ينذر بتعرّضها لحرب قد تبادر إليها الحركة مع إسرائيل عمدًا، أو بسبب خلل، أو خطأ في الحسابات السياسيّة والعسكريّة، وهذا ما تفعله إيران التي تقف خلف الحركتين سابقتي الذكر، والتي رهنت مستقبل شعبها وشبابها واقتصادها ومواطنيها عامّة، لمصلحة السعي غير المجدي إلى امتلاك أسلحة نوويّة أثبت التاريخ أن الدول التي تملكها لا تستخدمها، وضحت لذلك باقتصادها ومستواها الأكاديمي، وعلاقاتها مع دول العالم والجوار، وتسبّبت بانهيار عملتها وكونها دولة منبوذة أحيانًا.

 

حال الحكومة  الحاليّة في إسرائيل، وهذا ما يخشاه كثيرون ويشير إليه مراقبون، ربما لا يختلف كما تشير التصريحات العلنيّة، وكما تؤكّد التناقضات بينها وبين المجريات على أرض الواقع، وبكلمات أدق الفارق الشاسع بين الوقائع العسكريّة على أرض المعركة وملخصها عدم تحقيق أهداف الحرب حتى الآن على الأقلّ، وربما استحالة تحقيقها حتى ومهما طال وقت الحرب، وبين  اللهيب الحارق للصريحات العلنيّة خاصّة تلك التي يطلقها رئيس الحكومة نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت، حول ضرورة استمرار الحرب دون صياغة أهدافها الحقيقيّة ودون حتى مجرد الحديث عن "ما بعد الحرب" وهو أمر يحدّد مجرياتها، ويشير إلى موعد نهايتها، أو انتهائها، أو ما يجب أن يحدث حتى تعلن الحكومة عن انتهاء الحرب،

 

فالحكومة الحاليّة وبقرار واضح من رئيسها ترفض البحث في قضية ما بعد الحرب، رغم أن هذا يتطرّق أيضًا إلى قضايا إعادة إسكان مئات آلاف المواطنين من الشمال والجنوب الذين تمّ إخلاؤهم،  وتحديد موعد عودتهم، وتعويض أصحاب المصالح التجاريّة والأجيرين وغيرهم، وتعويض المؤسّسات الصناعيّة وغيرها، عن الأضرار التي لحقت بها، وربما تعيين موعد لانتخابات برلمانيّة قريبة لا تبشّر الاستطلاعات حولها بأيّ خير، أو نصر لنتنياهو، وذلك كما يبدو لاعتبارات ائتلافيّة وسياسيّة ملخّصها السعي إلى عدم إثارة غضب الشركاء إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش،  والحفاظ على ائتلاف يقيّده ويمنعه من اتّخاذ قرارات واضحة تتطلّبها الحرب من جهة، وتمنع استمرارها وتحوّلها إلى وحل تغوص فيه إسرائيل وحرب استنزاف خطيرة للغاية، واستمرار التمسّك من جهة، بشعارات ملخّصها إيثار العسكرة والحرب حتى على قضيّة إطلاق سراح المخطوفين والرهائن من الجنود والمدنيّين، باعتبار العمليّات العسكريّة وما يسميانه "زيادة الضغط العسكريّ على حماس"، الوسيلة الأكيدة لإرغام "حماس" ويحيى السنوار على إطلاق سراح الرهائن، مقابل المعلومات الأكيدة   حول سحب وحدات عديدة من الجنود، من الاحتياط والخدمة الدائمة، من قطاع غزة عامّة وشمالها خاصّة،

 

والإعلان عن انتقال الحرب إلى مرحلتها الثالثة، أي من الحرب الدائمة واليوميّة إلى مرحلة العمليّات العسكريّة النوعيّة والموضعيّة، بمعنى تخفيف الضغط العسكريّ، وتخفيف الضغط على قادة "حماس" وبالتالي ، وعلى النقيض من التصريحات، إبعاد أو إرجاء أي إمكانيّة، أو احتمال لإطلاق سراحهم بفعل النشاطات العسكريّة، وليس عبر نشاط دبلوماسيّ وفق معادلة " الكل مقابل الكل" أي وقف الحرب مقابل إطلاق سراح كافّة الرهائن، ناهيك عن أن تخفيف عدد الجنود والوحدات العسكريّة في قطاع غزة، وكما يؤكّد المراقبون العسكريّون، يتيح عودة المواطنين الفلسطينيّين إلى شمال قطاع غزة وبضمنهم ربما مسلّحون من "حماس" ما سيطيل أمد الحرب، ويزيد من أخطارها وأعداد ضحاياها، خاصة مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الأوضاع في جنوب القطاع أسوا وأخطر، وهذا ما يزداد خطورة على ضوء انعدام الرؤية السياسيّة لما بعد الحرب، وامتناع إسرائيل عن طرح أيّ رؤية، أو اقتراح سياسيّ ذات صلة، وهو ما قال عنه وزير الأمن ورئيس هيئة الأركان ، أنه سيؤدّي إلى خسارة وفقدان الإنجازات العسكريّة والأمنيّة التي حقّقها الجيش الإسرائيليّ في شمال القطاع، مع الإشارة وبشكل يثير الاستهجان إلى تصريح وزير الأمن  إلى أن المرحلة الثانية من الحرب انتهت، وأن المرحلة الثالثة، والأخيرة، ستنتهي قريبًا.

 

الابتهاج بالحرب من قبل السياسيّين، وتسخير كافة المقوّمات لضمان الدعم لهذا التوجه الذي يطالب بمواصلة الحرب، يؤكّده سلّم أولويّات الحكومة كما يظهر من ميزانيّة الدولة للعام 2024 والتي أقرتها الحكومة هذا الأسبوع تمهيدًا لنقاشات حولها في لجنة الماليّة البرلمانيّة، ومن ثمّ التصويت عليها في الكنيست، فالرغبة في دعم مطالب وتوجّهات وزراء الائتلاف الأصليّ اليمينيّ، والامتناع عن تقليص ميزانيّات وزاراتهم سواء تلك المتعلّقة بدعم طلاب المعاهد الدينيّة، أو المستوطنين أو ميزانيات الوزارات التي تم تشكيلها خاصّة لتوفير احتياجات الائتلاف اليمينيّ، ومنها وزارات شؤون التراث اليهوديّ ووزارة المهامّ القوميّة (الاستيطان)  ووزارة شؤون القدس والهويّة اليهوديّة وحماية النقاط الاستيطانيّة غير القانونيّة، كانت أولويّة رئيس الوزراء والتي عارضها وزراء المعسكر الرسميّ الذين انضموا إلى الحكومة بسبب الحرب، وهي التي لم تجرؤ الميزانيّة، أو وزارة الماليّة على أيّ مسٍ بها، مقابل تقليص الميزانيات المتعلّقة بالتعليم الأكاديميّ والبنى التحتيّة  والمواصلات والتربية والتعليم، والخدمات الاجتماعيّة والثقافة والرياضة وغيرها من الوزارات التي تقدّم الخدمات اليوميّة لكافّة المواطنين، وليس لفئات دينيّة، أو أيديولوجيّة يمينيّة يريد نتنياهو ضمان بقائها ضمن حكومته،

 

وإلى ذلك تضاف حقيقة ومعطيات خطيرة للغاية تفيد بأن ميزانيّات الوزارات سابقة الذكر والتي يشغلها وزراء من الليكود خاصّة، تم تقليصها بنسبة 5% للعام الحالي 2024 فقط، لكن الميزانيّات المخصّصة للمجتمع العربيّ تمّ تقليصها بنسبة 15% ولمدّة ثلاث سنوات متتالية ، بما فيها تلك المخصّصة لوضع حدّ لتفاقم مظاهر العنف والجريمة والتي أوقعت العام المنتهي نحو 250 ضحيّة،  أو تلك المخصصة للحماية من أخطار الحرب وتوفير الملاجئ الضروريّة في وقت الحرب والخدمات الاجتماعيّة والنفسيّة المتعلقة بذلك، أو تلك التي تهدف إلى إقامة مناطق صناعيّة وتوفير أماكن عمل في البلدات العربيّة، أو حتى ميزانيّات تحسين المواصلات العامّة التي تسهِّل عملية مشاركة النساء العربيّات خاصّة والمواطنين العرب عامّة ، في سوق العمل والإنتاج في كافّة المرافق،

 

رغم المعطيات الواضحة التي نشرها بنك إسرائيل، والتي تشير إلى أن كل استثمار في المجتمع العربيّ، هو استثمار تستردّه الدولة بشكل مضاعف خلال عاميّن، أو أنه استثمار يعود بالفائدة المضاعفة من حيث المبالغ المستثمرة، وهو معطىً يزداد قوّة مقارنة بتقليص أقل بستّة أضعاف لميزانيات مخصّصة لفئات سكانيّة غير منتجة منها طلاب المعاهد الدينيّة الذين تقلّ مشاركتهم في الناتج الاقتصاديّ، ويرفضون الخدمة العسكريّة، وهي كلّها خطوات تثير أسئلة قاسية حول  نوعيّة ومنطلقات السياسات الحكوميّة كلّها، وحول كون قراراتها تشكّل انعكاسًا تامًّا لتركيبتها الائتلافيّة، وكون ميزانيتها تخدم هذه التركيبة، التي تكرِّس الحرب الحاليّة وتبتهج بها، كلّ لغاياته بدءًا من ضمان البقاء السياسّي حتى العودة إلى الاستيطان في غزة، وغيرها.

 

خلاصة القول مرحليًّا على الأقل ، أنها حرب بعكس سابقاتها يزداد مصيرها غموضًا كلما زادت أعداد أيامها، وأنها تحمل أهدافًا فضفاضة وسلسة، بل مطّاطة تجعلها تبدو أهدافًا قريبة لمن أراد إقناع نفسه بأنها كذلك، أو بعيدة المنال لمن أراد إقناع نفسه أنها كذلك.

 

وهنا خطورتها فهي غير قابلة للحكم عليها، أو غير قابلة لنقاش موضوعيّ يستند إلى حقائق، فالأهداف بالنسبة لمن يريد استمرار الحرب واضحة وهي القضاء على "حماس"، والأهداف لمن يريد أن تكون للحرب  أهداف يمكن قياسها وفحصها وتحقيقها وبالتالي اتّخاذ قرار حول متى وكيف تنتهي الحرب ، غير واضحة رغم صياغتها على شاكلة "القضاء على حماس" فهذا في عرفه نصّ فضفاض أقرب إلى الضريبة الكلاميّة والشعارات غير الواضحة، بل ربما السياسيّة وليس العسكريّة العملياتيّة التي تتطلّب تفاصيل أوضح للعيان، تمكّن قادة الحرب من قياس مدى قربهم، أو بعدهم عن تحقيقها، كما أنها حرب لا يفكر قادتها بما بعدها أو اليوم التالي، وهذا نذير ربما بأنها حرب مفتوحة، نعرف متى وكيف بدأت ولن نعرف كيف  وبماذا ومتى ستنتهي،

 

وهنا يحضرني قول الخبير العسكريّ والإستراتيجيّ البريطانيّ الشهير ليدل هارت، وهو واحد من أكبر الخبراء العسكريّين على مرّ التاريخ، أن "هدف الحرب هو خلق حالة سلام أفضل- حتى لو كان ذلك من وجهة نظرك فقط، ولذلك من الضروري عند شنّ أيّ حرب أن يكون هناك تركيز مستمرّ على السلام الذي تريده" ، أي أن الحرب يجب أن يرافقها تفكير مليّ وحقيقيّ بما سيليها، أي أن تكون وسيلة لتحقيق هدف ما، لا أن تتحوّل إلى هدف وغاية بحدّ ذاتها، فهذا هو الخطر بعينه، وهو خطر يزداد كلما زادت سيطرة رجل واحد على مقاليد الأمور ومواقع اتّخاذ القرار، فعندها لا تكون القرارات قرارات موضوعيّة، بل قرارات يمليها رجل واحد هو صاحب القول الفصل- وإن لم تكن القرارات الأكثر حكمة،ً أو صحةً أو فائدة- أو كما  قال الحكيم  سوفوكليس بأنه لا تكون الدولة دولة إذا كانت ملكًا لفرد واحد،  أي أنه ربما لا تكون قراراتها صحيحة وللمصلحة العامّة، وعندها تصبح كافّة القرارات موضع شكّ وتأويل. فهل هذا ما يحدث، أو أننا نرى بأمّ أعيننا القول المشهور :

متى يبلغ البنيان يومًا تمامه     إذا كنت تبنيه وغيرك يهدمُ

 

תגובות

מומלצים