وهل في هاغ عادت الحياة إلى مبدأ حلّ الدولتين؟!

حتى وإن اتّضح أن القرار غير المسبوق لمحكمة العدل الدوليّة، من يوم الجمعة السادس والعشرين من يناير 2024، والذي تطرّق إلى الحرب الدائرة منذ أربعة أشهر في غزة، كان نتاجًا لأمر حدث، أو يحدث لمرّةٍ واحدة، ولن يتكرّر

03.02.2024 מאת: المحامي زكي كمال
وهل في هاغ  عادت الحياة إلى مبدأ حلّ الدولتين؟!

أو كان حدثًا سيتكرّر، وهو مشاركة إسرائيل في جلسات هذه المحكمة، والتي أقيمت أساسًا بعد الحرب العالمية الثانية، وبفعل حالة تخصّ دولة إسرائيل خاصّة والشعب اليهوديّ عامّة، وهي محاولة منع تكرار عمليّات إبادة الشعب، أو محاولة إبادة شعب ما، وبغضّ النظر عن ماهيّة القرارات الصادرة عنها، والتي اعتبرها الطرفان الإسرائيليّ والفلسطينيّ، ومعه كلّ من توجه إلى المحكمة، ومن أيّدها وطالب إسرائيل بوقف إطلاق النار،  وبقدرة قادر،

أو بفعل فاعل قرارات إيجابيّة وجيّدة، بل اعتبرها الطرفان كلّ من منطلقاته نصرًا له وخير دليل على صحّة تصرّفاته وتوجّهاته، أو ربما هذه طبيعة القرارات الدوليّة قضائيّة كانت، كقرارات المحكمة الدوليّة الحاليّة، أو سياسيّة كقرارات الأمم المتّحدة المتعلّقة بالنزاعات الشرق أوسطيّة، وفي مقدّمتها النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، وتحديدًا قرار242  الذي اعتبره العرب والفلسطينيّون ملزمًا لإسرائيل،

ويضمن انسحابها من كافّة الأراضي التي احتلتها عام 1967، واعتبرته إسرائيل بحكم صيغته الأساسيّة، أو الأصليّة باللغة الفرنسيّة غير ملزم وينصّ على الانسحاب من أراضٍ تمّ احتلالها عام 1967، أو القرار 1701 الذي اتّخذته الأمم المتحدة ومجلس الأمن بعد حرب لبنان الثانية، والذي اعتبرته إسرائيل- للمفارقة هذه المرّة- ملزمًا ويجب تنفيذه، بل نفّذته، بينما اعتبرته حركة "حزب الله" غير ملزم، ولم يمنعها على أرض الواقع، من العودة إلى الحدود الدوليّة، ومكوث مسلّحيها قرب الحدود الدوليّة، فإن هذه القرارات وما سبقها تشكّل حدثًا هامًّا على الصعيد الإقليميّ والدوليّ،

خاصّة وأنها تشكّل التأكيد الذي لا يقبل التأويل على أن للمحكمة صلاحياتها، وأن إسرائيل والتي امتنعت في السابق عن المشاركة في جلسات ومداولات محكمة العدل الدوليّة، رغم أن بعض القضايا المتعلّقة بها كانت مدار بحث في المحكمة، ومنها قضيّة الجدار الفاصل، ناهيك عن أنها تأكيد جديد لمن أراد ذلك، أن إسرائيل في هذا السياق، ويقينًا ليس عن طيب خاطر، بل بحكم الظروف وخشية العواقب الدوليّة لما تتخلّله النشاطات العسكريّة الإسرائيليّة في القطاع،

تعترف ربما للمرة الأولى أنها دولة كباقي الدول، وأنها تقع تحت طائلة القانون الدوليّ والقرارات الدوليّة. وأن هناك إمكانيّة لإلزامها بتنفيذ قرارات ما تتّخذها المؤسّسات الدوليّة، بل أكثر من ذلك فإسرائيل بردود فعلها على قرارات المحكمة تعترف لأوّل مرّة، منذ إقامتها منذ العام 1948، أنها بحاجة إلى دعم وحماية المؤسّسات الدوليّة التي اعتادت اعتبارها معادية لها. وكم بالحري محكمة العدل الدوليّة التي هلّلت إسرائيل فرحًا لجزئيّة أساسيّة في قرارها،

وهي رفض واضح لطلب توقيف الحرب، أو القتال في غزة، لكنها قرّرت أن بعض اعمال إسرائيل تستوجب التلويح ببطاقات التحذير والتنبيه، والمطالبة بأن تفتح إسرائيل عينيها على مصراعيها، وأن تمنع أيّ تصريحات، أو تفوّهات تمجّد القضاء على الفلسطينيّين في غزة، أو طردهم أو إبعادهم، أو تطالب بترحيلهم، مؤكّدة أنها، أيّ المحكمة، ترفض التبريرات الإسرائيليّة التي تدَّعي أن هذه التصريحات حتى وإن صدرت عن مسؤولين إسرائيلييّن بارزين، منهم وزراء ونوّاب لرئيس البرلمان، فإنها لا تعكس السياسة الرسميّة للدولة.

وأنّ الحديث عن ترحيل الغزيّين، وإعادة احتلال القطاع واستعادة عهد المستوطنات، أو الاستيطان اليهوديّ هناك، والذي تمّ تتويجه بمؤتمر في مدينة القدس منتصف هذا الأسبوع، شارك فيه وزراء ونوّاب من  "الليكود "الحزب الحاكم، والأحزاب اليمينيّة والمتديّنة، تمّت تسميته باسم" مؤتمر النصر"، لا تتعدّى كونها تصريحات غير رسميّة، فالمجلس الوزاريّ المصغّر هو المخوَّل الوحيد باتّخاذ القرارات في هذا الشأن، وهذا تنبيه انتقدته إسرائيل، واعتبرته انتقادًا معيبًا.

 


قرارات المحكمة، والتي سارعت إسرائيل علنًا إلى انتقادها معتبرة إياها بأنها تحوّلها وهي  الضحية إلى معتدٍ، وتجعل المعتدي الذي اقتحم أراضيها، وقتل مواطنيها ونفّذ فظائع بحقّ المدنيين وأطلق الصواريخ على المدن المختلفة، أي حركة "حماس" ضحيّة يجب حمايتها، واعتبار  المدنيّين في غزة، الذين يدعمون في نظر إسرائيل، الأعمال التي نفّذها المسلّحون في السابع من أكتوبر عام 2023، وبالتالي فكلّهم في نظر إسرائيل،

مشاركون في الأعمال العسكريّة، ويمكن أن تشملهم تبعات الأعمال العسكريّة في غزة، والتي اسفرت حتى اليوم عن مقتل نحو 30000 فلسطينيّ غالبيتهم العظمى من المدنيّين ، أبرياء يحميهم القانون الدوليّ، ويعاقب من يمسّ بهم، هي قرارات أجزم أن دراستها المعمّقة تتمّ في الأروقة السياسيّة والعسكريّة والقضائيّة والحزبيّة الإسرائيليّة،

حتى أن بعضها ولحظة صدور القرارات أعلن أنها أفضل ممّا توقعته إسرائيل، بمعنى أن النتيجة فاقت التوقّعات، وأن الحيثيّات المتوفّرة، حتى في نظر إسرائيل، كانت قريبة من أن تشكّل الأساس الكافي لإدانتها بمحاولة إبادة شعب، ورغم أن القرارات أشارت إلى خطورة التصريحات حول الإبادة، أو خطورة قيام البعض بإطلاق عبارات تشرعن الإبادة. وهو ربما تأكيد على نية مبيَّتة لتنفيذها، أو تفكير بهذا الاتجاه، وبالتالي فإنه من الواجب دوليًّا وقضائيًّا استنتاج العبر اللازمة والضروريّة من هذه القرارات،  خاصّة الاستنتاجات المتعلّقة بتوسيع نطاق، أو نهج الأوامر التحذيريّة المتدرّجة التي يمكن للمؤسّسات الدوليّة إعطاؤها،  ومن ثم تنفيذها في قضايا تتعلّق بالقانون الدوليّ.

 

 

وهو قانون يمسّ كافّة مناحي العلاقات بين الدول والجماعات المتنازعة،  أي إصدار قرارات مؤقّتة تشكّل "بطاقة إنذار" تلزم الدول بتحسين وتصحيح مسارها وتصرّفاتها إذا ما أرادت الامتناع عن تعريض نفسها للعقوبات الدوليّة والقرارات العقابيّة الملزمة، وهو ما فعلته المحكمة، التي كانت قراراتها ، واضحة قانونيًّا وحكمًا وجوهرها،  تنبيهًا خطيرًا وتحذيرًا قطعيًّا  حيث أدانت هذه القرارات إسرائيل بالمسّ بالمدنيّين والأبرياء، وتغذية خطاب التحريض على الإبادة الجماعيّة، كما وحمّلتها مسؤوليّة تعريض حياة  الفلسطينيين للخطر  بشكل ممنهج،

ومنحها شهرًا لتقديم الأدلّة التي تثبت التزامها بالمحاذير والمعايير الدوليّة المتعلّقة بذلك، فالقرارات جاءت بشبه إجماع تامّ وبأغلبيّة 15 - 16 صوتًا مقابل صوت واحد فقط أيّدوا إلزام إسرائيل باتّخاذ التدابير الكافية وبمختلف الوسائل،  لمنع التحريض لارتكاب إبادة جماعيّة بحقّ الفلسطينيّين في غزة، موضّحة أنه على إسرائيل اتّخاذ جميع الإجراءات لمنع  الدعوات للإبادة الجماعيّة في القطاع، إضافة إلى الامتناع عن تنفيذ،

أو ارتكاب أيّ أعمال تسبب الإبادة الجماعيّة للفلسطينيّين بقطاع غزة، مع التزام إسرائيل بإيصال كافّة المساعدات الإنسانيّة ودون عرقلة لجميع السكان المدنيّين، وإلى هذا أضافت المحكمة" عقوبة" مؤقّتة  تهدف إلى إجبار إسرائيل على تنفيذ قراراتها، هي تقديم تقارير خلال شهر تؤكّد التزامها بالقرارات، وهذا في نظر البعض مأزق وضعت المحكمة فيه إسرائيل، مقدّمة ربما لمأزق آخر،

سببه إحالة القرارات التي أصدرتها محكمة العدل الدوليّة، من قبل الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن ، وهو ما يضع إسرائيل ومعها الولايات المتحدة على المحكّ، خاصّة وأنه من الواضح أن الولايات المتحدة سوف تستخدم حق النقض "الفيتو" ضدّ أي قرار في مجلس الأمن الدوليّ، ما سيضعها بمواجهة المحكمة الدوليّة من جهة، والدول التي صوَّت أعضاؤها إلى جانب القرارات التحذيريّة التي تطالب إسرائيل بإيضاحات وتوضيحات واجابات، علمًا أن من الواضح بأن المستشارين القانونيّين في البيت الأبيض  ووزارة الخارجيّة الأمريكيّة يعكفون دون شكّ، ومنذ اتّخاذ القرارات وصدورها يوم الجمعة الأخير، على دراستها  وتحليلها،

وبالتالي إطلاع الرئيس الأمريكيّ  جو بايدن، ومعه وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القوميّ جيك سوليفان، على معانيها ومغازيها، وربما كما يعتقد البعض تحذيرهم من الأبعاد المترتّبة على  استخدام حقّ الفيتو، والتداعيات السياسيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة والقانونيّة المترتّبة على ذلك.

 


على الأرض، وبعيدًا عن التصريحات السياسيّة التي تجانب الواقع والحقيقة أحيانًا كثيرة، فإن قراءة موضوعيّة لقرار محكمة العدل الدوليّة، تثبت أنه ليس نصرًا بائنًا ولا هزيمة مطلقة لأيّ من طرفي الحرب الحاليّة، بل إنه يشكّل بحياديّته ووسطيّته،  نوعًا من الضغط على الطرفين الاسرائيليّ والفلسطينيّ،  فمن ناحية حكومة إسرائيل تمثّل " النصر" برفض المحكمة طلب جنوب إفريقيا وقف الحرب مباشرة على أرضيّة إدانة ارتكاب إسرائيل إبادة جماعيّة بحق الفلسطينيّين، وبالتالي لم تشمل  قرارات  محكمة العدل طلب وقف إطلاق النار في غزّة،

ما يعني أن بإمكان إسرائيل مواصلة عمليّتها العسكريّة الراهنة في القطاع، وكلّ ذلك إلى جانب اتّخاذ ما يلزم لمنع التحريض على الإبادة الجماعيّة، وممارسة تدابير فعّالة للسماح بمزيد من المساعدات الإنسانيّة إلى القطاع،

والاحتفاظ بكلّ الوثائق والمستندات الموجودة لديها فيما يتعلّق بالحرب على غزة، هذا إضافة إلى الأبعاد الأخرى التي تترتّب على قرارات المحكمة، وبأبعادها الإسرائيليّة الداخليّة، والتي تتعلّق بشكل أو بآخر بهويّة من اختارته إسرائيل لتمثيلها أمام المحكمة والدفاع عنها وهو القاضي أهارون باراك، الذي اعتبرته الحكومة الحاليّة عدوًّا حاول أعضاؤها تشويه سمعته، وطالبوا بزجّه في السجن، واعتبروه أقسى أعداء اليمين الإسرائيليّ، وشنّت ضدّه وضدّ ميراثه القضائيّ حربًا شعواء، أرادوا منها أن تنتهي إلى تغيير تركيبة الجهاز القضائيّ،

ليصبح طائعًا راكعًا خنوعًا، يمجّد توجّهات اليمين، ويعتبر حرية الفرد توصية غير ملزمة، وحقوق الأقليَّات مِنَّةً من السلطان وليس حقًّا ديمقراطيًّا، لكنّهم اضطرّوا، في تحقيق للعدالة التاريخّية، إلى الاستنجاد به، لإنقاذهم من عواقب ما ارتكبت أياديهم وأفواههم، ولا شكّ أن بصمات القاضي أهارون باراك والذي كان قد دافع، ولو دون حضوره جسديًّا حتى في قضية الجدار الفاصل، عن إسرائيل كانت وما زالت ماثلة وواضحة في القرارات التحذيريّة التي تمّ إعلانها،

أو تحديدًا  القرار الذي لم تتّخذه المحكمة وهو وقف اطلاق النار الفوريّ، أو بعد مدّة، وهو أمر يؤكّد لمن أراد، أن على الحكومة الحاليّة أن تنسى إلى الأبد قضيّة الانقلاب القضائيّ، التي يعني استمرار تنفيذها إزاحة اللثام عن ادّعاء  الوجه المستقلّ لجهازها القضائيّ، وبالتالي لن تتمكّن إسرائيل من مواصلة ادّعاءاتها المتعلّقة باستقلاليّة القضاء،

وكون إسرائيل دولة ديمقراطيّة يراقب القضاء قرارات حكومتها وبرلمانها وتفوّهات مسؤوليها وتحركات جيشها  وعمليّاته العسكريّة، ويضمن أنها تتم وفق قواعد القانون الدوليّ، وأن المدنيّين وغير المتورّطين في الحرب يحظون بالحماية، وكذلك بالتموين الغذائيّ والطبيّ والمعونات الإنسانيّة، وأنها بعكس ما كان وبعكس ما يفرضه ميراث ووجود القاضيّ أهارون باراك، لن تستطيع أن تلوِّح بقضائها المستقلّ، ولا بنظامها الديمقراطيّ، أمام الهيئة القضائيّة الدوليّة الأعلى في العالم.

 

 

هذا إضافة إلى أن وجود القاضي باراك وسمعته وكذلك تصويته ربما إلى جانب "القرارات التحذيريّة" في حالتين على الأقل ، كانت أمورًا أقنعت القضاة بعدم إصدار أوامر فوريّة لوقف إطلاق النار من جهة، وعدم قبول الطلب الجنوب أفريقيّ حول قضيّة الإبادة الجماعيّة،

وهو جزئيّة ساهمت فيها خطوات نفّذتها إسرائيل التي سلّمت المحكمة وثائق تضمّ 30 رسالة تعليمات كانت وزّعتها على الضباط والجنود منذ اليوم الأوّل للحرب، تشمل تعليمات حول عدم المسّ بالمدنيّين،

أو المنشئات العامّة، إلا إذا اتّضح أن هناك استخدامات عسكريّة لها، ورغم ما سبق لا بدّ من السؤال حول الاستنتاجات السياسيّة، أو الإجرائيّة التي استخلصتها إسرائيل من هذه القرارات، أي هل ستعتبر هذه القرارات مجرّد توصيات وتحذيرات معتدلة ومتّزنة لا طائل من ورائها، ولا خوف منها، أم  أنها تدرك حقًا خطورة هذه القرارات باعتبارها قد تشكّل في حالات ما،

مقدّمة لجلسات أخرى لاحقة للمحكمة يتمّ فيها بحث قضيّة الإبادة الجماعيّة بسرعة خاصّة، إذا لم تلتزم إسرائيل بتقديم الأدلّة الكافية والإجابات الشافية التي طلبتها المحكمة، وذلك على ضوء ما جاء في قرار المحكمة، تلميحًا وتحذيرًا من أن هناك أدلّة وإشارات أوليّة تشير إلى أن إسرائيل تخرق قواعد القانون الدوليّ،

وتحديدًا تعليمات الميثاق الدوليّ الذي يحظر إبادة الشعوب. وهو ميثاق كانت إسرائيل بين الموقّعين عليه، وهل تفهم إسرائيل أن الواجبات التي يحتّمها هذا الميثاق، تعني أنه يحظر على إسرائيل أن تقوم بأعمال عسكريّة في غزة هدفها إبادة السكان، أو خلق ظروف معيشيّة تؤدّي إلى الإبادة، بمعنى خلق المجاعة والأوضاع الصحيّة الخطيرة التي تمكِّن من انتشار آفات خطيرة وفتّاكة، أو إلى نزوح المدنيّين وترحيلهم، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن خطورة الأوامر التي أصدرتها المحكمة لا تتوقّف عند مضمونها سواء كانت معتدلة أو خطيرة،

بل تصل حدّ ما يعنيه ذلك من معانٍ وأبعاد على الساحة الدوليّة، أو في الوعي الدوليّ، من إشارات إلى أن إسرائيل  قد تقترب، أو تكاد أن تمارس إبادة جماعيّة في قطاع غزة، وهو ما يمكن أن يشجع عدد من الدول على اتخاذ خطوات عقابيّة بحقّ إسرائيل، أو شركات وشخصيّات إسرائيليّة، وتليها عقوبات إضافيّة غير مسبوقة، خاصّة وأن مجرّد النظر من قبل المحكمة في دعوى جنوب أفريقيا، يعني أن محكمة العدل الدوليّة تؤكّد أنه ضمن صلاحيّاتها النظر في الشكاوى المقدّمة حول النشاطات العسكريّة والإبادة الجماعيّة،

وأنه يحقّ لها مراقبة تصرّفات وخطوات الجيش للتيقّن من أنه لا يرتكب أعمالًا كهذه، وكلها معطيات تلزم إسرائيل بمزيد من الحذر ومراجعة الذات، وتغيير التوجّهات السياسيّة من جهة والمعايير العسكريّة من جهةٍ أخرى. وهو ما يمكن وصفه اليوم بأنه" وصمة عار تسويقيّة أو معنويّة" على جبين إسرائيل، سيشكّل بالنسبة لمناوئي إسرائيل حالةً يُمكنُ استغلالها ، للمسّ بها، أو لمحاولة إلحاق الضرر بها، عبر حملات مقاطعة وعقوبات دوليّة ومحاولة عزلها ووصمها بالإبادة الجماعيّة وارتكاب مخالفات تنافي القانون الإنسانيّ والدوليّ، وبالتالي تجعل إمكانيّات التطبيع مع دول عربيّة إضافيّة، وفي مقدّمتها السعوديّة، التي رحّبت بالقرار ودعت إلى محاسبة إسرائيل، وأكّدت تأييدها لقرار محكمة العدل الدوليّة،  أمرًا بعيد المنال، أو يقلّل من شدة الدعم الأمريكيّ له،

كما يؤدّي إلى تجميد التحرّكات الهادفة لتعزيز التطبيع مع دول عربيّة كانت مساعيه قد بدأت، ومنها مثلًا السودان التي أعلنت تجميد نشاطات التطبيع، وحتى الإمارات التي تقدّمت مرّتين إلى مجلس الأمن الدوليّ بشكاوى ضدّ إسرائيل، وكلّ هذا قبل أن نشير إلى أن قرارات محكمة العدل الدوليّة، وهي محكمة يمكنها اتّخاذ خطوات عقابيّة بحقّ دول فقط، قد تمهّد الطريق أمام الشقيقة، محكمة الجنايات الدوليّة، لاتّخاذ عقوبات بحقّ أفراد المسؤولين العسكريّين، أو السياسيّين، أو غيرهم، كما حدث سابقًا، بل  إن القرارات هذه تجعل مهمّة محكمة الجنايات الدولية أسهل وأبسط، بل إنها ربما تحتّم عليها ذلك، وربما سيضطرّ هذا الجيش لتغيير خططه، وتخفيف ضرباته كما ستضطرّ الحكومة، إلى تغيير سياساتها، وسيضطرّ السياسيين إلى "كم افواههم" والامتناع عن إطلاق التصريحات الرنانة والتهديدات المتتالية والمتواصلة، بحقّ الفلسطينيين في غزة، والممارسات في الضفة الغربيّة على صعيد الاستيطان والممارسة العسكريّة.

 


فلسطينيًا، جاء القرار "محايدًا" فالنصر فيه، كما تراه "حماس" هو مجرّد بحث الموضوع وإصدار القرارات التحذيريّة، وإلزام إسرائيل بتقديم تقارير وكشوفات على ممارساتها، بمعنى عدم إطلاق يدها خلال العمليّات العسكريّة، وبالتالي اعتبرت حركة "حماس " أنّ قرار محكمة العدل الدوليّة يعدّ تطوّرًا مهمًّا يسهم في عزل إسرائيل وفضح تصرّفاتها، لكنّ "الهزيمة" تجلّت في عدم قبول موقف "حماس" ودعوى جنوب أفريقيا لوقف الحرب على أرضيّة الإبادة الجماعيّة، ناهيك عن مطالبة الحركة بإطلاق سراح الأسرى خاصّة من المدنيّين واحترام حقوقهم، إذ جاء في  قراراتها التأكيد على أنّ جميع أطراف النزاع في قطاع غزة مُلزَمة بالقانون الدوليّ الإنسانيّ، وقلقها على مصير الرهائن الإسرائيليّين الذين اختُطفوا  في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 واحتُجِزوا من قبل حماس والجماعات المسلّحة الأخرى منذ ذلك الحين. وفوق كلّ ذلك تدعو إلى إطلاق سراحهم فورًا دون قيد أو شرط، علمًا أن السلطة الفلسطينيّة قالت إن قرارات محكمة العدل الدولية تذكر العالم أن لا دولة فوق القانون، وأن العدل يسري على الجميع، ويضع حدًّا لظاهرة إفلات إسرائيل  من العقاب، على ما ألحقته بالفلسطينيّين من احتلال .

 


ختامًا، وبعد أن ينقشع غبار المعركة القضائيّة في هاغ، وقبل أن يجف الحبر الذي خُطَّتْ به هذه القرارات، وهي غير مسبوقة وربما مصيريّة، يبقى السؤال الأهم، وهو هل ستؤدّي هذه القرارات والنقاش الذي شهدته المحكمة، وشاركت فيه إسرائيل ما يشكّل اعترافًا بصلاحيّة المحكمة لا يمكن التراجع عنه، إلى تغييرات في السياسات، أو إلى إعادة النظر في السياسات، والاقتناع بأن الحلّ العسكريّ غير ممكن، وأنه لا يضمن إلا المزيد والمزيد من الحروب وسفك الدماء والضحايا، وهل سيؤدّي النقاش القضائيّ إلى مبادرات سياسيّة إقليميّة كانت أولاها، أو "أول غيثها"  ما رشح عن مخطّط، أو مقترح لخمس دول عربيّة ينصّ على سلام وحلّ للدولتين مقابل تطبيع وعلاقات دبلوماسيّة مع المملكة العربيّة السعوديّة وشرق أوسط جديد. وهو الدليل على صحّة ما قلته منذ اندلاع الحرب من أنها أعادت إلى الطاولة وبقوّة أكبر حلّ الدولتين،

وهو ما يعبر عنه تصريح لوزير خارجيّة بريطانيا ديفيد كاميرون، بأن بلاده قد تعترف مع دول أخرى بدولة فلسطينيّة، كجزء من المساعي الرامية إلى إنهاء الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ وإحلال السلام، وفق مبدأ حلّ الدولتين الذي تريده الولايات المتحدة والدول الأوروبيّة كلّها بما فيها تلك التي أيّدت في بداية الحرب إسرائيل، ودون أيّ تحفظ، ومنها فرنسا وألمانيا وغيرها ، وبالتالي هل يمكن استعارة قول زئيف بنيامين هرتسل المشهور:" في بازل أسّست دولة اليهود" ، والقول:" في هاغ انطلق اعتراف الدول الغربيّة بدولة فلسطين، أو عادت الحياة إلى حلّ الدولتين"؟؟

 


لتحقيق ما سبق يتحتّم وجود قيادات  في الطرفين الإسرائيليّ والفلسطينيّ، تتحلّى بالشجاعة السياسيّة والشخصيّة والقيميّة، تتحدّث إلى شعبها، وإلى غيره بلغة واحدة  وبوجه واحد، ودون شعارات غوغائيّة تهدف إلى مكاسب آنيّة وسياسيّة، بل تتوافق مع المصالح القوميّة، قيادات يمكنها اتّخاذ قرارات مصيريّة ، وعرض حلول ومقترحات دون التمترس في خانة" اللا " وجبهة الرفض،  تقدس الحياة، وتعتبر السلام خير وسيلة، ترفض التضحية بالغير على مذبح "الأنا"، يحرّكها الإيثار والاهتمام بالمصلحة القوميّة، قيادات حقيقيّة وواضحة، ظاهرها وباطنها واحد، وليس وفق التعريف" دكتور جايكل ومستر هايد"  أي ظاهريًّا مثقّفة وقويّة وشجاعة تريد الحياة، وحقيقةً عنيفة ومتهوّرة تستخدم القوة وتدوس الغير ....فهل هذا قائم؟؟ ... الجواب واضح ..

 

תגובות

מומלצים